أساليب سردية لابتكار القسوة

حازم كمال الدين والوقائع المُربكة لـ"سيدة النيكروفيليا"
الجمعة 2021/01/01
لوحة إبراهيم برينو

ثمة مقدرات سردية تتأتى لبعض الكتاب تجعلهم قادرين على الإمعان في أسلوبيتهم الروائية التي تساعدهم على ابتكار طُرق سردية من شأنها أن تجعلهم يغوصون في العالم الروائي الذي يكتبونه للدرجة التي تجعل الكاتب والمُتلقّي معا لا يتخيلان أيّ عالم آخر خارج هذا العالم الروائي المُنغمسين فيه، حتى لكأن العالم من حولهما قد ذاب أو تلاشى ولم يبق سوى هذا العالم الروائي الذي يغوصان فيه معا إلى أعماق لا يمكن لهما أن يخرجا منها بسهولة، ولعل الروائي في مثل هذه الحالة يكون مُتشبعا أيما تشبع بعالمه الذي يصوغه، يحيا فيه، مُتشربا إياه، مُتماهيا معه للدرجة التي تجعل من المُتلقي مُشاركا إياه الحياة في مثل هذا العالم بما يبتكره الروائي من خيال أو أسلوبية قادرين على الإمساك بتلابيب هذا المُتلقي الذي لن يُفك أسره إلا مع انتهاء الروائي من روايته بكتابته لمُفردته الأخيرة من هذا العالم.

مثل هذه الحالة من التماهي مع العالم الروائي – سواء بالنسبة إلى الكاتب أو المُتلقي – هي ما نلمحه حينما نقرأ رواية "الوقائع المُربكة لسيدة النيكروفيليا" للروائي العراقي حازم كمال الدين، وهي الرواية التي يحرص فيها كاتبها على درجة من الإدهاش، والتساؤل والانتظار والإثارة؛ الأمر الذي يجعل القارئ أسيرا للحدث الروائي غير قادر على التخلص منه، أو التخلي عنه، أو إعطائه ظهره إلا بانتهائه من الرواية بالكامل، أي أن الروائي هنا نجح تماما في جذب انتباه القارئ حتى اللحظة الأخيرة، وهو جذب الانتباه الذي يجعل القارئ – أثناء قراءته – مُتعجلا لمعرفة الأحداث القادمة، وما سيجد فيها؛ مما يجعله شاعرا باللهاث الحقيقي أثناء تخطي سطور الرواية الراغب في السباق معها من أجل كشف ما ستأتي به السطور الجديدة القادمة، كما لا يفوتنا أن الروائي، هنا، كان حريصا على ألا يعطي القارئ المعلومات والحقائق دفعة واحدة، بل كان يتلاعب به، يبث له المعلومات بشكل شحيح، مُستمتعا بحالة التساؤل الدائمة التي من شأنها أن تتلبّسنا؛ الأمر الذي يجعله مُتمكّنا من السيطرة على ذهن المُتلقي حتى اللحظة الأخيرة، وهو ما يسترعيه الفن الجيد الذي يخلق حالة من حالات التساؤل والانتظار الدائمين اللذين لا يمكن الإجابة عليهما إلا في نهاية العمل الفني.

مثل هذه الحالة الفنية التي حرص عليها الروائي حازم كمال الدين تؤكد لنا أننا أمام روائي مُتمكّن من أدواته الفنية، يمارسها بدراية وخبرة ودربة، ويعرف جيدا ما يجب عليه أن يفعله من أجل امتلاك قارئه وعدم إفلاته إلا مع كلماته الأخيرة.

في سبيل تحقيق هذه الإثارة والتساؤل الدائمين عن السر وراء الأحداث المُريبة – وهو الأمر الذي يجعل الكاتب مُتملكا لقارئه – نُلاحظ أن الروائي يبدأ روايته بمشهد شديد الإثارة، يتشابه تماما مع ما نشاهده على شاشات السينما من مشاهد تأسيسية تعمل على التمهيد لما سيأتي فيما بعد من أحداث؛ حتى أننا سنظل نتساءل: ما السبب وراء كل ما يحدث؟ ومن هؤلاء الأشخاص؟ ومن هو الرئيس المُتحكّم في هذا العالم؟

نقرأ في الصفحة الأولى “وكأنها تريد أن تقفز فوق مزارع الخنازير أو تمزق المُنعطفات التي يتصاعد إيقاع ظهورها كلما ازدادت سُرعتها. العملاق الأشقر يجلس خلف المقود مُدججا بشتائم فريدة مُؤلفة من كلمات إنجليزية بريطانية، وهولندية فلامانية، وأكوام من الأصوات. شفتاه تقبضان على سيجار يكاد ينتصف، ويداه مهووستان بإدارة مقود العربة وتعديل ربطة عنقه، وفتح الدرج الأمامي بعنف وإغلاقه بوحشية. أما أذنه فمبرقعة بسماعة لاسلكية وميكروفون يرطن من خلاله طوال الوقت بمزيج من خضوع خادم، وعجرفة سيد. يوهان دو فريز يرعد ويزبد، ثم يهز رأسه ويطأطئ، ليعود فيصرخ مُزمجرا أنه سيفعل، ويشدد على أنه سيفعل، ويقسم أنه سيفعل، ثم يجدّف مُشددا بلغة سوقية على أنه سوف يفعل: سأريها نجوم الظهر حالما أصل بروكسيل. أقسم بالخالق بأني لن أكون يوهان دو فريز إذا لم أرجعها إلى شق أمها! أقسم بالمسيح إني سأدخلها إلى أعضاء أمها التناسلية من الدبر! لا تفهم ما أعني؟ سأزيل الشعيرات التي تسيّج دُبر أمها حيث جف البراز، وأقتحم الفتحة الخارجية نهاية الجهاز الهضمي التي ينتهي بها المُستقيم الذي هو آخر أقسام الجهاز الهضمي، وأفتق جزءا من المُستقيم حتى أصل أعضاء أمها التناسلية، وهناك سأحشرها وأدفنها! ويختتم شتائمه السوقية المُدبجة بمصطلحات طبية بنبرة تجاهد استحضار اللغة الدبلوماسية: عفوا؟ لم أسمعكم جيدا! طيب! كما تحبون! لن أتجه إلى مدينة بروكسيل! إلى أين؟ كما تأمرون! سآخذ الهاي واي حالا! حاضر سيادة الرئيس! هكذا كانت الليموزين تشق الطُرق المُمتدة من قرية أيفِرْبَرخ الفلامانية المُتاخمة للعاصمة بروكسيل إلى الهاي واي المُتجه بعيدا عن العاصمة، بينما أنا داخلها لا أقوى على إيقاف التبول على نفسي وعلى الأريكة الوثيرة من الرعب”.

إن هذا الاقتباس الذي كان بمثابة الافتتاح لرواية كمال الدين يُدلل على ذكاء الكاتب ومقدرته على استلاب قارئه والسيطرة عليه للوهلة الأولى، بل والاحتفاظ بانتباهه حتى الرمق الأخير منه؛ حيث سنظل نتساءل: من هذا اليوهان الذي يسبّ مثل هذا السباب، ومن هو هذا الرئيس الذي يتحدث معه يوهان بمثل هذا الإجلال، ومن هي التي سيفعل بها يوهان كل هذا؟ بل ومن هذا الراوي الذي يروي هذه الأحداث بينما يتبوّل على نفسه؟ كل هذه التساؤلات لا بد لها أن تتواتر على ذهن القارئ أثناء قراءته لمثل هذا المقطع الافتتاحي الذي كان بمثابة مشهد تأسيسي للسرد الروائي، يعمل الروائي من خلاله على بناء أحداث روايته، ولعلنا نلاحظ هنا أن الجزء الافتتاحي للرواية يحمل من الأسلوبية ما يقترب بها كثيرا من المشهدية التي تجعل القارئ يرى أكثر مما يقرأ، حتى لكأنه يجلس أمام شاشة السينما، يرى ما يقرأه من صور حية يتم استعراضها أمام عينيه، وهي أسلوبية يتميز بها السرد الروائي لدى حازم كمال الدين.

