أزرق‭ ‬الفنان‭ ‬وقيثارة‭ ‬الشاعر

الأحد 2016/05/01

ما ‭ ‬تستقبله‭ ‬الحواس‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬ويُحدث‭ ‬ارتباكا‭ ‬داخليا‭ ‬ويدعو‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬الوعي‭ ‬والإجابة‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬من‭ ‬قبيل: ‬لمَ؟‭ ‬ولماذا؟‭ ‬وكيف؟‭ ‬يُشير،‭ ‬غالباً،‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬رهانٍ‭ ‬يتجاوز‭ ‬مجرد‭ ‬محاكاة‭ ‬الجمال‭ ‬أو‭ ‬صناعته‭ ‬إلى‭ ‬حمل‭ ‬الفكرة‭ ‬الجمالية‭ ‬والتعبيرية،‭ ‬شاقّة‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬ثقيلة،‭ ‬ومواجهة‭ ‬الواقع‭ ‬بانعكاسه‭ ‬أو‭ ‬قلق‭ ‬انعكاسه‭ ‬وتطوره‭ ‬معًا‭.‬

الأمر‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬متعلقا‭ ‬بالحداثة‭ ‬أو‭ ‬رهانات‭ ‬الفن‭ ‬الحديث‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬خاصّية‭ ‬متأصلّة‭ ‬في‭ ‬الاشتغال‭ ‬الإبداعي‭ ‬منذ‭ ‬القدم. ‬وقد‭ ‬يكفي‭ ‬تأمل‭ ‬بعض‭ ‬المنحوتات‭ ‬التي‭ ‬توصف‭ ‬بالبدائية‭ ‬لشعوب‭ ‬ومجتمعات‭ ‬توزّعت‭ ‬على‭ ‬القارات‭ ‬الخمس‭ ‬لإحالتنا‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬تعقيد‭ ‬مستويات‭ ‬التفكير‭ ‬والخيال‭ ‬والإتقان‭ ‬عند‭ ‬الإنسان‭ ‬رغم‭ ‬بدائيّته. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬محدودية‭ ‬أدواته‭ ‬ورصيده‭ ‬المعرفيّ‭ ‬يزيدان‭ ‬من‭ ‬تقديرنا‭ ‬أو‭ ‬إعجابنا‭ ‬بصنيعه‭ ‬الفني،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنّهما‭ ‬ليسا‭ ‬ضروريين‭ ‬لإدراك‭ ‬مدى‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬التجريد‭ ‬واللجوء‭ ‬إلى‭ ‬مساعدة‭ ‬الخيال‭ ‬للخروج‭ ‬بما‭ ‬يناسب‭ ‬واقعه‭.‬

الاستغراب‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يعترينا‭ ‬ونحن‭ ‬نشاهد‭ ‬بعض‭ ‬التماثيل‭ ‬أو‭ ‬الأقنعة‭ ‬أو‭ ‬حتّى‭ ‬الرّقصات‭ ‬المركّبة‭ ‬للشعوب‭ ‬البدائية‭ ‬قد‭ ‬ينتفي‭ ‬جزئيًّا‭ ‬أو‭ ‬كليًّا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬فهمنا‭ ‬الرمزية‭ ‬الكامنة‭ ‬خلفها‭ ‬أو‭ ‬التناغم‭ ‬المنشود‭ ‬منها‭.‬

المبدع‭ ‬المعاصر‭ ‬مؤهل‭ ‬بالتقنيات‭ ‬الحديثة‭ ‬وتراكم‭ ‬المعرفة‭ ‬للتوجّه‭ ‬نحو‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬والمتاح‭ ‬له‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سابقيه‭ ‬دمجُ‭ ‬أشكال‭ ‬فنية‭ ‬متعدّدة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬المتلقي‭ ‬المزامنُ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مزوَّدًا‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬اتساع‭ ‬وانفتاح‭ ‬وفضول‭ ‬لاستقبال‭ ‬الجديد،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رفض‭ ‬أو‭ ‬قمع‭ ‬مسبقين‭.‬

