أرجوحة مكي
من تحته تنفتح الأبواب ويمر الناس.. بعضهم أكبر من محمود المليجي، وبعضهم أصغر من نانسي عجرم، والكثير منهم مات بعد رحيل عبدالوارث عسر. بأقدامهم يثيرون هباءات الغبار في الصيف.. ويجعلونها تنتشر في عجاجات صغيرة لا يراها سوى مكي من مكانه العالي، كما يرى جميع الجيران يقتربون من بيت الحاج إبراهيم أثناء الذهاب أو العودة إلى بيوتهم.. يمشون مسرعين في اتجاهات شتى، ولكنهم ينحرفون عنه عندما يصلون إليه.
إنهم يتوقفون عند صبّة الحاج إبراهيم أبو خليل التي لا يزال الإسمنت فيها طرياً، ويتحاشون المشي عليها، أو يغفلون عنها، فيكادون يدوسونها ويطبعون أقدامهم عليها أثناء المشي أحياناً.
- إبراهيم، لماذا لا تضع الطابوق حولها لكي لا يدوسها أحد؟
- أنا لست إبراهيم، يا عم مكي، أنا ابنه خليل.
- خليل، لماذا لا تضع الطابوق حولها لكي لا يدوسها أحد؟
- أنا لست خليل، يا عم مكي، أنا ابنه عزيز.
تتكسر الصبة، ثم تتجدد بعد أعوام قليلة بطبقة من الإسمنت الطري الذي يتحاشاه اللطفاء والدمثون من أهل الحي. أما العابسون من أصحاب المزاج البرتقالي فيدوسون عليه مثلما داست عليه القطة والدراجة والدبابة.. يتحدثون فيما بينهم بشتى الأحاديث، ويذكرون الغانيات والعظماء.. من غاندي ومانديلا إلى هيفاء وهبي وساجدة عبيد… ومكي لا يهمه شيء ولا يفتح عينيه جيداً إلا عندما ينشغل إبراهيم أو خليل أو عزيز ببناء صبة جديدة، فيرتدي حينئذ نظارته الطبية، ويبحلق فيها كما لو كانت آنية من فضة.
مكي رجل أريحي.. يسير دون قيادة من أحد.. ولا يهتم إذا ما انقلبت الدنيا أمامه، أو دوّخت الجميع كما الأرجوحة.. قلَبَ حروفها أيّام المراهقة، فتحوّلت من دنيا إلى إيند.. وبما أن كلمة إيند تعني الوصول إلى النهاية، فلماذا يكلف نفسه عناء الحذر منها أو الحرص عليها؟ الأصل في الأشياء هو النهاية، ولهذا تراه يجد سعادة الدنيا كلها في جمع القناني الفارغة، والعصارات التي خوت من دهونها، ثم رميها إلى سلة المهملات. وعندما تمتلئ السلة بالأكياس التي فرغت من رقائق البطاطا، والعلب التي خلص منها الحليب والماء ومعجون الطماطم، سيجد سعادة أكبر في تفريغها ببرميل الزبالة الكبير.. هكذا هي الدنيا كما يراها مكي، سلة مهملات تفرغ في برميل زبالة.. ومهما كانت عظيمة أو حامية الوطيس، فإنها لا تنحرف قط عن هذه النتيجة الحتمية سواء بعد الجمع والطرح والضرب أو الوصول إلى ناتج القسمة الطويلة.
لم يستطع شراء الأرجوحة التي يريد التمرجح فيها منذ ثلاثين عاماً بالتمام والكمال.. وحاله مع تلك الأمنية حال ضوء الشمس الذي يصطدم بأتفه الأشياء فتجعله لا يصل الأرض إلا وهو ظل أسود اللون.. هكذا هو العمر بالنسبة إليه خيال أسود، ستنتهي أعوامه إلى برميل النفايات قبل أن يرتد إليه طرفه في ومضة عين.
في تلك الأعوام مات جده بعد أن مات فريد شوقي، وتزامن موت جدته مع موت أمينة رزق، وظلت الخرفان والدجاجات تتقلب في الماء الساخن ثلاثين عاماً مرت بين عشية وضحاها وهو يؤجل شراء الأرجوحة من أمس إلى الغد ومن عام إلى آخر.. أمه صامتة على الدوام، وأبوه الحلاق ماخذ الدنيا (حاصل فاصل) بالكلام.
لا يدري كيف ركضت الأيام بهذه السرعة، وانقضت ساعاتها أمام المرايا وخلف الرؤوس، تاركة حلمه يتبعثر بين اللحى والشوارب والباروكات وأعقاب السكائر.. في الألفية الأولى كان مشغولاً بكنس شعور الزبائن عسى أن يعثر بينها على خاتم ذهبي أو دينار ساقط على الأرض. وفي الألفية الثانية تساقط شعره مع تساقط دموع الجيران حزناً على أولادهم الذين أصبحوا شذر مذر.