مع مُتابعة الحدث المُثير يصل يوهان بسيارته إلى مرآب ما، ليهبط من السيارة مُتّجها إلى نصفها الخلفي محاولا إخراج إحدى السيدات منها بعدما يوسعها ضربا وركلا “في ذلك القسم الوثير من السيارة نطّت عضلاته، واحمّرت عيناه، وشنّفت فردتا أنفه، وهدر فمه برعود تلك اللهجة الفلامانية المُغرقة بالمحلية التي يصعب فهمها حتى على أبناء البلد. ركلاته لم تكن لتخطئ الطريق إلى بطني، وربطة عنقه لم تتوقف عن التراقص أمام وجهي، وخصلات شعره ما كفّت عن الذهاب مع الريح، والعربة ما كلّت من التأرجح كالمهد كلما انهال عليّ بما ملكت يداه”. إن وصول القارئ إلى هذا المشهد يثير في نفسه المزيد من التساؤلات، ويعمل على شدّ انتباهه أكثر من ذي قبل؛ فلِمَ يفعل هذا الرجل مثل هذا الفعل بهذه المرأة، ومن هي هذه المرأة التي تكاد أن تُقتل بين يديه، ولِمَ تستسلم أمامه هكذا؟

يستخرج يوهان، بعد فترة من الضرب والركل، المرأة التي معه من السيارة ليبدأ في سحلها على الأرض خلفه بينما يعبر بها العديد من الممرات، ويدخل العديد من المصاعد ليخرج منها، ويعود إلى عبور المزيد من الممرات منها المُظلم، ومنها المُضيء، إلى أن يصل بها إلى إحدى الغرف التي يلقيها فيها ويتركها.

حينما تستيقظ تلك المرأة من غيبوبتها تُلاحظ أنها في غرفة خافتة الضوء مُلقاة على أحد الأسرّة بينما يراقبها يوهان الراغب في المزيد من العنف، وحينما تحاول الاقتراب من أحد النوافذ يحذرها. تفكر المرأة كثيرا، وتخبره بأن الرئيس سوف يعيد الأمور إلى نصابها؛ مما يجعلنا نُعيد التفكير والتساؤل عن هذا الرئيس الذي يتحدثان عنه، والمُسيطر عليهما وما يفعلانه، والمُتعلق مصيرهما به.

يترك يوهان المرأة عدة أيام من دون طعام أو ماء مما يجعلها تدخل في حالة من الهلاوس التي اقتربت بها من حافة الموت الحقيقي؛ لذلك حينما يدخل إليها بعد عدة أيام يجدها في “البانيو” كالجثة الميتة تماما؛ فيسرع بإخبار الرئيس الذي يهدده بأنها إذا ما ماتت فسوف يقتله؛ الأمر الذي يجعل يوهان يشعر بالكثير من الفزع ويسرع لإنقاذها واستدعاء الطبيب من أجلها! إلى أن ينقلها إلى حجرة أخرى من خلال رحلة جديدة بالليموزين، وفي هذه الحجرة يدخل عليها أحد الأطباء الذي يحقنها بحقنة تحوّلها إلى مُجرّد جثة ميتة وإن لم تفقد الوعي بما يدور من حولها “كبّلني يوهان العملاق وزرقني الطبيب حقنة، سأعلم لاحقا أنا مُؤلفة من مساحيق Coup De Poudre  ومُستخرجة من أخطبوط ذي حلقة زرقاء يعيش في المُحيط الهادئ. خلال دقائق طفوت في عالم تماهت فيه حدود اليقظة والنوم، والوعي والإغماء، والحقائق والأوهام، وأمسى جسدي عضلة مشلولة باردة باءت كل محاولاتي لتحريكها بالفشل”.صورة

إن حقن المرأة بهذا السائل الغريب يجعلها مُجرد جثة ميتة تماما، ويفقد جسدها أيّ مقدرة على الحركة أو رد الفعل، حتى أن عينيها لا تتحركان رغم أنها لا تفقد مقدرتها على الوعي بكل ما يدور من حولها، وإن كانت لا تمتلك المقدرة على فعل أي شيء، ولا حتى الهمس، أي أنها تتحول إلى جثة، تبدو لمن يراها مُجرد جثة طازجة الموت منذ دقائق، وهو ما رغب فيه يوهان والرئيس؛ فحقنها بهذا المُخدر كان هدفه بالفعل تحويلها إلى ما يشبه الجثة لمن يراها من أجل استغلالها في تقديم جسدها إلى أصحاب الرغبات الجنسية الشاذة الذين يرغبون في مُضاجعة الجثث، بل وجعلوا تسعيرتها خمسة آلاف يورو للمرة الواحدة، وإذا ما طلب الشخص أيّ طلبات إضافية تتم مُضاعفة سعر مُضاجعتها!

ربما يبدو لنا مثل هذا الفعل الإجرامي موغلا في القسوة، والإبداع من أجل ابتكار طُرق جديدة لاستغلال البشر في عالم الدعارة، كما أنه فعل شيطاني من أجل عقاب امرأة بجعلها ميتة بينما هي في حقيقة الأمر حية تُرزق؛ لذلك يبدو لنا تأجيرها لأصحاب الرغبات الشاذة بمثابة التنكيل بجثة “ذلك الحدث الخارج عن أيّ أعراف افتتح زيارات لرجال تفننوا في وطء جسدي المُسجّى على سرير تحته جهاز التجميد. كل تلك الفترة وأنا أراقب ما يحدث، تتنازعني يقظة عقلي وموت جسدي. بواسطة تعليقات بعضهم أثناء انتهاك جثماني، أو قبله، أو بعده، أدركت أنهم مهووسون باجتراح لذتهم الجنسية مع الأموات. ولقاء ذلك يتقاضى الرئيس مبالغ أسطورية. 5000 يورو سعر اللقاء الجنسي مع ما يُقال إنها عاهرة توفيت حديثا إثر تناولها جرعة هيروين زائدة، أو لسقوط رأسها على زاوية الطاولة بطريقة غير مقصودة، أو سوى ذلك من الأسباب المُفبركة التي يقولها يوهان للزبائن”!.

هذا التنكيل بجثة المرأة يكتسب قدرا أكبر من القسوة التي يحرص الكاتب على سردها في سطور روايته، أي أنه يمعن في القسوة إلى حد بعيد في الوقت الذي يتساءل فيه القارئ عن السبب في هذا الفعل، ولم يحرص هذا الرئيس المجهول على التنكيل بجثتها بمثل هذا الشكل البشع؛ لذا تقول “مرّ على بدني شتى أنواع الرجال، ومن كثرتهم أحيانا اثنان في اليوم الواحد، ساورني الاعتقاد بأن رجال كوكبنا هجروا أجساد النساء النابضة بالحياة وانقضوا فقط على رفات الميتات! على مراحل أدركت أن فيهم متعهدي دفن، وأطباء عدليين، ورجال دين، ومُدانين بأحكام جنائية لانتهاك الجثث، وأن استمتاعهم بتلك العملية ناجم عن برودة الجسد الطازجة كما عبّر أحدهم ليوهان، أو لأن شريكة الفراش المثالية يلزم أن تكون امرأة لا تثرثر ولا تعترض كما علّق آخر”.

