أدبيات النوبة.. سرديات ضدّ القمع
حظيت المسألة النوبية بالكثير من الكتابات التي عبرت عن القمع الذي تعرّض له النوبيون من جرّاء التهجير الذي طال قراهم بسبب بناء خزان أسوان عام 1902 وما تبعه من التعلية الأولى عام 1912 والثانية عام 1933، انتهاء ببناء السد العالي عام 1960. ومن ثمّة حظيت السردية العربية بأدبيات غاية في الأهمية على مستوى الشكل والمضمون، تستحضر المأساة لا كنوع من التباكي أو حتى استدرار العطف، وإنما كنوع من الكتابة المضادة للقمع. ومن ثم أظهرت هذه المرويات حالة الانتماء والالتصقاء بالأرض، فغدا الرّجل ما أن يعود من غربته حتى “يحتضن القيراط والقيراطين، كما يحتضن الإنسان أطفاله أو معشوقته”، وفقا لتصوير محمد خليل قاسم في درة الأدب النوبي الشمندورة 1968، والتي كانت فاتحة الباب لمرويات متعددة راحت تجتر هذه المأساة من كافة الزوايا على نحو ما شاهدنا في مرويات حسن نور “بين النهر والجبل” 1991، وحجاج حسن أدوّل في “الكُشر” 1992، وإدريس علي في “دنقلة” 1993، ويحيى مختار في “تبدّد” 1993. إضافة إلى أعمالهم القصصية التي لم تخلُ هي الأخرى من بكائيات ومراث على الديار التي فارقوها جرّاء التعلية، وموقف الحكومة المجحف في التعويضات الهزيلة التي قدمتها لهم. ومن ثم صارت ومازالت القضية النوبية واحدة من الإشكاليات التي تواجه النظام السياسي في مصر، خاصة مع تجدُّد مطالبهم بالعودة إلى أراضيهم القديمة خلف الخزان.
عين الداخل
الأدبيات التي تناولت القضية النوبية، لم تقف عند إشكالية التهجير والمعاناة التي عاناها النوبيون من جرّاء الإقصاء الذي مارسته الحكومات المتعاقبة، بدءا من حكومات العهد الملكي، مرورا ببناء السد العالي في عهد عبدالناصر، ووصولا إلى ما بعد ثورة يناير 2011، حيث تجددت مطالبهم بالعودة أو التعويض العادل. فضلا عن هذا اشتغلت المرويات بتقديم صورة دقيقة مُقرّبة عن المجتمع النوبي، في كافة حالاته؛ أفراحه وأتراحه، وانتظار البوستة، والزواج من بنات الشمال، والأهم نقلت لنا الموروث الشعبي والتراثي فصارت أشبه بسجلات أدبية، حاوية لتاريخ هذه البقعة ثقافيا وتاريخيا وأيضا نضاليا. كما قدمت صورة لإنسان النوبة المناضل والمقاوم لكافة أشكال التجريف الذي مورس عليه، والمتشبث بالأرض، وإن كانت معظم الأدبيات جعلت منه الإنسان المقموع الذي تُمارس عليه كافة الانتهاكات، المعنوية بالتحقير ووصفه بنيجرو، والبدنية بالضرب والإيذاء الجسدي، من قامعه سيده في العمل.
تنوعت الصُّورة التي قدمتها السّرديات عن النوبة، بين النوبة القديمة كما تجلت في أبهى صورها في مروية محمد خليل قاسم “الشمندورة”، ومروية “بين النهر والجبل” لحسن نور، والنوبة الجديدة التي عبرت عنها مرويات إدريس علي ويحيى مختار وحجاج حسن أدّول، واستطاعوا عبر مروياتهم أن يمتثلوا للتراث النوبي والعادات والتقاليد فجاءت المرويات وكأنها لوحات فنية نابضة بالحياة وهي ترصد وتسجل لهذه العادات، أو تعكس لعلاقة الانصهار بين الإنسان وأرضه، في صورة أناس النوبة الذين يعشقونها إلى حدِّ التقديس، كما تسرد بعض هذه المرويات عن تاريخ النوبة القديم، وحكاية دخولها الإسلام، وغيرها من الأحداث التي تؤرّخ للمكان وتجعل منه بؤرة سردية بامتياز، بسبب اختلاف طبيعته الجغرافية الثرية إثنيا ولغويا؛ بسبب الهجرات من وإلى النوبة في القرن السادس الميلادي، والصراعات التي دارت في هذه المنطقة باعتبارها منطقة نقل وعبور التجارة إلى أفريقيا. الغريب على الرغم من الهجرات المتتالية والغزوات التي مرّت بها بلاد النوبة، إلا أنها على حد تعبير الدكتور مراد مبروك، ظلت محافظة على خصائصها الفيزيقية وممارساتها الطقسية.
