أسفلت أسود حالك
أحياناً أحس أن البيوت على وشك السقوط،
ولكن هناك باب يُفتح: وإذا بالصبية التي كبرت
تأخذ بيد شقيقاتها الصغيرات لتتمشى معهن في “الجنينة”.
مازال على الكاتب أن يتحايل، لانتزاع مساحة من الحرية
ومازلت أشم رائحة جثة محترقة لشاعر منتحر اسمه: “أحمد عبيدة”.
في المقر الحكومي، تجلس النساء على كل المقاعد.
وأمام كل امرأة شاشة كومبيوتر، ودولاب العمل لا يتوقف: ولكن يؤرقني إحساس دائم بالخسارة،
كانت المرأة بالزي الرياضي تقفز بالزانة
لتتفوق على الجميع بفخذين تشبهان سمكتين، وبذراعين حميمتين
ليصفق الجمهور بحماسة، وهنا يفصل الشحن عن محمولي
وتضيع فرصتي للبحث عن صديقتي التي ضاعت
منذ يومين في فضاء الفيسبوك:
فأيقنت أن حالة الهذيان حولي لا تتوقف،
وأن كل مكسب خسارة، وأننا نخسر العمر دون أن نحقق شيئاً
كان الببغاء واقفاً يثرثر فوق إشارة المرور
والعجوز تمشي بصعوبة لفرط الهزال والضعف،
تبيع المناديل عند مدخل محطة المترو
وأغاني الشيخ “إمام” لازالت تصدح في أجهزة الكاسيت التقليدية،
وكنت كلما حركت الماوس، شعرت باليأس أكثر، وشاشة الكومبيوتر تبتلع الحدود:
التنبؤات كابوس، والرضا كابوس، والرفض كابوس
في يدي الكتالوج الكبير، ولكني لم أفهم منه شيئاً
وأمامي تمر الصبية حمراء الخدين دون ماكياج
فقلت: على الرغم من كل شيء فسأمشي متمهلاً
بين أصص الزهور القطيفية المتراصة على الجانبين
متأملاً الزمان وهو يوزع الخسائر على حياتنا
الصبية حمراء الخدين دون ماكياج لا تزال تبتسم
بينما الكهل يجلس على الكرسي الجلدي بالـ”فانلة” و”الشورت”
ليبكي بكاء حاراً، وفي الحقيقة:
لم يكن الغبار على المرآة، بل كان على عينيّ
الجدية والهزل ندان، والتضليل الإعلامي يـطن طنينه اليومي،
والمعاني كلها مكسورة في الذات:
نظل نمشي في الشوارع الكبيرة، والجانبية، لكي نخسر الكثير،
نتخطى الحواجز والعقبات، لكي نخسر الكثير
نركب السيارات، ونقف في الطوابير
ونسجل أسماءنا في دفاتر غليظة، لكي نخسر الكثير.
الصبية حمراء الخدين دون ماكياج، كلما نظرت إليها أجدها تنظر إليّ.
و”الأسطوات” في ورشة الحدادة، رفعوا كفوفهم لتحيتي
وكان الشيخ سيد درويش يصدح في الإسطوانة: “حرج علي بابا ماروحش السينما”.
ولكن دائماً يفلت الوقت من يدى: أنا النبيل الأمين،
أنا الشاهد الوحيد على العصر، أنا المطعون بالخنجر في قلبي:
أقف ببراءة أمام عربة الخضار، تحمل الطماطم، والبصل الأخضر، والكرنب
ويجرّها حمار منهك يلهث في كل خطوة، ولكني لا أعرف ما الذي يمكن أن أشتريه؟ هل أشتري الطماطم، أم الكرنب؟ وعلى حين غرة
تأتي الصبية حمراء الخدين دون ماكياج
تربت على كتفي، وتمسح دمعتي بمنديلها الورقي، وتهديني إلى السبيل القويم.
نظل نقارن بين الخسائر القديمة، والخسائر الجديدة
ويبدو أن الخسارة ضرورية لكي نفهم الحياة،
في طفولتي كان في بيتنا ماكينة خياطة ماركة “سينجر”
وكانت والدتي فخورة بها.. وقد قامت بتفصيل ملابس أهل البيت..
وكانت تقوم بإصلاح ما يتمزق منها، أو يحدث له “فتق”.
وعملت لي “بيجاما” مقلمة تبعث البهجة في النفس:
فلماذا إذن أمشي منكسر النفس، وغيوم الخيال تسبح في رأسي
يبدو أنني أبحث عن منطقة حرة، فيها هامش واسع للبوح
أنا حزين ولا محيص لي من السقوط في الأشجان:
كلما صعدت طابقاً في المبنى،
يرتفع طابقاً إضافياً، فأجري على السلالم لاهثاً
وهكذا ينقضي اليوم: ألهث وأجري
ألهث وأجري
بلا نهاية.