إن حديث المرأة عن النماذج الشاذة التي مرت على جثمانها يحمل الكثير من الدهشة والإمعان في التنكيل والرغبات غير المعقولة “من تلك النماذج أشقر مهزوز الشخصية، انطوائي، يخشى الارتباط العاطفي أو الجنسي مع امرأة.. ‘ربما ترفضني وتتسبب في خدش مشاعري’ حسبما صرح ليوهان، كما يخاف التجربة الجنسية مع الأموات! وقد عاث هذا بجسدي، وأرعد بوجهي وأزبد لكي يثبت أنه سيد الموقف. واستبدت به نوبة جعلته يغلق عينيّ ويقلبني على بطني، وينشب أنيابه في مؤخرتي حتى كاد يمزقها ويخرج مني الدم”.

في موقف آخر تقول “بواسطة مُدير شركة الدفن وصل نيكروفيل ثالث في غاية العجلة من أمره. كان إمام جامع في مدينة هولندية. لم يتمالك يوهان دو فريز نفسه عن الاستفسار إن لم يكن النيكروفيليا حراما على المسلمين، فهمهم الإمام بهولندية أصيلة: كلا! بحسب أستاذ الفقه المُقارن في جامعة الأزهر، الدكتور سابري آبدول راؤوف تجوز مُعاشرة المتوفاة شريطة أن لا يكون مضى على وفاتها أكثر من ست ساعات. دهمت يوهان نوبة ضحك كممها، فبدت وكأنها سعال. طلب الإمام منه أن يكون وكيل المرحومة ويردد معه ديباجة الزواج بالعربية، “زوجتك نفسي لمدة ساعة على مهر قدره 5000 يورو، وطلب منه أن يقول بدلا من المتوفاة: قبلت! لم أتمالك نفسي من الضحك: زواج من ميتة؟! في اللحظة الأولى وهو فوقي لاحظ الإمام تيبس المهبل؛ فدحج ما بين ساقيّ بالمرهم الدهني الذي استلمه من يوهان كبقية الزبائن، وحين انتهى من قضاء حاجته راح يطلب لي الرحمة والمغفرة”!.

إذن، فلقد انتقل بنا الروائي، هنا، إلى أحداث عبثية لا يمكن تخيلها أو تصديقها؛ فليس من المُتخيل أن يفعل أحدهم بامرأة مثل هذه الأفاعيل التي حولتها إلى جثة حقيقية في جحيم لا يمكن إنكاره، لا سيما أنها تشعر وتعي جيدا بما يحدث لها، وما يدور حولها رغم أنها غير قادرة على مُجرّد تحريك حدقتي عينيها. إن هذا الفعل يجعل القارئ شديد التوتر، ويرفع درجة تأهّبه لتلقّي النص الروائي إلى أعلى درجاتها؛ لا سيما أننا غير قادرين على فهم السبب لمثل هذا الفعل، وما هي خلفيات هذه المرأة، ويوهان، والرئيس، ومن هؤلاء الأشخاص؟ أي أن الروائي هنا قد نجح أيّما نجاح في جذب المُتلقي والسيطرة عليه بامتناعه عن الإفضاء بالأسباب التي أدت إلى مثل هذه الأحداث، ولإخفائه لأطول فترة مُمكنة تاريخ الشخصيات وحقائقهم.

 إن طول المُدة التي تكون فيها المرأة المجهولة هنا مُجرد جثة للمُضاجعة يوميا من أكثر من شخص يجعلها تستسلم لمصيرها الذي تحولت إليه، بل إنها تفقد مقدرتها على تمييز الأيام التي تمر عليها؛ ومن ثم تتلاشى مقدرتها على العد الصحيح، هنا، تبدأ في التجول داخل نفسها، وتعيش داخل ذكرياتها التي لا تمتلك غيرها لتتغلب على الوقت المتوقف الذي لا يمر عليها؛ فنعرف أنها يسارية عراقية مُثقفة تمتهن التمثيل المسرحي، وأنها هربت من العراق إبان حُكم صدام حسين هي وزوجها إلى بلجيكا للحصول على اللجوء السياسي هناك ظنا منهما أن أوروبا هي الجنة المفقودة التي لا بد لهما أن يكونا فيها، لكنهما سيفاجآن بأنها الوجه الآخر للجحيم العربي الذي هربا منه “أيديولوجيًا تثقفت على الإيمان بدكتاتورية الطبقة العاملة، لكنّي وجدت نفسي أتناقض في الصميم مع مُصطلح الدكتاتورية، إضافة إلى ما ذكرته لكم توّا. في أوروبا ظننت أن الديمقراطية بديل أصلح، ولكنكم، لا يمكنكم أن تكونوا ديمقراطيين وأنتم تبيدون الهنود الحُمر واليهود، وتستعبدون أفريقيا، وتدمرون الشرق الأوسط، وتضربون اليابان بالقنبلة النووية. هذه ديمقراطية بربرية لا تنتج سوى معايير وقيم زائفة مظهرها الخارجي حضاري منزه عن وسائط التركيع المُتخلفة، لكن جوهرها أعتى توحشا من الدكتاتوريات المُتخلفة في الشرق. الديمقراطية الغربية تستعبد الإنسان حدّ أن تحيله جثة على قيد الحياة، والإنسان في الغرب سعيد باستعباده الأنيق”!.

إذن، فالساردة، هنا، تُقارب ما بين وضعها كجثة حية، وبين ديمقراطية أوروبا التي تحيل الإنسان بالفعل إلى نفس الحالة والوضع اللذين تحيا فيهما بسبب حقنها المُستمر واللامتناهي بهذا السائل الذي يحوّلها إلى محض جثة! ولعلنا لاحظنا أن الساردة، هنا، تتحول بحديثها إلى شخص، أو أشخاص ما قد نظنهم نحن كقراء، كما رأينا في قولها “ولكنكم لا يمكنكم أن تكونوا ديمقراطيين وأنتم تبيدون الهنود الحُمر”، بمعنى أنها تعمل على كسر الإيهام بالمفهوم البريختي، لكننا سيتبين لنا بعد قليل أن الكاتب من خلال سرده على لسان المرأة لم يكن يهدف إلى كسر الإيهام كما تخيلنا.

إن طول المُدة الزمنية التي تحولت فيها المرأة الساردة إلى مُجرد جثة للمُضاجعات، وتكرار حقنها الدائم بالسائل الذي لا يكاد يفقد مفعوله إلا ويتمّ تجديده مرة أخرى، جعلاها تدخل في متاهة ضخمة من الهلاوس السمعية، والخيالات الغريبة التي تسمع فيها بعض الأشخاص يتحدّثون، ومن ثم تتخيل العديد من الأمور تبعا للأصوات التي تستمع إليها قادمة من خلف جدار حجرتها النائمة فيها على فراشها. هنا صدقت أن ثمة شخصا ما يتحدث بالفعل من خلال الجدار إلى مجموعات مُختلفة من الناس، وبدأت تتخيل أوضاعهم في هذا الحديث، بل ودربت نفسها من أجل إصغاء السمع بطريقة دقيقة، وأطلقت على صاحب الصوت “سيدة الصوت المبحوح” حيث كان صوتها في منطقة وسطى ما بين الصوت الذكوري، والصوت الأنثوي! هذه الهلاوس جعلتها تحاول غير مرة من أجل استعادة وعيها الذي كانت قد بدأت تفقده بالفعل، وتستسلم لهذا الفقد “حفزت حواسي ولعبت دور الرقيب على نفسي: أثبتي لي بأنك لم تفقدي عقلك، وبأن ما تسمعين أصواتا حقيقية! انتزعت من ذاكرتي أحداثا جوهرية في حياتي وأخرى هامشية؛ الوقائع الدقيقة للهروب من العراق. تفاصيل رعب التهديد برفض طلب اللجوء في بلجيكا وإعادتنا مخفورين إلى العراق. شُرب الشاي في كافتيريا كلية الفنون الجميلة في بغداد. السقوط من منصة قاعة الخلد البغدادية لحظة تسلمي جائزة أحسن مُمثلة. التواء وسقوط كعب حذائي في بالوعة بين الرصيف والشارع أثناء عبوري شارع الرشيد البغدادي. اصطدامي بعمود كهرباء في منطقة الوزيرية البغدادية. تمثيلي في فرقة المسرح الفني الحديث. حوارات نورا في مسرحية بيت الدمية. آيات قرآنية أُجبرت على حفظها في طفولتي. ضحكات أمّي أثناء الطبخ. مُداعبات أبي على مائدة الطعام. عبوري نهر الفرات بقارب صغير وغناء “البلّام”. كلبي الضخم الأمين لاسي. عرائش الكروم في بساتين خالي على شاطئ الفرات”، أي أن الساردة تحاول جاهدة من أجل استرداد وعيها الذي ينفلت منها ويضيع، وبالتالي تعمل على تمرين ذاكرتها من أجل استعادة العديد من الوقائع التي مرّت بها في حياتها من أجل أن تثبت لنفسها بأنها لم تفقد الوعي بعد، ولم تدخل إلى متاهة الهلوسات التي تشعر بأنها قد دخلتها بالفعل.