كما أن هذه المرويات لم تنسَ القضية الأساسية وهي قضية النّضال ضد الظلم الذي جاء به أبناء القاهرة سواء أكانوا أجانب أو أبناء بلد، وهو ما عبّر عنه مشهد نهاية الشمندورة حيث “الشمندورة ترتطم ارتطاما شديدا بالسلسلة التي تشدها إلى قاع اليم … ترتطم ثم تهدأ لتعاود النضال من جديد” في إشارة إلى معنى المقاومة المستلهم من المكان فتظل الشمندورة الرمز دليلا على المقاومة وعدم الاستسلام رغم قيودها التي تشدّها نحو المصب.
عين من الخارج
نموذج الشخصية النوبية بما تحمله من سمات الأنفة والصّبر والجَلَد، ترددت في مرويات كثيرة، وإن كانت بصورة نقيضة لطبيعتهم الداخلية فهم “قوم مسالمون لا يحملون البنادق والسيوف والهراوات” كما وصفهم راوي دنقلة، ومن ثم طغت الصُّورة السَّلبية المتمثلة في صورة الخادم المطيع/المقموع، باستثناء رواية علاء الأسواني “نادي السيارات” حيث قدّم صورة مختلفة عن شخصية النوبي المطردة في المرويات أو الصورة النمطية التي قدمتها الأفلام بدءا من علي الكسار في “بربري مصر” وتلك الصفات التي التصقت بهم على “أنهم سفرجية وبوابين” كما قال المحقّق لعوض شلالي في دنقلة. فقدّم الأسواني شخصية ربما كشفت عن حالة القمع اللامتناهي داخل هذه الشخصية التي قهرتها عوامل كثيرة لا تبدأ بالطبيعة ولا تنتهي عند البشر، ومن ثم تحولت من النقيض إلى النقيض، بعد أن كانت مقموعة صارت قامعة، كما تجلّى في شخصية قاسم محمد قاسم الشهير بـ”الكوو” بما يحمله الاسم من معنى القائد أو الكبير في اللغة النوبية إلا أن له دلالة أخرى في نادي السيارات بمعنى العبد المهيمن. يأتي وصفه في الرواية بأنه ستيني نوبي سوداني، يعمل شماشرجيا للملك، إلا أنّ وظيفته تتجاوز هذا ليصبح هو المسؤول عن تحقيق ملاذ ورغبات مولانا، وما أن صار مولانا صاحب العرش، اكتسب الكوو نفوذا مضاعفا، حتى صار الوزراء يخطبون ودّه، وإلى جانب دوره إلى جانب الملك في قراءة المراسلات والردّ عليها، كانت له وظيفة أخرى تتمثّل في أنه الرئيس الأعلى للخدم في القصور الملكية جميعا، ومن ثمّ صار المهيمن على العبيد داخل القصر، كما تمددت سلطاته بمرور الوقت وطالت شؤون مصر من خلال هيمنته على نادي السيارات. لم نجد عبر هذه الشخصية سوى نموذج نفعي استطاع أن يوطّد سلطاته بالتواطؤ، وهي صورة بعيدة كل البعد عن صورة النوبي كما تشكلت في أدبيات كتّاب النوبة، خاصة بمقارنة وضعيته أمام الأجانبي مقارنة بالخدم فهذا المنتشي الآمر الناهي ينحني في خشوع وذل لا يتناسب مع ما يفعله مع الخدم. في رواية أشرف العشماوي “تذكرة وحيدة للقاهرة” يقدّم صورة مُشوّهة عن إنسان النوبة عبر شخصية “دهب عجيبة سرّ الختم”، فالشخصية لم تحمل من صفات النوبي إلا بشرته وعمله كحارس في نادي الجزيرة، ما عدا ذلك، فنحن مع صورة من الخارج لم تتعمق في شخصية النوبي، فاستسلم لكونه مقموعا، فصار لعبة في يد بدر شفيق المغازي ابن وزير الأشغال السابق، فلا يكتفي بمحو اسمه فقط، بل وهويته حيث يلبسه في شخصية أخرى، فيغير اسمه ودينه وجنسيته في لعبة يتحايل بها على قوانين الحراسة، ثم يقذف به في لعبة أخرى في تجارة الأموال وتهريبها دون أن يدري. الغريب أن عجيبة والده قدّم نموذجا لشخصية النوبي الثائر، فعندما علم بما يخطط له مخدومه السّيد ويليم ويلكوكس المشرف الأساسى على بناء خزان أسوان وغيره من الأعمال المرتبطة بنهر النيل، تنبأ بالمأساة التي ستحل على أبناء جلدته، فعلى الفور قاد ويلكوكس إلى قاع النيل. في حين أن الابن صار في مهب الريح تحركه حيثما تشاء، فتارة دهب عجيبة، وأخرى فارس حبيب حبشي مهندس الرّي القادم من السودان، وثالثة باسم ليون برنار بعد أن تزوّج من امرأة سويسرية عجوز أكبر من أمه.