استعداد‭ ‬المتلقي‭ ‬للنقد‭ ‬والتقييم‭ ‬يقع‭ ‬ضمن‭ ‬حقّه‭ ‬في‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يُعْرَضُ‭ ‬عليه‭ ‬ويُناسب‭ ‬طبيعة‭ ‬التشارك‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المولود‭ ‬الإبداعي‭ ‬مستباحا‭ ‬حسّيًا‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬جمهور‭ ‬واسع‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬مُبْدِعِه‭ ‬أو‭ ‬عائلة‭ ‬فنيّة‭ ‬صغيرة. ‬لكنه‭ ‬يكون‭ ‬ظالمًا‭ ‬ومقصّرًا‭ ‬في‭ ‬أدائه‭ ‬عندما‭ ‬ينضمّ‭ ‬إلى‭ ‬المعمِّمين‭ ‬أو‭ ‬المتسرّعين‭ ‬في‭ ‬أحكامهم،‭ ‬الذين‭ ‬ينفضون‭ ‬عبارات‭ ‬يائسة‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬ترى‭ ‬أنه‭ ‬تبعثر‭ ‬في‭ ‬الفوضى‭.‬

من‭ ‬طبيعة‭ ‬الأشياء‭ ‬أن‭ ‬أصحاب‭ ‬الموهبة‭ ‬الذكيّة‭ ‬يبقون‭ ‬ذوي‭ ‬رؤية‭ ‬متميزة‭ ‬غير‭ ‬محتاجين‭ ‬للتقليد‭ ‬ومجاراة‭ ‬الشائع‭ ‬سبيلاً؛‭ ‬قد‭ ‬يصمّون‭ ‬آذانهم‭ ‬عن‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬لكنهم‭ ‬يستمعون‭ ‬بطريقتهم‭ ‬لإرشادات‭ ‬إلهامهم‭ ‬وخيالهم‭ ‬ويسعون‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬الإبداعيّ‭ ‬بالإيقاع‭ ‬الذي‭ ‬يناسبهم‭ ‬ويرضيهم‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬ينقرضون‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يستسلمون‭ ‬بسهولة. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬عدم‭ ‬الانتباه‭ ‬لهم‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬منحهم‭ ‬فرصتهم‭ ‬المستحقّة‭ ‬يسبّب‭ ‬أذى‭ ‬لهم،‭ ‬فإنّ‭ ‬الأذى‭ ‬الأكبر،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬عدد‭ ‬المشتركين‭ ‬فيه‭ ‬والمتضررين‭ ‬به،‭ ‬هو‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬عندما‭ ‬يسود‭ ‬الاستياء‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬وطغيان‭ ‬اللاّمبالاة‭ ‬بوضعه‭ ‬أو‭ ‬مفاقمة‭ ‬حالته‭ ‬عوض‭ ‬معالجتها‭.‬

‮ ‬بيكاسو،‭ ‬الذي‭ ‬يحبّ‭ ‬البعض‭ ‬أعماله‭ ‬ويتهكّم‭ ‬عليها‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬أنجز‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عام‭ ‬1903‭ ‬و1904‭ ‬لوحته‭ ‬عازف‭ ‬القيثارة‭ ‬العجوز‭ ‬فألهمت‭ ‬والاس‭ ‬ستيفانس‭ ‬لقصيدته‭ ‬“الرجل‭ ‬ذو‭ ‬القيثارة‭ ‬الزرقاء”‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬فيها‭ ‬“قالوا،‭ ‬عندك‭ ‬قيثارة‭ ‬زرقاء،‭ ‬لن‭ ‬تعزف‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬هي‭/‬ردّ‭ ‬الرجل‭: ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬تتغير‭ ‬على‭ ‬القيثارة‭ ‬الزرقاء‭/‬وقالوا‭ ‬عندئذ: ‬لكن‭ ‬اعزف‭/‬،‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تبدع‭/‬‭ ‬لحنا‭ ‬يتجاوزنا،‭ ‬لكنه‭ ‬نحن‭/‬لحناً‭ ‬على‭ ‬القيثارة‭ ‬الزرقاء‭/‬عن‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬بالضبط”‭.‬

تفاعل‭ ‬المتلقي‭ ‬الشاعر‭ ‬هنا‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬أزرق‭ ‬الفنان‭ ‬إلى‭ ‬أزرقٍ‭ ‬عميق‭ ‬آخر‭ ‬يرفع‭ ‬الفنّ‭ ‬ليعبّر‭ ‬عن‭ ‬الأشياء‭ ‬ويغيّر‭ ‬واقعيتها‭ ‬على‭ ‬طريقته‭ ‬التي‭ ‬يقبلها‭ ‬الآخرون‭ ‬ويقبلون‭ ‬عليها. ‬وهم‭ ‬يحتاجونها‭ ‬ويزيدون‭ ‬عليها‭ ‬لو‭ ‬تفاعلوا‭ ‬معها‭ ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬تناسل‭ ‬الإبداع‭ ‬وتحليقه‭ ‬ممكنا‭. ‬في‭ ‬المساحة‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬المبدع‭ ‬والمتلقي‭ ‬ليس‭ ‬مطلوباً‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬هذا‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.