هذه المحاولات الدؤوب تعود إليها الساردة غير مرة من أجل التأكيد لنفسها بأن الصوت الذي يأتيها من خلف الجدار ليس مُجرّد وهم أو هلوسة تعتريها، بل واقع حقيقي؛ الأمر الذي جعلها تتعلق بهذا الصوت عاقدة عليه الكثير من الآمال كي ينقذها مما هي فيه؛ لذلك نقرأ “شغلت نفسي بإبعاد ما يعيقني عن مُتابعة الكلام، أقصد العوائق اللغوية والانفعالية والموسيقى الصاخبة، والصوت الغليظ للرجل الهولندي. زاد تركيزي، كبر همّي في إبعاد العوائق المُنتشرة حتى أصبح همّ العوائق عائقا بذاته. بذلت جهدي للتركيز على لغة الصوت شبه الرجولي والنبرات، وعجزت عن فهم ما يُقال. خفتت الأصوات. حل صمت طويل. طغى صوت الرجل الهولندي. أصغيت. تكلم الصوت شبه الرجولي. حلّلتُ نبرة الصوت: النبرة العراقية، أنا مُتأكدة! خفتت الأصوات. حل صمت طويل. هيمن الهرج. ارتفع صوت رجل جديد، وخفت. صمت طويل. يئست من عودة الهرج، لكنه عاد. انتابتني لحظة صفاء أزاحت العوائق التي عدّدتها”.

ألا نُلاحظ في هذا الاقتباس السابق، والذي قبله أن الروائي يعمل على تقطيع مشهده في شكل أقرب إلى اللقطات السينمائية التي تمثل كل جملة من الجمل، حتى لكأنما الجمل تتحول كل منها إلى مشهد مُستقل يتم تقطيعه وتوليفه من خلال المُونتاج لتأليف المشهد الكلي في نهاية الأمر؟ إنها الطريقة الأثيرة التي يتميز بها السرد الروائي للكاتب حازم كمال الدين الحريص على تقطيع سرده، والاقتراب به من طريقة السرد السينمائي؛ ليجعل المُتلقي يرى ما يكتبه، حتى لكأن القارئ يمارس عملية مُشاهدة سينمائية، وليست عملية قراءة سردية تتكون من جُمل ومفردات لغوية، ونحن، هنا، لا نُنكر أنه نجح في هذه الطريقة السردية المشهدية أيّما نجاح.

 إن انغماس المرأة فيما يدور من حولها وما يحدث لها على يد يوهان وغيره من ذوي الرغبات الجنسية الشاذة يجعلها تقع في حالة نفسية عبثية لا يمكن لها أن تعود منها مرة أخرى إلى حياتها الطبيعية، وهو ما عبرت عنه بقولها “اليأس من إنقاذ نفسي بلغ شأوا. لا شفاعة لي عند الرئيس! لقد حكم عليّ بالموت! هذا مؤكد! انتظار الموت أصعب من الموت. مرور الأيام لا معنى له طالما أن الموت مُتأهّب وقد شمّر عن ساعديه. أنا مُصابة بمرض ظاهرة طابور الإعدام. طبعا تعلمون حضرتكم أن ظاهرة طابور الإعدام مرض يُجهِزُ على من ينتظر تنفيذ الحُكم بالإعدام. إن انتظاري كمحكومة بالإعدام كان فعليا الموت قبل الموت! هذا المرض يؤدي بالكثير من المحكومين بالإعدام إلى الجنون المطبق. الجنون رحمة. والعزلة تقرض حبل حياتي ببطء يؤدي إلى الموت قبل أن يأمر الرئيس مستشاره آية الله يوهان دو فريز بتنفيذ الحُكم عليّ”، أي أن الوضع الذي تعيش فيه الساردة كجثة قد حدا بها إلى حالة لا يمكن تخيلها من العبثية، ولعلنا نلحظ مرة أخرى في هذا الاقتباس أن الروائي قد عمد إلى الالتفات لأشخاص ما يتحدث إليهم عامدا إلى كسر الإيهام مرة أخرى، لكنه لم يعمد إلى ذلك أيضا.

تستعين المرأة/الساردة بخيالها من أجل محاولة الاستمرار في الحياة، كما تأتنس بالصوت الذي دائما ما يأتيها من خلف جدار غرفتها فتنصت إليه محاولة فهم ما يُقال؛ لذلك تعمل على تشغيل خيالها من أجل خلق عالم آخر موازٍ للركود والموات الذي تسبح فيه وحدها “تحديد هوية الصوت الجديدة غيّر طبيعة استقبالي لما يُقال. أصبح الصوت مُغايرا لكل المرات السابقة في رأسي. صرت أفهم سياق الكلام. انزاح عني التوجّس. تبعثرت أكوام اليأس. تماهيت مع الصوت المبحوح ثم تساميت: سأفترض سيرة حياة لمن أظنها امرأة. خيالي خميرتي وما أسمع من وراء الجدار. سأسمّيها امرأة الصوت المبحوح. اسم ساحر يصلح عنوانا لرواية كتبتها أجاثا كريستي. قال خيالي: إني سألتقيها غروبا داخل عرض فني في سوق الخنازير، خلف ما يسمى القلعة Le Petit Chateau في بروكسيل إبان احتفالات تضامنية مع اللاجئين، سأراها تمسك جيتارا تعزف وتغني مع فرقة بلجيكية مُناصرة للأجانب”.

هذا الخيال الذي تبدأ في الاستعانة به يجعلها ترى ما تمارسه المرأة التي خلف الجدار، أي أنها بدأت بالفعل تحيا في حياة أخرى موازية لما تعيش فيه “تصورتها تجلس إلى طاولة سمر، كأسان قرب السرير، رجل في رواح ومجيء، قدمان في رواح ومجيء، ليس قدماها، وإنما نقرات حذائها ذي الكعب المُدبب على أرضية خشبية. إنه يجوب من الجدار المُلتصق بغرفتي إلى مكان آخر. هسيس أوراق يرافق الكعب المُدبب وهو في رواح ومجيء، مُقتربٍ مُبتعد: مُقبل مُدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من علِ، قفز بيت الشعر إلى رأسي فقهقهت. توقف كعب الحذاء، وتوقفت المرأة عن الكلام. هل سمعت ضحكتي؟ هل عرفت أني هنا؟ أصغيت! صمت مطبق حل هناك. ساعات مضت. ظهر يوهان واختفى. كل رد فعل فيه راكد. اشتد عود الصمت”، إن المرأة حريصة على تشغيل خيالها من أجل خلق عالم آخر موازٍ تستطيع من خلاله مُمارسة الحياة، كما لا يفوتنا هنا طريقة الكاتب في التقطيع الأشبه بالمُونتاج السينمائي الذي يحوّل الجُمل إلى لقطات مشهدية سينمائية.