أويلي عليهم.. من رأس الشارع وحتى آخر الشارع.. بعضهم انعلس بسبب اسمه، وبعضهم انخطف بسبب وزنه، ومن شاء رحل، ومن لم يشأ رحل أيضاً.. الدكتور أغلق عيادته، وادّعى أن حرف الدال قبل اسمه يعني الدبدوب أو الديناصور أو الديك الرومي، والمهندس أطال لحيته وقال إن بيت العنكبوت أفضل من بيته، وفخامة بائع النفط ارتدى الباينباغ الوردي بعد أن كان يرتدي الخرك والمرك.
تزوج أولاده جميعاً وأصبح عنده أحفاد يعيشون في التيه أو المجهول… راحت زوجته تنتقل بينهم مثل ذبابة دفيانة خرجت فجأة من نافذة السيارة في بغداد، فصفعها الهواء البارد بقوة وأرداها إلى مشيغن.. لا يدري أين هي الآن. في اللامكان.. تنتقل كالطبق الطائر بين القارات، وهو باقٍ في مكانه لحراسة البيت والحفاظ عليه من اللصوص والحواسم والمهجرين.
يستيقظ صباحاً، ويذهب إلى رأس الشارع ثم يعود بكيس الصمون الحار مرتدياً البجامة والنعال في الفجر، والقمصلة بعد الظهر. وفي المساء يرتدي الدشداشة ويجلس في بلكونة بيته الذي اشتراه قبل ثلاثين عاماً بعد أن دفعت له الحكومة تعويضاً محترماً لقاء وقوع محل الحلاقة ضمن مقتربات المترو الذي لم يبتلع الناس لحد الآن.
كان يعمل في حلاقة الرؤوس فيما مضى، وتلك مهنة عائلية توارثها أهله أباً عن جد.. وعندما وصلت تلك المهنة إليه وجدته يتحدث بالمثاقيل، عازفاً عن الثرثرة مع الزبائن هائماً بالنظر إلى الناس المارين من الرصيف الذي يطل عليه دكانه.. كان يواصل وقوفه فوق الرؤوس المرتعشة للمحاربين القدامى ومدراء المدارس المتقاعدين وأشباه الرسل الذين أصبحوا في أرذل العمر.. عقله منشغل دائماً بالصور التي تتلاحق كشرائط الفيديو.
كثيرة هي هذه الأشرطة في رأسه، وعندما يحاول استرجاع كل شريط على حدة تتساقط منه الوجوه إلى الأرض، أو تتسرب كالرمل في الهواء.. بعضها بالتربان وبعضها بالعربان.. وبعضها لا يزال يشرب العصير من دكان الحاج عبدالرحمن الذي يعلق البرتقال والرمان في الشتاء، ويعصر عناقيد العنب في الصيف، وفي الربيع يقف قرب باب المحل، ويأكل المشمش..
يشعر مكي بالأسف أن أسنان أحفاده اللبنية تساقطت في ميشغان ومالمو، وليس عند بائع الكرزات، ولا عند بائع الشعر بنات، ولكن تحت خيمة بيضاء من الثلوج وداخل غابة من مدافئ عشتار النفطية والغازية.. لا شيء يغير له هذه الصورة حتى وإن أخبرته زوجته فتاحة الفال بأن الشقة هناك مدفأة مركزياً.. وأن عشتار السنك رنك لم تعد موجودة في كل أسواق العالم.
كيف تكون عشتار (سنك رنك)، أو غير موجودة في كل أسواق العالم، وكيف تزعم أن سيارته الحمراء البرازيلي سنك رنك أيضاً. صحيح أنه لم يعد يستعملها، ولكنها لا تزال موجودة أمامه في كراج البيت الذي أصبحت تغطيه أكوام من أوراق النارنج والعنب اليابس.. يراها من مكانه العالي ساكنة تحت أوراق الأشجار التي تعيش فيها الديدان.. إما بيضاء تشف عن عروق سوداء صغيرة تحت جلدها.. أو رمادية تشبه المظلات ولها أرجل كثيرة جداً. وأحياناً يراها تتقلص وتندفع بين الطبقات التحتية الرطبة من الأوراق الميتة، حتى إذا جاء فصل الخريف وجفت الدنيا تطايرت تلك الأوراق من حديقته إلى حديقة الجيران عبر السياج المهدم بقذيفة هاون.
مكي شعر بأنه قد جاء إلى هذه الدنيا أخيراً بعد سن الخامسة والستين.. وآخر شيء توقعه، في حياته، أنْ يتمكن من شراء الأرجوحة أخيراً وأن يضعها في بلكونة البيت المتثلمة من جميع الجهات، والتي تسميها زوجته بالتنتة كشف.. استطاع أخيراً أن يتخذ القرار الحاسم بعد أربع محاولات فاشلة انتهت جميعها بسخرية زوجته التي كانت تقول له كلما نطق بكلمة (أرجوحة):
- بعد ما شاب ودوه للكتَاب.
