أسطوريات رولان بارت
بعكس ما يوحي به عنوان كتاب “أسطوريات” للناقد الفرنسي رولان بارت، الصادر هذا العام عن “دار الجمل”، ألمانيا، بترجمة جديدة أنجزها توفيق قريرة، وراجعها ناجي العونلّي، فهو لا يتناول بالتحليل السرديات الأسطورية الموروثة من الأزمان السحيقة. فلذلك النوع من الأساطير اختصاصيوه من العلماء الأنثروبولوجيين، أما بارت، الناقد البنيوي والسيميولوجي، فسيحكي لنا فيه عن نوعٍ آخر من الأساطير؛ أساطير عصره، الآن وهنا، عن “أساطير الحياة اليومية الفرنسية “، وقد ارتدت شكل الكلام، والكتابة، والصُوَر، والمعارض، والألعاب الرياضية، وغيرها. سيتحدث بارت عن هذا ‘الطبيعي’ الذي تُلبِسه الصحف والفن والحسّ المشترك باستمرار لباساً مضحكاً من الواقع..”، عن الطبيعة والتاريخ وقد احتدما في سردية واحدة، عن الخداع “الذي يُحوِّل ثقافة البرجوازية الصغيرة إلى طبيعة كلّية”، عن “اللازمانية” التي تسم بشكلٍ عام أية أسطورية؛ رغبة الخطاب الأسطوري الدائمة في احتواء الماضي والحاضر والمستقبل ضمن القول الواحد.
ويتألف كتاب “أسطوريات” من قسمين؛ قسم أوّل ضم نصوصاً ولوحات رصد المؤلف من خلالها البعض مما كان يستجد حوله يومياً من أحداث، ونشرها تباعاً بين عامي 1954 و1956 في بعض المجلات الفرنسية، وقسم ثانٍ بعنوان “الأسطورة اليوم”. وهذا القسم الثاني بالغ التكثيف، وأيّ استعراضٍ موجزٍ له مضطرٌّ لا محالة لإغفال بعض أفكاره الأساسية. ويمكن القول إنه يتضمّن تعريفاً منهجيّا لما رأى بارت أنه أساطير، وتحليلاً “علاماتياً” لتلك الأساطير بما هي “شكل”، بالاستناد إلى “علم اللغة العام ” وإلى علم الإشارات “السيميولوجيا”، وكلاهما يدرسان العلامات والأشكال بمعزلٍ عن مضمونها. أما تحليل المضمون -وهو عبارة عن “الخداع الذي يُحوِّل المعيار البرجوازي إلى طبيعة كُلِّيّة”- فقد لجأ فيه بارت إلى الأيديولوجيا، أو بشكلٍ أدقّ إلى “ماركسية ” اليسار الفرنسي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.
إنّ التحليل العلاماتي الذي فكّك بارت من خلاله مكوِّنات الأسطورة المعاصرة ثم أعاد تركيبها بكيفية جديدة يشكّل مغامرة جريئة ورائدة في تشييد علمٍ كان لا يزال إلى لحظتها علماً وليداً. وفي تشييده لذلك العلم لم يلجأ بارت إلى قواعد سابقة عليه، بل انطلق من الشواهد إلى القواعد؛ أيْ من الجزء إلى الكلّ، وبالعكس. وسيعود بارت في كتابٍ آخر له عنوانه “مبادئ علم السيميوطيقا ” الصادر عام 1964 إلى تزويد ذلك العلم، الذي لم يعد بعد وليداً، بدعامات نظرية جديدة، أهمها اعتبار “السيميولوجيا” جزءاً من علمٍ أوسع هو “علم اللسانيات”، لا سيما أن تطوّر “السيميولوجيا” كان قد توصّل إلى حقيقة مفادها أنه “لا توجد في الحياة المجتمعية أنظمة إشارية غير اللغة البشرية”. وكتاب “مبادئ..” هذا كتاب أكاديمي، لا يمتلك خصيصتَيْ “الرشاقة” و”السهولة النسبية” اللتين امتاز بهما كتاب “أسطوريات”، واللتين ستجعلان منه واحداً من أكثر مؤلفات رولان بارت شعبية. وللتدليل على هذا أشير إلى أنّ في مكتبتي الشخصية الافتراضية ترجمة إنكليزية للكتاب، مطبوعة في نيويورك عام 1991، ومكتوب على غلافها أنها الطبعة الخامسة والعشرون. وحقيقة أن قارئنا العربي لم تُتَحْ له فرصة التعرُّف على هذا الكتاب الممتع إلا مؤخّراً، أيْ بعد نحوٍ ستة عقود على صدور طبعته الفرنسية الأولى، هي من الحقائق المؤسفة لواقعنا الثقافي العربي المزري!