بصفة عامة، تتميز مرويات النوبة بخصوصية على مستوى التشكيل، حيث تغلب على آليات السرد آليات القص الشّعبي، الذي يستخدم فيه الرّاوي المواويل والأغاني الشعبية، كما أنّ اللغة يغلب عليها نمط اللغة اليومية النوبية وبنفس تراكيبها، فتعج المرويات في استخداماتها المختلفة بمفردات مُتعدِّدة، كما هو ظاهر في روايات قاسم وحسن نور ويحيى مختار، مثل: العنجريب، والخرميد، وأنان حالي، صغير البوستة، الشعاليب، صلا تبيد، الإبريج، عديلة، منو، عديل، الأدمير، آمون نتو، آمون دجر… وغيرها من كلمات تحتاج إلى شرح وتفسير، وهو ما فعله الكُتّاب في الهامش. في حين تخلو روايتا الأسواني والعشماوي من هذه اللغة المحلية، وإن كانت ثمة لغة عادية تتجاور مع لغة القرآن في الكثير من المواضع على نحوما هو ظاهر في رواية العشماوي “رجال ونساء بملابس الاستحمام يمرحون، وعلى آرائك متكئون، تدور عليهم صوان بشراب مختلف ألوانه” ومرة أخرى عندما يصف البساط بصوت دهب أثناء التحاقه بالعمل في نادي الجزيرة يقول “بساط أخضر ناعم ملمسه، فاقع لونه يسرّ الناظرين”. كما خلا الخطاب الذي أرسلته مِسكة لزوجها دهب عجيبة من أيّ كلمة محليّة في مفارقة مدهشة. أما الأسواني فيشير إلى دلالة اللغة النوبية هكذا “فحدثه باللغة النوبية” دون أن نرى لفظا نوبيا في سياق الجملة.
القامع والمقموع
تبدو هذه العلاقة جلية في الأدبيات النوبية على اختلافها، فابن النوبة يمثّل صفة المقموع والحكومة تأخذ صفة القامع، ومن ثم نجد العلاقة الصراعية بين الطرفين التي تصل إلى حدّ الانتقام، في رواية الشمندورة تنكّر حسين طه في زي سفرجي ليغتال رئيس الحكومة صدقي باشا في القطار، ولكن يتمّ القبض عليه. وفي “تذكرة وحيدة للقاهرة” سعى عجيبة سرّ الختم للانتقام من الإنكليزي المغرور فقتله، بمجرد ما علم بمشروعه. وهناك من اتخذ وسيلة لمقاومة القامع عبر التنديد بسياسته كما فعل بحر جزولي الذي اعتنق رأيا متعصبا للجنوب، وسرّب مقالا هاجم فيه مسألة تهجير النوبة إلى جبل السلسلة، فاُعتقل ولم يَعُدْ بعدها. أو رغبة عوض شلالي في تقديم دعوى قضائية ضد مَن أقاموا السّد. كما أن القمع يلاحق الشخصيات بسبب سواد البشرة، فدهب عجيبة منذ أن كان طفلا في المدرسة، تُطارده لعنة اللّون، فسخر زميل منه بقوله نيجرو، ثمّ عندما انتقل إلى القاهرة كانت الكلمة له بالمرصاد مِن عُلْية القوم. فما فعله مع الصبي لم يستطع فعله معهم، فصار “يتحاشاهم كلما مرّ على مجالسهم”، لكن في لحظة معينة نظرا لحاجة بدر له، يتساوى القامع والمقموع وإن كان بعد أن بدّل اسمه إلى فارس حبيب حبشي. فانصهر عجيبة في حفلات المجتمع المخملي وكان يصطحبه بدر دوما في كل أماكن مجتمعاته وسهراته، حرصا على أمواله. رواية العمشاوي في مستوى من مستوياتها، تشير إلى ضياع النوبي، عبر التغيرات التي حلّت على دهب عجيبة، في إشارة إلى استحالة عودة النوبة القديمة. فعجيبة النوبي مات في التهجير. وهو ما يعني تساوي حالة عجيبة وبلاده وفقا لما قاله الأستاذ أشموني الذي ساعد بدر على التزوير.