صورة
لوحة إبراهيم برينو

إن هلاوسها السمعية التي تجعلها تستمع إلى سيدة الصوت المبحوح كان وسيلة فنية من الروائي يستطيع من خلالها الإفضاء إلينا بشيء من تاريخ المرأة وحياتها السابقة التي ما زالت مجهولة لنا حتى الآن؛ لذلك تبدأ الجمل التي تسمعها من المرأة التي تحكي من خلف الجدار تذكّرها غير مرة بماضيها وحياتها السابقة التي تستعيدها مرة أخرى بسبب تشابه ما يرويه الصوت مع حياتها الشخصية “الإيمان باستيعابي للقصة لم يحدث حقا إلا عند قولها: ذلك هو زنا المحارم! مُرتجفة كررتُ: ذلك هو زنا المحارم؟! ثم صفقني مس كهربائي: هل قالت زنا المحارم؟ هل قالت زنا المحارم؟ هل قالت زنا المحارم؟ قررتُ البحث عن التمرد الذي نام بداخلي نومة أهل الكهف! لم تكن ثمة من حاجة للبحث عنه، فقد هبّ من تلقاء نفسه. قلت له: ساندني يا تمردي في مقاومة الاستماع إلى امرأة الصوت المبحوح؛ فاستجاب وأغلق أذنيّ. طلبتُ منه أن ينأى بي عن قصتها؛ فاستجاب. توسلته أن يجنبني التفكير بذلك الماضي؛ فاجترح لي عصيانا في شكل استطرادات واستهجانات للرجال الوافدين على غرفة المرأة، واحتقار للذة التي يجنيها رجال يستمعون لهكذا قصص، وأطنان من التُهم والإدانات المُعادية للذكورية.  كل الرجال هكذا! كلهم يحبون المُحرم! كلهم زناة محارم، نيكروفيل! لا يمكن أن تتجرأ امرأة تنتمي إلى مُجتمع إسلامي في الحديث عن أسرار كهذه. لكنني انحشرت في الماضي حتى وأنا أجزّ رأس الماضي بمنجل”، هنا نبدأ في معرفة شيء عن تاريخ هذه المرأة؛ فنعرف أنها تدعى داليا رشدي، عراقية هاربة إلى بلجيكا من أجل طلب اللجوء السياسي، وأنها بينما كانت ما زالت طفلة اعتدى عليها خالها فأفقدها عذريتها، وخشيت أن تقول لأمها أو أبيها؛ ومن ثم كان لديها دائما قصة جاهزة عن فقد عذريتها حيث دخلت بعض الأعشاب والنباتات وأعواد الشجر فيها أثناء وجودها في النهر مما أفقدها عذريتها، وأن أمها تمتلك شهادة صحية تفيد بصحة قولها. هذه الحكاية المُختلقة هي ما ستفضي بها إلى ابن عمها حينما يربطهما الحب ويحدث أن يضاجعها ذات مرة قبل زواجهما؛ فتخبره بها، لكنه لا يهتم ولا يتوقف كثيرا أمام موضوع فقدها لعذريتها.

يبدأ الكاتب، هنا، في التنقل ما بين الحكايات التي ترويها صاحبة الصوت المبحوح، وبين الحياة الماضية لداليا رشدي في تقنيات سردية تتشابه إلى حد كبير مع ما نُطلق عليه في السينما تقنية المُونتاج المتوازي (Cross Cutting) أي أنه يتبادل الانتقال بين حكايتين متوازيتين، فنقرأ “هتفتُ إذ سمعتها في يوم تاسع: يا أخت! يا سيدة! يا آنسة! أنجديني! أنا عراقية مثلك! أنا لاجئة. اسمي اللبـ.، اسمي داليا رشدي، مولودة في بابل يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 1978م. أنا يسارية مُعارضة هربت مع زوجي أيام حُكم صدام حسين. في بلجيكا اصطدمت بتعاملهم مع اللاجئين. حين بلغ الأمر حدّ إيقاف الإعانات المالية الشهرية عنا أصبحت (كذا). أنا أحمل شهادة ماجستير في فن التمثيل من كلية الفنون الجميلة. أنا كاتبة رواية. قصة وصولي إلى هنا مليئة بتفاصيل لا تقوى على حملها الجبال (كذا وكذا وكذا) هل تسمعينني؟ اسم زوجي (فلان الفلاني). أنا أسكن بروكسيل. عنواني شارع موريس (الفلاني) رقم (كذا). أرجوك! أنجديني! بلغي الشرطة عن وجودي! إنهم يزرقونني حقنا عجيبة فأبدو ميتة. إنهم يقوّدون على الميتة التي هي أنا. يقوّدون على ما يسمونه جسد عاهرة فارقت الحياة حديثا. هل تقبلين أن يفعل أحد بك هذا؟ حكيت معها باللهجة العراقية؟ باللغة الإنجليزية؟ باللهجة الفلامانية؟ لا أتذكر! على الرغم من إدراكي بأن صوتي لا يصل أبعد من أسناني، وزفيري لا يتعدى شفتي، ما فتئ شيء غامض ينكش فيّ الصراخ. ولم أعترف بفشل محاولاتي إلا بعد ساعات من مُغادرتها وحلول الصمت الذي ظل صوتي يجول في أرجائه نداء تلو نداء”.

إذن، فالكاتب من خلال المراوحة بين حكايات سيدة الصوت المبحوح الآتي من خلف الجدار، وبين تذكر داليا رشدي لحياتها يبدأ في بث الحقائق التي سنعرف من خلالها هذه المرأة التي تم تحويلها إلى مُجرد جثة من أجل المُتاجرة الجنسية بجسدها؛ وهنا نعرف أنها حينما وصلت إلى بلجيكا مع زوجها تم التعامل معهما بفوقية لا يمكن تخيلها، وهي الفوقية والتعالي اللذين يتم التعامل بهما مع جميع اللاجئين، بل وتم تهديدهما أنهما إذا لم يقوما بقبول أيّ عمل مهما كان لا يتناسب مع مؤهلاتهما العلمية فسيتم قطع الإعانات المالية عنهما، هنا يتقابل الزوج مع أحد الأشخاص الحاصلين على اللجوء السياسي مثلهما، ويخبره هذا الشخص بأنه فلسطيني، واسمه سمير الأشقر، هارب من سوريا من أجل الحصول على اللجوء. يرتبط الاثنان بعلاقة صداقة وطيدة لنعرف بأن الفلسطيني يتزعم مافيا لتهريب المُخدرات والعمل في الدعارة، وتهريب البشر، وللقرب الشديد بينهما يتناسى الزوج كل المُثل والمبادئ التي كان يؤمن بها ويبدأ في العمل مع الفلسطيني اللاجئ إلى أن يكتسب موقعا مُهما وكبيرا في هذه الشبكة، ويصبح هو الرئيس! أي أن الرئيس الذي تتحدث عنه داليا منذ بداية الرواية هو نفسه زوجها وابن عمها الذي هربت معه من العراق، ويحدث أن تضبط داليا زوجها في فراشها مع إحدى الداعرات، وحينما تعترض وتلقي أمامه خطبة عصماء يواجهها بالكثير من اللكمات في وجهها ليخرسها مُخبرا إياها أن المرأة مُجرد عاهرة، بينما هي زوجته وابنة عمه، لكن ضبطه مع العاهرات في فراشها يتكرر أكثر من مرة، وفي كل مرة تلاقي منه من العنف الجسدي ما لم تكن تتخيله فيما قبل حتى أنه اتهمها ذات مرة بأنها ليست شريفة بدليل أنها لم تكن عذراء حينما تزوج منها؛ الأمر الذي جعلها تقع في الاكتئاب والعلاج النفسي، إلى أن بات يصطحب العاهرات معه إلى البيت في وجود داليا غير مُهتم به، أو ملتفت إليها.

