أحجية اللّوح اللّاتيني
في مكان قصيّ على سطح البسيطة. بعيدا عن منطق البشر وفلسفتهم، تكوّنت فكرة واستقرّت بين براثن أجمة مستترة من النّباتات الاستوائية المثيرة لهوس التّأمل والتّمعّن. كتابة لاتينيّة محفورة في لوح كساه النّدى والفصول بغطاء لزج من خضرة داكنة. مكان لا تطاله يد البشر أو هكذا يخيّل إلى الرّائي لمّا تطأ قدماه الجزيرة النّائية الوحيدة كجسم غريب انبثق من سراب.
خرجت من ذلك المكان. تجاوزت صخورا محدّبة وقواقع فوسفوريّة. ها أنا أهمّ بزرعها الواحدة تلو الأخرى. آثار الحذاء الجلديّ العتيد في ذلك المسلك الوعر تختفي أمامي بلا سبب. أنظر إلى الخلف وأقرّر المضي قدما.
قبيلة أفرادها متوحّشون لكنّهم لطفاء. في لطفهم خشونة وبدائيّة مفرطة. طاب لي المقام بينهم أيّاما. أقتات من أسماك النّهر عند انبلاج الصّباح. أحتفل معهم وأرقص متعمّدا بضوء قمريّ جليّ وطفقت أساير هذه الحياة الغريبة بشغف يشي بالحذر. كنت أروم المغامرة النّبيلة، تلك المعفّرة بروح الشّباب. بعيدا عن نمط مقزّز. والحال أنّني قد وجدت ضالّتي هنا. أشوي حبّات الكستناء ورأسي يتمايل ولعا بأسرار الجزيرة التي منحتني وقارا استوائيا وعنفوانا بهيجا. أتسلّق أشجار الباوباب وأوثّق صيد الأفاعي برسومات مستعملا دماء طريدة ما لأخطّ ما يحلو لي من مشاهد.
علّمت سكّان القبيلة لعب كرة القدم. بدا لي أّنّ بعض أفرادها قد أظهروا ملكة تعلّم سريعة ناهيك عن توفّر المكان المناسب لممارسة نشاطهم. كانت الكرة جلد ظبي ملفوف بشكل دائري. اللّاعبون حفاة ونصف عراة. نسوتهم يشجّعنهم على جانبي الملعب برؤوسهنّ الحليقة اللّامعة ورقابهنّ المحسورة بلولب من أغصان طريّة. ومع كلّ هدف.. كان الصّياح يضجّ المكان ضجّا وفرحة عارمة تهزّ الجميع.
لم يخطر لي أبدا أن ينظر إليّ أفراد القبيلة شزرا ذات صباح. لم أكن أضمر شرّا أو أناصب عداء لفتاة ملكهم. بل لم أكن أدري أنّها ابنة الملك. صوّبوا نحوي الرّماح والنّبال. قدموا فرادى وجماعات. عويل وزعيق لم أفقه ماهيته. كان كلّ شيء أشبه بكابوس. الواقع أنّني هممت بسؤال فتاة تملأ قربة ماء من النّهر حول أقرب طريق للخروج من الدّغل. ولمّا كان ما كان من سؤال. تمتمت بكلمات غير مفهومة وولّت هاربة.
لا أهتدي إلى طريق الخروج من هذا الدّغل الكثيف. هذا كلّ ما في الأمر. وغرابة هذه الجزيرة تكمن في مفاجآتها بمعنى أنّها جزيرة مشوّقة على نحو ما. وقفت لا أبدي حراكا بين هؤلاء المتأهّبين لطمري بالرّماح. كنت كمن أصيب بصدمة. أردّد صلواتي بلسان متلعثم ثقيل وأنا أحاول استحضار ما درسته عن حقيقة الموت وحبّ الحياة. وما لبثوا أن انسحبوا الواحد تلو الآخر وعادت تلك الفتاة لملء قربة الماء. مدهوشا بنجاتي.. التفتّ ورائي ومضيت قدما.
كنت موقنا بأنّ نهاية ما تحاصرني كسياج شائك. تلتفّ حولي ظلمة فاترة فلا أرى شيئا مثل تائه أعمى في سهول اللاّأدريّة. استحضرت فكرة من هول المأزق وهي أنّ النّهايات التي انتهت بها جلّ قصص وحكايات العالم لا تشبه النّهاية المحيطة بي. وهذه الفكرة قد جعلت ما أنا فيه لعنة على المقاس. لا أتحرّك. لا أرى. بيد أنّ سمعي بخير. صوت أنفاسي المختنقة يتردّد في أرجاء الهوّة العميقة. أمر رائع أن نكتشف حقيقة جديدة خلال مصيبة تحلّ بنا. لقد اكتشفت للتوّ أنّي عالق داخل هوّة ترابيّة باردة تفوح منها رائحة الرّطوبة العطنة. ولبثت أتحسّس جدرانها الملساء نابشا بأصابعي ما يخيّل إليّ أنّها نتوءات أو تشقّقات بغية التّشبّث بها.