وفي البداية يقدّم بارت تعريفاً، أو بشكل أدقّ مجموعة تعاريف للأسطورة؛ فهي “منظومة اتصال”، و”رسالة”، و”صيغة من صيغ الدلالة”، وكلّ “شكل” يخضع للاستعمال الجماعي، ويجرى إخضاعه لمتطلبات خطابٍ ما يتحوّل إلى أسطورة. وهذه الأساطير تأتي على هيئة تلفُّظ، أو كتابة، أو صُوَر، أو دعايات، أو رياضة، أو أنشطة ثقافية أو اجتماعية،…إلخ. وأسطورية أيّ شكلٍ من هذه الأشكال لا تنبع من طبيعتها بل من حقيقة أن التاريخ، ولأسباب أيديولوجية معيّنة، اختارها ليجعل منها أسطورة. وعلى هذا فالتاريخ هو الذي يحيي الأساطير وهو الذي يميتها ويقيم غيرها، فهي كالثعابين، إذا جاز لنا هذا التشبيه، قادرة دوماً على تغيير أثوابها!
غير أن التعريف الأكثر إثارة للفضول هو التعريف الذي يفتتح به بارت القسم النظري، الثاني هذا، من كتاب “أسطوريات”: “الأسطورة كلام، ولكن ليس أيّ كلام”. فهو، على الفور، يُنشئ في أذهاننا اشتباكاً مع التعارض الشهير، تعارض السيرورة والنظام، الذي كان عالم اللغة السويسري الشهير “فرديناند دو سوسير” قد أقامه بين”اللغة ” بما هي “مؤسسة مجتمعية، ونظام من القيم الخالصة” و”الكلام” بما هو “المجموع الكلّي للعادات اللغوية التي تساعد الفرد على أن يفهم غيره ويفهمه غيره”. وبما أن سوسير كان قد صرف اهتمامه لاستخلاص القوانين العامة التي تعمل اللغة، أيّْ لغة، بمقتضاها، فقد استبعد “الكلام الشفويّ” من دائرة اهتمامه، بعد أن رأى أنّ الكلام يصير “لغةً”، بمجرد أن يتمّ إدراكه كعملية تواصل. وبالتالي -وبحسب تعبيره الشهير- “لا علم إلا علم اللغة”.
إن استعادة بارت هنا للكلام في معرض تعريفه للأسطورة لا يُقصَدُ منه القول بأنها محض نشاط لغوي شفوي؛ فقد رأينا فيما مضى كيف أنها قد تأخذ شكل كلامٍ شفويّ، وقد تأخذ أيضاً شكل كتابة، أو صورة، أو دعاية إعلانية، أو معرض، أو مباراة، وإلى آخر ما هنالك من “تمثيلات مجتمعيّة”. فحديث بارت هنا عن “الكلام” يشير إلى الصيغة الأمرية – الاستدعائية للأسطورة. فأساطير عصرنا صُنعت كي تنظر في عيوننا مباشرةً، ولتخاطبنا وجهاً لوجه؛ (إنها تقصدني) بحسب التوصيف الحرفي الذي استخدمه بارت. وعلى هذا ففي الأسطورة “متحدّث” و”مُستمع “، إنْ غاب أحدهما بَطُلت الأسطورة، واختفت دلالتها. وعندما يصف بارت الأسطورة بأنها كلام فهو يتحدث عنها كـ”شكل”، رغم أنه -وبحسب كلامه- لا توجد في الحياة إلا “كُلّية” لا فصلَ فيها بين الشكل وبُنيته.
والآن، ولكي يكون استعراضنا للكتاب أكثر ملموسيّة فسنستشهد بحكاية، أو لوحة من اللوحات الكثيرة التي ضمها كتاب “أسطوريات” وهي صورة الجندي الفرنسي الأسود، المنشورة على غلاف أحد أعداد صحيفة باري ماتش الفرنسية: أنا عند الحلاّق -يقول رولان بارت – ويُقَدَّمُ لي عددٌ من مجلة باري ماتش، وعلى الغلاف شاب زنجي يلبس زيّاً عسكرياً فرنسياً، ويؤدي التحية العسكرية، وعيناه مرفوعتان، ومثبتّتان، بلا شك، على طَيّ عَلَمٍ ثلاثي الألوان (العلم الفرنسي)، هذا هو معنى الصورة. ولكنني سواء كنت ساذجاً أم لا فإنني أفهم ما تعنيه الصورة لي: فهي تعني أن فرنسا إمبراطورية كبرى، وأن جميع أبنائها ودون فروق في لون البشرة يخدمون بوفاء تحت رايتها، وأنه ما من ردٍّ أفضل على من يُشَنِّعُ على استعمارٍ مزعوم إلا هِمّة هذا الزنجي في خدمة من يُعتَقَدُ أنهم مضطهِدوه.
فصورة الزنجي الأسود التي احتلت كامل غلاف باري ماتش ليست صورة عادية، بريئة، بل هي “أسطورة”، و”منظومة إشارات” تتضمن ثلاثة حدود: الدالّ، والمدلول، والدلالة. فالدالّ هنا هو الصورة وهي شكل. والمدلول: جندي أسود يؤدّي التحية العسكرية الفرنسية، أما ما ينشأ عن التحام الدالّ والمدلول فهو الدلالة. والدلالة هنا هي خليطٌ قصدّي للفَرْنَسَة والعَسْكَرَة.