هنا تبدأ داليا في التفكير كي ترد له الصاع صاعين، وبالفعل تستدرج أحد الرجال إلى فراشها، لكن بعد مُغادرته تشعر بالكثير من تأنيب الضمير، وتعاهد نفسها على عدم تكرار الأمر مرة أخرى، إلا أنها بعد فترة تكرر الأمر مرة أخرى؛ فيكون وقعها عليها أخف من المرة الأولى، وتكرره مرة ثالثة “لكن استقبال رجل ثان في السرير كان وقعه أخف. ورغم أن التجربة كانت موصومة باحتقار الذات، إلا أنها لم تمنعني من استضافة رجل ثالث التقيته في كراند بلاتس بعد أن غادر زوجي سريرنا علنا مع امرأة. تلك التجربة خففت عني وطأة التجربتين السابقتين. وعند مُشاركة السرير مع رجل رابع بانت لي معالم الطريق. طريق التعوّد. أما التجربة الخامسة فقد أنارت المدخل نحو فرادة المُتعة العابرة في اللقاء الحميم”.

هنا تبدأ داليا رشدي في التفكير الجاد في امتهان الدعارة، وليس مُجرد رد الصاع لزوجها صاعين؛ فلقد استشعرت جمال اقتسام الجسد مع أيّ رجل عابر، وبالفعل أنشأت لنفسها موقعا إلكترونيا، لتعرض فيه مواهبها وعروضها على طالبي المتعة، وتحديد أجرها، كما أصبح لها مُديرة أعمال تعمل على الاتفاق مع الزبائن وتنسيق المواعيد، وباتت داليا رشدي أسطورة العاهرات في بلجيكا، بما أنها تمتلك السحر الشرقي والبشرة السمراء حتى أنها أطلقت على نفسها لقب اللبؤة السمراء، ووصل صيت اللبؤة السمراء التي تحصل على أعلى سعر في الساعة إلى زوجها الذي أصبح هو الرئيس لمافيا التجارة في الجنس، ورغب الرئيس في تجربة اللبؤة السمراء؛ لذلك تواصل مع مُديرة أعمالها، وتم الاتفاق على الموعد في الفندق الذي تمارس فيه داليا عملها، وحينما دخل عليها فوجئ بأنها زوجته؛ الأمر الذي جعله يجنّ جنونه، ويرغب في تمزيقها، لكنها ألقت بزجاجة الويسكي في وجهه، وحاولت الهروب، وحينما عدا خلفها بينما الدماء تغرق وجهه صوبت مديرة أعمالها مسدسها تجاهه وأطلقت رصاصة استقرت في كتفه بينما هربت داليا منه.

إن الروائي حازم كمال الدين هنا يقلب الحدث تماما بشكل لم نكن نتخيله حينما يبدأ في كشف تاريخ الشخصيات لنا، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يعمل على إيصال الدهشة إلى مداها الأكبر حينما نقرأ “انتهى الاستجواب بإدخاله غرفة عمليات لإخراج الطلقة من كتفه، وبتكليف الشخص المدني كتابة تقرير إلى مسؤول كبير في وزارة الداخلية يفيد بأن الرئيس توصل بمعلومات تفيد أن زوجته مُنتمية لتنظيم داعش في بلجيكا، وأنه وفقا لمعلومات مُسبقة داهمها في اجتماع للتنظيم في حي برخم Berchem داخل مدينة أنتورب، ولما أراد الاتصال بالشرطة أطلق عليه أعضاء التنظيم النار؛ فأصيب في الكتف، وكاد يُقتل لو لم ينقذه السيد يوهان دو فريز الذي شهد الواقعة. هذا وسوف تُقدم كافة الأدلة التي تُثبت تورط السيدة داليا رشدي مع تنظيم داعش إلى العدالة البلجيكية. بمُنتهى السهولة لفق لي تُهمة انتماء لتنظيم داعش، اشتري من العراق وثائق مزورة تثبت ذلك، زاد عليها وثائق تثبت أني ضالعة في أحداث 11 سبتمبر 2001م، لكن اسمي لم يظهر في تحقيقات الأف بي آي الأميركية لأسباب غير مفهومة”!.

ألا نلاحظ هنا الأحداث المُدهشة التي أقحمنا الكاتب إليها، وهي الأحداث التي لم نكن نتخيلها من قبل، إن هذا الاتهام الأخير للزوجة سيجعلنا نتساءل: إذا كان الزوج قد نجح في تلفيق هذه التهمة لها، وهي التهمة التي أخذت بها الشرطة البلجيكية بالفعل وبدأت في مُحاكمتها، والاتفاق مع السلطة العراقية من أجل إعادتها إلى العراق، وهو الأمر الذي جعل الحكومة العراقية تعمل على مُحاكمتها غيابيا والحكم عليها بالإعدام بمُجرد عودتها إلى العراق. نقول: إذا كان كل هذا قد حدث بالفعل، فكيف ظلت داليا رشدي موجودة في بلجيكا، وكيف فعل زوجها بها كل ذلك وأوصلها إلى أن تكون مُجرد جثة يضاجعها الشواذ؟

إن أسلوب الإثارة والغموض اللذين يتبعهما الكاتب محاولا الحفاظ عليهما حتى نهاية روايته، يجعلنا دائما في حالة من التساؤل التي لا تنتهي، وهي الحالة التي تمسك بتلابيبنا، وتجعلنا في سباق حقيقي مع السطور والصفحات من أجل معرفة الحقيقة، ولعل هذه الأسلوبية في السرد – الحفاظ على انتباه القارئ – من أهم ما يجب أن يميز أي فن؛ لأنه من دون إثارة التساؤل الدائم في نفس المُتلقي، سينصرف عن العمل الفني الذي يتلقاه، ومن ثم يصبح بالنسبة إليه غير مُغرٍ للاستمرار فيه.

ينجح زوجها/الرئيس في تهريبها من الطائرة حينما يتم الاتفاق على ترحيلها إلى العراق، وهنا يبدأ في استغلالها في شبكة الدعارة الضخمة التي يديرها بتقديمها إلى الشخصيات المُهمة في بلجيكا، لكن في إحدى المرات يطلب الرجل الذي يدخل معها أن تجلس على عضو ذكري صناعي فوق رأسه، وأثناء جلوسها عليه تنفلت أمعائها ومن ثم تتبرز على وجه الرجل؛ الأمر الذي يجعله يثور ويهدد الرئيس نفسه بالقتل، فيتم تهريبها من القصر مع يوهان الذي يأخذها في الليموزين إلى الغرفة التي حبسها فيها لحين وصول أوامر الرئيس بتحويلها إلى جثة من أجل الاستفادة منها بطريقة جديدة – المشهد الأول الذي بدأت به الرواية – أي أن الكاتب قد بدأ روايته في صفحاتها الأولى من الربع الأخير من أحداث الرواية، واستمر معها بمثل هذا الشكل الفني كي يصل معنا إلى هذه الأحداث، ومن ثم يستمر في روايته.