وجدت صعوبة في الوقوف على قدميّ بعد السّقوط المفاجئ. كتفاي يؤلمانني وكفّ يدي اليمنى مجبول بخدوش دامية. لم تعوزني الإصابة من البحث عن خروج آمن. دخل خيط رفيع من النّور عبر أوراق تأكّدت بعدها أنّها لشجرة قيقب. المربك هنا أنّ الأشجار عادة ما تبدي لنا حنانا ملائكيّا كأن نحتمي بظلالها من قيظ شديد أو أن نختبئ تحتها من مطر منهمر. لكنّها الآن تعقّد مسألة خروجي من الهوّة وتحجب عنّي الضّوء ودون تردّد اعتبرتها لعنة رائعة من ضمن أخريات.
وصادف أن تتّخذ الشمس مكانها وسط السّماء لتتّضح الرّؤية وأتسلّق غصنا منسدلا والرّطوبة ما تنفكّ تحرق أنفي. وقفت لاهثا من التّعب أمام حفرة دائريّة غائرة في الأرض. شيء ما كساها بأغصان وأعواد مختلفة حتى اختفت تماما. ومثل من صدم إثر فرح. التفتّ خلفي ومضيت قدما.
السّاعة الآن.. لا أدري تماما. أذكر أنّني جدّفت بالقارب أواخر اللّيل حتى وصلت إلى ساحل صخريّ مع انبلاج خيوط الصّباح الأولى. لم أعر الوقت أدنى اهتمام عدا إحساسي بالجوع. ومردّ ذلك أنّني لم أتناول العشاء في اللّيلة الفارطة. كنت أنظر إلى المياه المتلاطمة من الباخرة وأنا أستعدّ للتسلّل إلى الجزيرة في غفلة من الجميع. اتخّذت لي مكانا مكشوفا وافترشت رمالا خشنة جالسا قبالة القارب الخشبيّ اللاّمع آكل وجبة الفطور. هجمت على المكان قردة خارجة من الدّغل. هربت. ليس خوفا من الموت غريبا في جزيرة مهجورة. بل استمرارا في سرد الحكاية. كنت مختبئا خلف جذع نخلة مرميّ على الشّاطئ. رأيت قردا ينبش في حقيبتي ويأكل ما تركته من فطوري. قردان آخران ذهبا إلى القارب. ورابع يصيح ويقفز وكأنّه ينبّههم إلى ذلك الآدمي الذي لا يزال قريبا ولم يبتعد. فكّرت هنيهة. كم فظيع أن ينتهي إنسان وجبة لقردة متوحّشة. الأمر يتوجّب الهرب حتما. المشكلة أنّني لا أفقه دروب المكان وأربعة قردة تترصّد بلا هوادة إنسيّا اقتحم مجالهم فجأة. ومهما يكن من أمر فقد ركضت باتجاه الدّغل وتهت في الغابة.
لم أستشنع أمر تسلّلي من الباخرة دون إذن من الرّبان رغم أنّ القانون يقضي باحترام الشّروط المعمول بها في الرّحلات الدّراسيّة. نظرت إلى قمّة الجزيرة ثمّ إلى الباخرة. حملت حقيبتي وعدت إلى القارب. جدّفت حتى كلّت يداي ووصلت إلى الباخرة. الغريب أنّ الجميع لم يخلدوا إلى النّوم. ألفيتهم مثلما تركتهم. صاخبين متنعّمين بجوّ استوائي دافئ. هتفت لي زميلتي… «أين كنت ؟ لقد غبت عن ناظري للتوّ. في الواقع كنت أدعوك لنلتقط صورة جماعية مع الأستاذة». غمغمت قائلا «أجل أجل.. أعلم. لا تشغلي بالك.. أنا قادم». تحسّست حقيبتي ثمّ فتحتها وأخرجت لوحا قديما نقشت فيه كتابة لاتينية. نظرت إلى الجزيرة وخيّل إليّ عبر الضّباب أنّ قردا يلوّح إليّ مخمّنا. «أيّها الآدميّ أعد إليّ لوحي وخذ سجائرك» وتذكّرت السّجائر ففتّشت عنها و لم أجدها.