أسئلة في صلب المسألة
قد يبدو الحديث عن غياب المرأة المفكرة أو الناقدة في البلاد العربية نوعاً من الترف، أو لعله حديث غير واقعي في ظل ما تعيشه المرأة اليوم بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام، وطبعاً هذا غير مرتبط فقط بالأحداث التي شهدتها المنطقة في الفترة الأخيرة (على الرغم من أهمية تأثيرها)، وإنما مرتبط بالتحولات التي شهدتها المجتمعات العربية على الصعيدين الثقافي والاقتصادي منذ عقود، وهذا يحتاج إلى مجلدات لتشريح الحالة والوقوف على أسباب التراجع في مناح مختلفة، وليس فقط غياب نساء مفكرات أو ناقدات. ولكنني سأحاول إظهار بعض النقاط التي قد تكون مفتاحاً نحو الولوج إلى تشخيص الحالة وبالتالي الوصول إلى نتائج:
المرجعيات الدينية والمجتمعية التي جعلت النسبة الأكبر من النساء مكتفية بالتبعية للرجل، وأخذ دور المنفّذ لإرادته متنازلة عن دورها خارج نطاق الزوجة والأم. أما من هن خارج هذه الدائرة (التبعية) فقد أصبحن أسيرات لهذا الواقع ومنخرطات في تكريسه من باب التماهي المصلحي معه، أو أنهن رافضات له ولكنهن غير قادرات على الخروج من أطره العامة خشية الثمن الكبير الذي يمكن أن يدفعنه، والمؤسف أن النساء هنّ أول من سيهاجمنهن، ناهيك عن النبذ المجتمعي الذي ستتعرض له المرأة التي تحاول أن تفكر خارج الصندوق، وليس هي فحسب، بل أسرتها كاملة؛ لذلك ستفضل الانكفاء على دفع نفسها وعائلتها إلى مرمى نيران المجتمع.
الوضع الاقتصادي الذي جعل المرأة العاملة تذهب في اتجاه الاختصاصات التي تحصل منها على مقابل مادي، وبما أن “الفكر” هو حالة اقتصادية خاسرة مادياً؛ فلن تجد امرأة تختار العوز كرمى للفكر، وهذا يوصلنا إلى النهج الذي تقوده الحكومات العربية، ويدفع بالمجتمعات إلى البحث عن فرص للعيش عوضاً عن التفكير بإنتاج تلك الفرص من خلال طرح فكري خلّاق. وهكذا فإن المعادلة القائمة على أن الإنتاج الفكري يساوي الفقر أحياناً والعيش بالحدود الدنيا غالباً، تجعل كل من يفكر قليلاً في هذه الاتجاه ينأى بنفسه مباشرة، وهنا تحضرني المقارنات السطحية التي يجريها البعض بين الشرق والغرب، مقتنعين بأن الغرب هو “المنتج الخلاق” ونحن “الكسالى الاستهلاكيون”، وهذا لا يتعدى كونه نظرة سطحية، فالإنتاج الفكري في الغرب (على أنواعه) يقابله مردود مادي جيد وفي كثير من الحالات يكون سبباً في الثراء، وهذا ما يجعل من التوجه نحو هذا النوع من الإنتاج فرصة حقيقية لكسب المال، وهذا أمر لا يمكن تجاهله كمعادلة، ولو كان هذا الإنتاج ليس مجدياً مادياً في البلاد المتطورة لما كنا لمسنا كل هذه الفروقات.
الإعلام بشقّيه الخاص والعام لعب دوراً هاماً في تهميش الحالة الفكرية وإظهارها كحالة خشبية وبالية غير ذات جدوى، وعمل بقصد أو بغير قصد على تشويه مفهوم الإنتاج وحوّله إلى حالة استهلاكية سطحية، كتقديم الإعلاميات أو الفنانات كنماذج باهرة يقدن حالة التوجيه والتوعية، في حين أنهن واقعياً لا يمثلن أيّ حالة فكرية قادرة على انتشال واقع المرأة من بؤسه.
في الحديث عن النقد نفسه، أين هي مؤسسات ومخرجات التعليم القادرة على إنتاج هذا الاختصاص ببعده الخلّاق المنتج وغير المؤدلج بفكر معين؟ ما هي إنتاجات جامعاتنا الفكرية والعلمية حتى نتحدث عن تجاوز الحالة العلمية العادية والوصول إلى حالة “نقد” أو إنتاج “فكري”؟
ختاماً، يمكن القول إن البحث عن “الفكر” بغض النظر عن منتجه (رجل أو امرأة) يحتاج إلى أسباب نشوئه وتطوره، ونحن نعيش ضمن معادلات سياسية واقتصادية مدمرة لأيّ حالة فكرية يمكن أن تحدث.