تستمر داليا في سماع حكايات سيدة الصوت المبحوح التي تأتي إليها من خلال الجدار المجاور لها، وتتوهم أن سيدة الصوت المبحوح تحكي بأنها روائية عراقية قد لجأت إلى بلجيكا بعدما كتبت رواية في العراق، رأى المُحرر الأدبي لها بأنها أفضل رواية كُتبت في تاريخ العراق، يحدث أن تربط بين هذه الكاتبة، التي عرفنا فيما بعد أن اسمها شبعاد البابلي، وبين المُحرر علاقة عاطفية إلى أن يضاجعها فتطلب منه الزواج لكنه يتهرب منها، هنا تهدّد شبعاد بفضحه؛ الأمر الذي يجعله راغبا في التخلص منها بتسليم روايتها إلى الناشر الذي يدفع بالرواية بدوره إلى وزارة الإعلام من أجل الحصول على إذن النشر، لكنها – بما أنها كانت تهاجم السلطة العراقية في عهد صدام – يُحكم عليها بالإعدام فتحاول الاختفاء إلى أن تنجح في الهروب إلى بلجيكا، وهناك تتحدث في أوساط المُثقفين عن الجنس عند العرب، ووصول المرأة إلى الأورجازم؛ الأمر الذي يجعلهم مُعجبين بها باعتبارها فيمينيست، ويروّجون لها رغم ضحالة ما تقوم بكتابته.

لوحة إبراهيم برينو
لوحة إبراهيم برينو

يلجأ الكاتب بذكاء وفنية إلى التماهي مع روايته فيدخل فيها بأحد أعماله الروائية السابقة أولا، ثم لا يلبث أن يدخل في الرواية باسمه وشخصه الحقيقي؛ لذلك نقرأ “وسط تخبطاتي سمعتها تقول إنها زارت صديقتها الحميمة وبكت أمامها على ضياع ‘مروج جهنم’ هذه المرة مروج جهنم!؟ أستغفر الله العظيم! أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له! هل سمعت ذلك جيدا؟ طغى الأدرينالين واغرورقت عيناي بغمام أزرق. ازرقّت الغرفة بدورها. عيناي مفتوحتان على مدى أزرق. في السقف المزرق بهتت شخصيتا الخالق وآدم. تحركت أحشائي حقيقة، لا وهما ولا بسبب التسمم. لم أصدق تحرك أحشائي. هل قالت مروج جهنم حقا؟”. إن القارئ للروائي العراقي حازم كمال الدين لا بد أنه يعرف بأن الروائي كان قد سبق له كتابة رواية بمثل هذا الاسم من قبل، أي أنه يُدخل عمله السابق داخل عمله اللاحق في حالة من حالات التماهي الفني، وهذه الرواية التي تتحدث عنها صاحبة الصوت المبحوح أو شبعاد البابلي هي الرواية التي سبق لها أن كتبتها في العراق والتي كادت تؤدي بها إلى الإعدام، كما ترى شبعاد أنها لم تكتب مثلها من قبل، وأنها الرواية التي ستجعلها شهيرة حينما تقوم بترجمتها إلى العديد من اللغات الأجنبية الأخرى.

لكن الروائي هنا يصر على إرباك القارئ بأحداثه المُربكة؛ ومن ثم يفرد فصلا كاملا لشبعاد البابلي باعتبارها امرأة عراقية لاجئة إلى بلجيكا بالفعل وسبق لداليا رشدي أن قابلتها وارتبطتا معا بصداقة كبيرة، إن الإرباك هنا يأتي من أن الكاتب في البداية قد كتب على لسان داليا بأن ثمة تشابه بين كل من سيدة الصوت المبحوح وبين شبعاد باعتبارهما امرأة واحدة، ثم لا يلبث أن يفرد فصلا لشبعاد باعتبارها امرأة مُنفصلة عن سيدة الصوت المبحوح، أي باعتبارها حقيقة واقعة بما أن سيدة الصوت المبحوح ليست سوى هلاوس تهلوس بها داليا التي دمر المحلول الذي يتم حقنها به أجهزة جسمها، وإدراكها.

رغم أننا نصل إلى هذا الحد من الأحداث المُتشابكة والمُتداخلة التي تأتي على لسان داليا رشدي، إلا أن الكاتب يفاجئنا بذكاء بأن داليا رشدي إنما كانت تروي كل هذه الأحداث أثناء جلوسها على كرسي مُتحرك أمام أحد المُنتجين السينمائيين الذي ذهبت إليه بعدما كتبت كل ما حدث لها من أجل تحويل قصتها إلى فيلم سينمائي هوليودي كبير “في الواقع، رغم أن جسدي في نهاية المطاف حطم نفسه بطريقة يستعصي إصلاحها، إلا أنني فرحة بثورته. السيد الجالس خلف مكتبه أمامي لم ينبس ببنت شفة حتى الآن! من حوالي ساعتين وأنا أحكي بلا توقف إلا ما تمليه حاجات حنجرتي من ماء والتقاط أنفاس. لأكثر من مرة وددت أن أبدي استغرابي من شرودكم أو صمتكم طوال الوقت. هذا المشروع طوّرته وجئت خصيصا به لأجلكم. نحن على موعد من مدة طويلة. في إيميلي أخبرتكم كيف سيتخذ الرجال النيكروفيل في مخطوطتي بُعدا إنسانيا بواسطة تحويلهم إلى أبطال روائيين على ورق لا مُجرمين في الشوارع، وكان جوابكم أن الثيمة مُهمة، وأنكم تودون اللقاء بي في أول موعد تسمح به أجندتكم. في الإيميل أخبرتكم أن لي الشرف أن أضع هذه الثيمة والمخطوطة بين أيديكم كمُنتج هوليوودي مرموق”.

إذن، فالكاتب ما زال مُصرّا على إدهاش القارئ وامتلاكه حتى آخر ما سيخطه في روايته. يتمثل الإدهاش هنا في هذا الانقلاب الذي أحدثه في الرواية – الذي يتشابه تماما مع ما نُطلق عليه في السينما “التويست” أو الانقلاب في الأحداث –  والذي ينجح من خلاله بالفعل في الحفاظ على انتباه القارئ الذي قد يظن بأنه قد وصل إلى حقيقة ما حدث، لكنه سيعود ويكتشف بأن الكاتب هنا إنما كان مُخادعا له، وهو يتعمد هذا الخداع من أجل استمرار المُتلقي في الانتباه بشكل أكبر، أي أن الكاتب هنا يستحوذ على القارئ تماما بما يتبعه من أسلوب وتقنيات سردية تتقارب مع الأسلوب السينمائي – هل نتذكر التفات الروائي السردي أكثر من مرة أثناء أحداث الرواية بالحديث إلينا أو إلى بعض الأشخاص عامدا إلى كسر الإيهام بالمفهوم البريختي؟ هنا نستطيع أن نفهم لماذا كان هذا الالتفات الذي لمحناه أكثر من مرة؛ فالساردة/داليا رشدي حينما كانت تكسر الإيهام إنما كانت تتوجه بحديثها إلى المُنتج السينمائي الذي تتحدث إليه وتروي له السيناريو الذي كتبته عن حياتها، ومن ثم نفهم أنها لم تكن تلتفت إلينا نحن كقراء في المقام الأول.