هذه التي ترى الغزال قرداً، ادّعت أن الأرجوحة هي لصغار السن فقط، وأنها ستخسف بالبلكونة الأرض، وأنها يائسة من بيت زرق ورق يتكئ بعضه على بعض بالقُدرة، ويكاد يتداعى لولا لبلابة عملاقة تحتضنه من الأمام، ودون أن تقصد، شافت زوجته ما مكتوب في علم الغيب، وقدمت فتاحة الفال صورة لما سيصبح عليه زوجها مكي الحلاق بعد أعوام من جلوسه المستمر في الأرجوحة. أصبح يتكئ على بعضه البعض بالقدرة، ويكاد ينكفئ على وجهه لولا احتضان خرطوم النركيلة العملاقة لفمه.
من تحته تنفتح الأبواب ويمر الناس.. بعضهم أكبر من محمود المليجي، وبعضهم أصغر من نانسي عجرم، والكثير منهم مات بعد رحيل عبد الوارث عسر. بأقدامهم يثيرون هباءات الغبار في الصيف.. ويجعلون تلك الهباءات تنتشر في عجاجات صغيرة لا يراها سوى مكي من مكانه العالي، كما يرى جميع الجيران يقتربون عن بيت الحاج إبراهيم أثناء الذهاب أو العودة من بيوتهم.. يمشون مسرعين في اتجاهات شتى، ولكنهم ينحرفون عنه عندما يصلون إليه. والسبب هو صبة الحاج إبراهيم المتجددة بين عام وآخر بطبقة من الإسمنت الطري الذي يتحاشاه اللطفاء والدمثون من أهل الحي. أما العابسون من أصحاب المزاج البرتقالي فيدوسون عليه مثلما داست عليه القطة والدراجة والدبابة.. ومكي هذا العام قرر أن لا ينهض من مكانه في الأرجوحة.. وأن يفتح عينيه جيداً عندما ينشغل فلاح اللباخ ببناء صبة جديدة.
أمطرت السماء ثم أشرقت الشمس وهو جالس في مكانه على الأرجوحة.. يدخن نركيلة السعادة، وينظر من الشرفة إلى نمير وغزال.. نمير هو الأخ الثاني لعزيز حفيد الحاج إبراهيم.. الأخ الأول أمير جاءت سيارة مسرعة وحوّلته مع دراجته إلى علامة الضرب. والثاني نمير نفخ النفاخة حتى انفجرت، ففزَت أخته غزال وراحت تبكي من الفزّة خلف جدها إبراهيم الذي يلفّ اللفاف على رأسه ويرميه إلى الخلف.. ولكن الإسمنت لا يزال طرياً.
يجلس الحاج إبراهيم على الكرسي المتحرك في كراج البيت منذ الصباح وحتى آذان الظهر.. وبعد آذان الظهر يدفعه حفيده نمير بصعوبة من الكراج إلى داخل البيت، فيدخل مكي جائعاً ثم يخرج بسرعة إلى الشرفة والطعام في يده. يجلس في الأرجوحة ويتابع النظر إلى السطح الأملس للإسمنت الطري الذي لم يجفّ بعد.
أكثر ما يخشاه مكي هو أن تحدث الطامة الكبرى، فيتخربط سطحه الأملس ببصمة قدم أو كف ، خصوصاً عندما ينتهي فلاح اللباخ من إكساء الصبة التي تتقدم البيت، ثم ينشغل بإكساء بعض عيوب البيت من الخارج. هذا هو ما يحدث كل عام تقريباً وسيمنع حدوثه هذا العام بعد أن يلازم مكانه هذا في الشرفة وتصبح أرجوحته هي المأوى.
هبّت الريح الباردة ومن بعدها هواء الشرق الحار.. وجف الإسمنت أخيراً.. دون أن يدوسه أحد.. لا الشحاذ ولا النجار ولا محصل الكهرباء.. القطة فقط كادت تدوسه وهي تركض ، فصرخ بها مكي صرخة جبارة جعلتها ترجع على أعقابها خلف إطار السيارة المتوقفة قرب الرصيف.. الحمد لله استطاع منعها من أن تمشي عليه. وجف الإسمنت دون مشاكل.
شعر مكي بالرضا، ونفخ من فمه نفخة دخان بركانية أودت بحياة بعوضة كانت تحوم حول فمه.. رجع بظهره إلى ظهر الأرجوحة وقبّل يدها اليمنى، ابتسم مع نفسه ابتسامة عريضة، لأن فلوسه لم تذهب سدى.