أرض أخرى
ما لا يُنسى، هل يجب الاعتذار منه؟
تلك المدينة ليست حجرا يقع وآخر يرتفع. ليست نوافذها أعشاشا ولا راحة لها بعد أن يفرغ مخزن الرصاص في البندقية المصوبة فوهتها إلى أشجارها. كنا نلهو قرب قبر لم يتكلم صاحبه في نومه ونطارد الحمام الذي يقضم رؤوس الأناشيد فتبدو جملها عمياء. هكذا مددنا أيدينا لنشحذ كلمات تعيننا على النظر. وأمعنا في الضحك لكي نغرر بالغيوم فإذا هبطت إلى موائدنا خبأنا أيدينا بين ريشها بحثا عن زهرة يؤكل عطرها كما تفعل الأحلام التي صرنا نلفها بمناديل شفافة تظهر من خلالها تلك المدينة بمبانيها التي هي ليست من حجر بل من مزيج غامض من العطور.
ليس الأبيض لونا، إنه العمى
أكتب تلك العائلة من النباتات التي جُنّ أخضرها فلم يرها أحد تمشي بقدمي زرافة. لقد نسينا الغطاء على القدر فاحترق اللحم. لحم اليرقات اللواتي هربن من الأهداب برائحة الشفاه المنتفخة. كانت صيفا تلك الجزيرة ولم يكن الساحل يتسع لقاربين. لن يؤلف أحد حكاية لم تقع إلا لأنها يجب أن تقع. يبهجني ألاّ أكون هناك. غير أني سأكون هناك كما لو أن أحدا لن يراني. هل نتبادل كلمة السر وقد صارت جزءا من الماضي؟ أنحن إلى العصا أم إلى حاملها؟ تحدثني عن الغابة فيمتلئ ليلي بوحوشها وأضيع في كلماتها المتقاطعة.
جربت أن أنحني للعشبة
ليس لأن المطر قد أغلق النوافذ اكتظت عيوننا بالريح. هناك صرخة تسقط مثل ورقة على منقار طائر وحيد. ليس عليّ أن أكتب سطرا قد سقطت عليه ضحكة العشب. سأرتجل باقة من زهور لأمرّ بها على الهاربين من الثكنات. كنت هناك وقد تعلمت ألاّ أصرخ كما لو أنني خشبة تتلقى ضربات الفؤوس. ليست الفأس عدوا لأن قسوتها ستُنسى. تلك الغابة ستكون بعيدة. نحن بعيدون. ولكن هل أنا بعض من أولئك البعيدين؟ لقد جرّبت أن أكون شبحا لأنحني لعشبة رأيتها في الطريق فقالت لي “يا أخي” نسيت حينها أن الزيارة تبدأ وتنتهي بالسلام. هناك جمل فضية لم تُقل ستظل عالقة بالأوراق الصغيرة. لن تمحو ضحكة العشب السطر الذي لم أكتبه. كانت هناك حياتي.
نجمة الليلة الماضية
في مقهى ما في مدينة ما تحت سماء ما سقطت نجمة في كأسي. حاولت أن أخرجها بملعقة فسمعت ضحكات الجالسين من ورائي. وحين التفتّ إليهم لم أر أحدا منهم. كانت الضحكات لا تزال عالقة في الهواء حين مدت امرأة عابرة إصبعها في كأسي ومحت النجمة. وقبل أن أكلمها كانت قد اختفت. كان الجالسون ورائي قد عادوا إلى أماكنهم. عادت المقهى مكتظة ولم يكن لديّ ما أفعله. في الليلة نفسها رأيت تلك المرأة العابرة وكانت تبكي. لم تتعرف عليّ غير أنها أومأت إلى السماء. كانت هناك نجمة وحيدة تنظر إلينا بيأس.
الحكاية في الصحن
كان عليّ أن أضع الحكاية على الصحن بين التفاح الذي صار بريقه يمحو جزءا منها. لم تكن تلك الحكاية قد كتبت بعد حين انزلقت مثل ضيف عابر إلى المنضدة وصارت تتنقل بين أيدي المدعوين بدعاباتها. وهي حكاية رمادية لا تتسع لاثنين. الحقيبة وصاحبها مثلا. في القطار لم تكن هناك وسادة فاتخذت منها وسادة غير أن ريشها صنع طائرا لتحلق به. الحكاية ليست أنا أو أنت. هي نحن ملتحمين. تسقط جملة مني على شفتيك لتلحق بها جملة خبأتها الملائكة تحت لسانك. وستكون طريقنا إلى الصحن سالكة.
خفقة جناحين
سأبكي من أجل الشجرة. لا تصدقوا. هناك طفل علقت عيناه بأغصانها. ذلك الطفل هو أنا. أعرف أن تلك الشجرة التي لن أجدها حين أعود لن تكون سعيدة بعودتي. فالفراشة ماتت. سيكون علينا أن نكون حزانى. ولأن الشجرة تكره حزني فإنها لن تلتفت إليّ. “لقد أخطأت طريقك” لا تزال خفقة جناحي الفراشة تحرك أغصانها. تلك شجرتي التي سأبكي لأنها تكذب من أجل ألاّ أبكي. فالشجرة التي لن أجدها وحدها ستقول لي إن بلادي ليست بعيدة. بخفقة جناحين سأكون هناك. ليست صحراء بل هي خطوة واحدة ويكون النهر قريبا.
أرض أخرى
الكتابة أرض. أرض أخرى هي من اختراع الكتابة. ولأن الشعر ليس كتابة فقد شاء حظه أن يبقي الغاوين من غير أرض سابقة. يعدهم بقطار ينقلهم من مدينة إلى أخرى. ما يمنحهم صفة الغرباء الذين يلقون تحية على قبور بيضاء لا تذكّر أحدا منهم بما فقدوه. يمحو الشعر ما تسطّره الكتابة. الشعر هو الآخر نوع من الموت. شاءت الصدفة أن يكون غريبا عن نفسه لذلك فإنه لن يسهر على جثة بردت مفاصلها. ليال مجنونة يقضيها الشعر لكي يكون مؤهلا لاختراع نهاره الذي سيتمكن قاربه من عبور النهر إلى أرض أخرى. لن تكون أرضه غير أن أحدا فيها لم يتعلم ما معنى أن يكتب المرء كلمة. الشعر عدوّ الكتابة.