هنا يحرص كمال الدين على كتابة فصل بعنوان “اختتام”، ليليه بمقطع يحمل اسمه نفسه “حازم كمال الدين” وهو المقطع الذي يروي فيه على لسانه هو كروائي كتب هذه الأحداث، أي أن الكاتب هنا قد عمد إلى إدخال نفسه داخل العالم الروائي وكأنه شخصية من شخصياته، وبدأ يضع اللمسات النهائية للرواية “عليّ أن أخبر القارئ بأن اكتشاف البوليس البلجيكي لما حدث مع داليا رشدي وإنقاذها من الموت المُحتم تم ببساطة تناقض تعقيدات الرواية وحبكتها البوليسية. في مرحلة ما من خضوعها لتلك الحقن تراجعت صحتها حدّ أن أُصيبت بمضاعفات خطيرة أوصلتها للاحتضار”، يستمر الروائي في سرد ما حدث لداليا رشدي، وأن يوهان قام بمُهاتفة الرئيس الذي أسرع بالذهاب إليه لمحاولة إنقاذ داليا من الموت، وهو الأمر الذي جعله يضعها على كرسي مُتحرك والإسراع بها إلى عيادة أحد الأطباء القريبين من المنطقة، وأثناء عبوره لإشارة المرور بها، تأتي إحدى السيارات مُسرعة فتدهس العابرين وتصطدم بالرئيس وداليا الجالسة على الكرسي المُتحرك مُحتضرة، هنا يفقد الرئيس الوعي، بينما يحاول السائق إنقاذ داليا بإيصالها إلى إحدى المستشفيات التي تعمل على علاجها وإنقاذها من الموت؛ حيث يعرفون كل ما حدث لها ويتم إلقاء القبض على الرئيس/زوجها، وتكون قضية رأي عام وفضيحة كبرى في وسائل الإعلام البلجيكية.

بعد هذا المُلحق يفاجئنا الكاتب بمُلحق جديد بعنوان “الرئيس” وهو المُلحق الذي يتحدث فيه عن زوج داليا رشدي “مُقتبس من مُختلف محاضر البوليس البلجيكي. لا يُعرف للمومأ إليه في العنوان اسم حقيقي. وصل بلجيكا بجواز سفر عراقي يحمل اسم دانيو لوراس. بيد أن السفارة العراقية أعلمت وزارة الخارجية البلجيكية أن لا وجود لمثل ذلك الاسم في السجلات المدنية، وعندما تمت مُقارنة صور المُومأ إليه بصور السجلات المدنية العراقية رجُحت أن يكون اسمه حازم كمال الدين”.

بالتأكيد لا بد أن تنتاب القارئ هنا الدهشة العارمة؛ فالكاتب يقحم نفسه باسمه وشخصيته داخل السرد الروائي، بل ويحاول التماهي مع شخصية الرئيس الإجرامية التي قامت بكل هذه الجرائم. لعل هذه الطريقة الفنية التي يمارسها الروائي هنا بمُتعة مُنقطعة النظير من الأساليب الفنية التي من شأنها أن تعمل على قلب العمل الروائي بالكامل حتى أنها قد تُسقط ثقة المُتلقي فيه، لكن الكاتب هنا استخدم هذه التقنية الفنية بذكاء جعل كل أحداث الرواية شديدة الالتباس، كما جعلت القارئ يدرك أن الروائي هنا يتلاعب به باستخدام العديد من التقنيات الفنية التي تجعل من السرد مُجرّد لعبة فنية.

في مُلحق ثالث بعنوان “شبعاد البابلي” يؤكد من خلاله الروائي على أن شبعاد البابلي شخصية حقيقية تبعا لبعض المُذكرات التي كتبتها داليا رشدي بعد طلب طبيبها النفسي ذلك، ويبدأ الروائي في سرد حكايتها المُختصرة، لكنه يكتب في نهاية المُلحق “في الواقع لم نعثر لشبعاد البابلي على أثر في بلجيكا. وقد أفاد المُتّهم ذو الأسماء الخمسة أو أكثر بأنه لا يعرف شخصية بهذا الاسم، بينما أكدت ضحيته داليا رشدي بأن شبعاد البابلي صديقتها الأعز، وبأنها كانت تسمعها تلقي فصولا من خماسيتها المُسماة مروج جهنم في المبغى الذي أُخفيت فيه. في قوائم دور النشر البلجيكية لا وجود لاسم شبعاد البابلي. السيدة داليا رشدي أخبرت الطبيب النفسي بأن الكاتبة تنشر تحت اسم مُستعار هو شيّ ماء الصقر. في الإنترنت باللغة العربية وجدنا أن شيّ ماء الصقر هو الاسم المُستعار لي، أنا حازم كمال الدين مؤلف هذه الرواية! في سجلات مفوضية اللاجئين ثمة نساء كثيرات تنطبق عليهن مواصفات شبعاد البابلي، لكن لم يثبت على أيّ منهن العمل في مهنة البغاء”.

ألا نُلاحظ هنا أن الكاتب يكاد أن يتلاعب بالسرد الروائي، وبالمبنى الروائي بالكامل حتى أنه يكاد أن يهدمه من خلال تلاعبه الفني به؟ إنه هنا يوهمنا بأن كل الأحداث السابقة من المُمكن ألا تكون قد حدثت بالفعل، وأنها كانت محض خيالات تدور في ذهن داليا رشدي التي يتم علاجها من قبل الأطباء النفسيين، صحيح أنه لم يؤكد مثل هذا الظن، لكنه يدفع به إلى طريقنا، ويوحي به إلينا؛ من أجل تشكيكنا في المتن الروائي بالكامل، كما أنه من جهة أخرى يحرص على المزيد من التماهي بينه وبين نصه الروائي بإدخال نفسه داخله، بل والالتفات إلينا هذه المرة مُتعمدا ليخبرنا بأنه هو كاتب النص الروائي الذي نقرأه، وأننا أمام تشابه بينه وبين شبعاد البابلي التي كتبت روايتها “مروج جهنم” بينما نعرف أنه هو أيضا قد كتب رواية بمثل هذا الاسم.

إن حالة الشك والارتياب التي يترك فيها الروائي العراقي حازم كمال الدين قارئه هي حالة تجعل القارئ مُتشككا في كل ما قرأه من أحداث روائية، وهو – كروائي – يتعمد إيصال القارئ إلى مثل هذه الحالة من الارتياب كشكل من أشكال اللعب الفني التي تدفع بالنص إلى مُتاخمة حدود المُقامرة بالنص بالكامل، وربما انهياره الفني في نظر القارئ الذي قد لا يتفهم هذه الحالة الفنية من التلاعب؛ ومن ثم ينصرف عن النص.

لكن، لا يمكن إنكار أن الكاتب هنا كان من الذكاء الفني، والدربة، والمهارة ما جعله يمسك بتلابيب نصّه والقارئ معا في بوتقة واحدة، مُحافظا عليهما من أجل صالح النص الذي يتميّز بالكثير من الإدهاش والمقدرة الفنية على كتابة نص روائي مُختلف عمّا تدفع به دور النشر من أعمال روائية كل يوم.

تأتي رواية “الوقائع المُربكة لسيدة النيكروفيليا” للروائي العراقي حازم كمال الدين كرواية مُنفردة وجديدة سواء في عالمها الروائي وأحداثه، أو في محاولة الروائي انتقاء تقنيات سردية بعينها تعمل على خدمة النص فيما يرغبه الروائي، أو في استعارة العديد من التقنيات من مجال السينما ليوظّفها في خدمة نصه السردي ليبدو لنا النص في نهاية الأمر كمشهد كلي مُتكامل قادر على الإدهاش والتجديد في الجنس الروائي، ولعله لا يفوتنا هنا امتلاك كمال الدين من الأسلوبية السردية ما يجعله قادرا على تحويل الكلمات التي يكتبها إلى مشاهد بصرية تترى على ذهن المُتلقي لتنسال على جداره، حتى لكأن القارئ يجلس أمام شاشة سينمائية لمُشاهدة أحد الأفلام مُستمتعا بها، وليس مُجرّد قارئ تمرّ عيناه على مجموعة من العبارات والجُمل المصفوفة التي يقوم بقراءتها، وهي أسلوبية قلما تتأتى للكثيرين من كتاب الرواية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.