والحديث عن دلالة الأسطورة يقود بارت إلى الحديث عن الجهة، أو الجهات (البرجوازية الكبيرة، وحليفتها، أو بشكلٍ أدقّ التابعة لها؛ البرجوازية الصغيرة) التي تقف وراء عملية صنع الأساطير وترويجها. وهنا يصبح كلام بارت أيديولوجيا بامتياز، يفضح من خلاله الصحف الشعبويّة الرخيصة (الصحف الصفراء)، ووسائل الإعلام الجماهيري، المملوكة من قبل القوى المالكة لوسائل الإنتاج الاقتصادي، التي تُحرّف الخطابات البريئة، فتحرمها من حكاية قصتها الأصلية، وتجبرها على قول حكاية أخرى من شأنها إدامة “القِيَم البرجوازية”. وهذا التحليل سيجعل من كتاب “أسطوريات” واحداً من أكثر كُتُبِ بارت سياسيّةً، وبالأخصّ متى تذكّرنا أن النقاد البنيويين -وبارت منهم- لا يلتفتون في العادة إلى ما هو خارج النصّ.
إذاً -وبحسب بارت- فإنّ الأساطير هي، بامتياز، صناعة برجوازية، نظراً إلى أنها الطبقة الحاكمة، الممسكة بآليات ووسائل صنع الخطاب. ومن خلال سبعة أشكال بلاغية يرد فيها الدالّ الأسطوريّ (التلقيحية، والحرمان من التاريخ، والمماثلة، والحشو، واللا لائية، وتكميم النوعية، والمعارضة)، تتكيّف الأساطير البرجوازية مع التمثيل التاريخي للعالم، وترتسم وجهات النظر العامة للطبيعة الزائفة التي تُحدّد حُلُمَ العالم البرجوازي المعاصر.
وما سبق من كلام وحتى الآن يخصّ بالتحليل الأساطير البرجوازية، أيْ الأسطورة “يميناً “. ولكن ماذا عن الأسطورة “يساراً”؟ ألا يُنتج اليسار (البروليتاريا، والشعوب المستعمرة، وهنا يضيف بارت في الهامش ملاحظة تقول: إن الشعوب المستعمرة في عالمنا الراهن هي التي تتحمّل اليوم وبالكامل الوضعية الأخلاقية والسياسية التي وصفها ماركس بأنها وضعية البروليتاريا) هو الآخر أساطير خاصة به يُخفي من خلالها سردية الآخر ويُظهر سرديته فحسب؟ ويجيب بارت عن هذا السؤال بالإيجاب.
فهنالك أساطير يسارية ولكنها أساطير عارضة وفجّة، واستخدامها ليس جزءاً من استراتيجية ما. فلغة الإنسان المُنتِج تقولُ اللغةَ (أيْ الكلام الواجب، والموضوع موضِعه) ولا تقول عنها. ولأنها، أيْ قوى الثورة، تعلن عن نفسها أنها ثورة فلا يمكن للغتها أن تكون أسطورية، على عكس البرجوازية التي بامتناعها عن وصف نفسها بأنها برجوازية فهي لا تحكي اللغة بل تحكي عنها. وبإشارات مقتضبة، إنما بارعة، يحدّد بارت السمات المميزة للبرجوازية الفرنسية منذ الثورة الفرنسية حتى الآن؛ فهي حقيقة اقتصادية على الصعيد الاقتصاديّ، أما سياسيا فتتعرّف على نفسها بشكل سيء، لا سيما أنها دأبت منذ الثورة على إخفاء نفسها داخل فكرة الأمة الفرنسية، الأمر الذي سمح لها باكتساب الضمانة العددية لحلفائها، من برجوازية متوسطة وصغيرة. أما أخيراً، وعلى الصعيد الأيديولوجي فتسعى البرجوازية جاهدةً لإخفاء نفسها كحقيقة أيديولوجية، الأمر الذي يمكّنها بالاستعانة بالأساطير التي تصنعها عن نفسها وعن العالم من إفراغ التاريخ من الواقع واستبداله بالطبيعة، وهو ما يقود حتماً إلى تصوير المعايير البرجوازية باعتبارها قوانين حتمية لنظام طبيعي: تحصيل حاصل!
تلك هي أبرز الأفكار الواردة في كتاب “أسطوريات”. وبقي أن نقول أخيراً إن للكتاب ترجمة أخرى قام بها د. قاسم مقداد، وصدرت عام 2012 عن دار التكوين، في دمشق، وقد قرأتُ ترجمة مقداد، ولم أجد فيها عيوباً تستوجب إعادة ترجمة الكتاب. ورغم أنه لا يمكن من حيث المبدأ إلا الترحيب بالترجمات مهما تعدّدت، فإنه بسبب قُربِ العهد بالطبعة الدمشقية كان الأجدى أن ينصرف الجهد المبذول في ترجمة ومراجعة الطبعة الجديدة من “أسطوريات” إلى أعمالٍ أخرى لم تجر ترجمتها بعد إلى العربية، وما أكثرها.