وتتجلّى علاقة القامع والمقموع في نظرة النوبي لبلاد الشمال التي يصفها بأنها “بلاد الحيّة” أو أنّ “المجد والرخاء للشمال، والموت بالفيضان للجنوب”، وتشمل النظرة رجاله الذين يفرضون الضرائب أو القرارات التي تجردهم من أراضيهم وممتلكاتهم، أو بلجان الحصر الظالمة، وكذلك بنسائه اللاتي يسرقن الرّجل النوبي من عياله، بأن يلقين عليه الطعم “بلسانهن الحلو، وملابس السّتان اللميع والدانتيل المخرم” كما اتّهم عوض شلالي روحية البولاقية، لكن الشمال يتجاوز القاهرة إلى بلاد الغرب أو “الغرب السعيد المجرم” بتعبير هيكل على لسان بطل روايته “زينب”. المفارقة المدهشة أن أبناء الجنوب ما أن ينتقلوا إلى الغرب حتى يتحوّلوا بدورهم إلى قامعين لأهلهم، فبعضهم يذهب ولا يعود، والبعض الآخر يتنكّر لنوبيته، ويتزوج من إحدى بنات الغرب، أو حتى بأن يترك خلفه زوجة وأبناء دون مراعاة للحقوق الزوجية أو الأبوية، ومن ثمّ يكون التمرد غاليا كما فعلت حليمة التي انتقمت لسنوات الصبر والانتظار بإقامة علاقة مع معدول الصعيدي، في إشارة إلى الأثر المعنوي لهذا القهر.
تغلب على الرواية النوبية الطقسية، حيث كل حدث يُسجّل ويوثّق وفقا لطقوس تفرضها أنساق المكان المهيمنة، ومن ثمّ تطرد داخل هذه المرويات طقوس الزواج وطقوس النيل، وطقوس العودة من الغربة، والختان والعزاء والمرض، وموسم جني البلح. ولو قارنا رواية كُتّاب النوبة لوجدنا أنه ثمة احتفاء طقسي كبير عبر السرد سواء أكانت طقوسا مضمرة أو حركية، فنرى طقس تعميد العريس في رواية الشمندورة يحتل مساحة كبيرة، وكذلك طقس العائد من الغربة كما حدث في طقس الاحتفال بعودة عوض شلالي في رواية “دنقلة”. في حين لو قارنا طقس الزواج عند أشرف العشماوي في رواية “تذكرة وحيدة للقاهرة” لوجدنا أنه لا يتجاوز سطورا قليلة، بالطبع يتخذ الراوي مبررا أن زواج دهب على مسكة سرّ الختم ابنة عمّه، تمّ في حلفا في دار عمه بعيدا عن أرض النوبة، إلا أن وصف طقس الزواج يفتقرُ لكلّ الطقسية الاحتفائية التي تكشف عن سرّ حُبّ النوبي للحياة. كما في كلّ روايات النوبة التي تُسْهب في هذه الطقسية، بدءا من تجهيز العريس وتعميده في النيل، والطعام الذي يقدم للضيوف، وغيرها من أشكال طقسية، بل في رواية “بين النهر والجبل” لحسن نور تجرى هذه الطقوس للغريب الذي أقام فيها وصار نوبيا، حتى أن مساحة سرد هذه الطقسية للغريب تصل إلى عشر صفحات مقارنة بمحجوب الشخصية الرئيسية في الرواية، فيحتل وصف الطقس أربع صفحات مظهرا كافة أشكال الكرنفالية من إطلاق البخور أثناء الإنشاد الديني، وترديد الأغاني سواء على مستوى الذكور والنساء، وما يتردد من أغنيات ومواويل شعبية، ثم لحظة تقدم المأذون لإقامة المراسم…إلخ.