أشباح
عن الحنان المُتساقط من جِلباب أمي
أشعرُ أننَّي عمَّرتُ طويلاً، أكثر من نَبتةٍ زرعها أبي في حديقةِ البيت، وأضعاف عمر الديوك المُشاكسة التي ربَّتها أمي “فوق السطوح”، أشعر أنني عمَّرتُ، لدرجة أنني أصبحتُ أقل طاقة من نملةٍ تعيش وسط الجحافل التي عشَّشت وربما لا تزال كشريكٍ تحت أرضي في بيتنا القديم، الذي بناه أبي مقابل أربعة أعوام من الغُربة، باعتزاز فقيرٍ يتوق إلى مِلكيَّة بَيْت.
حين كنتُ صغيراً كنتُ أسحقُ النملَ وأنا أمشي تحتَ حذائي، كنت أشعر بالغيرةِ منه، لأنّ أمي كانت تعتبره واحداً من أبنائها، تعامله بوصفه جزءاً من مكوِّنات البيت، له أيامُه وظروفه، وأنه ـ حتى النمل ـ يستحقُ أيضاً أن يعيش، وأن يخوض ـ ولو تحت البلاط ـ طريقته في صُنع الحياة، كنتُ أفهم أنها تتركنا نراقب النملَ لكي نتعلم أن نزرع الأمل، لنتعلم أن الكائنات الضعيفة عليها أن تتشبَّث بالحياة أكثر، وألا تتوقّف ـ أبداً ـ عن العمل. ذات مرة، بينما كنا نطارد الحشرات الصغيرات التي تُفسِد أيامنا، كان بإمكاننا أن نرى النملَ يرقصُ مُحتفلاً بتلك الولائم القبيحة التي يواجه بها جوع الأيام المُقبلة.
النملاتُ الصغيراتُ كانت تتعثَّر أحياناً، حين أهاجمها لأقيسَ قدرتها على الصمود، لكنها بكل عنادٍ كانت تواصل العمل، تتلقى الضربة من دون أن تسقط، وكلما أنَّ فريقٌ تحت الأحمالِ الباهظة لأجنحة ترفرف من دون فراشاتها أو أرجل تجري بمفردها في الهواء، جاءت نملاتٌ جديدات لتُكمل المسيرة، لتصل “المَؤونات” إلى مثواها قبل الأخير، هناك دائماً تحت البلاط، حتى النمل كان يشعر في بيتكِ بالتزام أخلاقي تجاه أجيالهِ المُقبلة.. يا أمّي.
بشرٌ بأحجامٍ دقيقةٍ يكْبُرون في تجاعيدي
بعد كل هذا العمر
فاتني أن أدركَ هذه الحقيقة البسيطة..
أنني بينما كنتُ طوال حياتي أضحك أو أبكي، أفكر أو أبتسم، أُحب أو أكره، أصلي أو أُغني، فاتني أنني بينما كنتُ ألوذ بقلبي، أو أجري في الطريق وحدي، فاتني أن أتذكر وأنا أنحني تحت وطأة الأسقف المُنخفضة، أو أفرد قامتي منتصباً في الثورة، فاتني أن أدرك هذه الحقيقة البسيطة، وهي أنَّ بشراً بأحجامٍ دقيقةٍ يكبرون ـ كل يوم ـ في تجاعيدي، أنّ جيشاً مترابطاً من الجوعى المذعورين يولدون عادةً من الأفراح والأتراح، من تشقّقات الوجوه وانحناءاتها، هؤلاء الصغار الدقيقون الذين ينبتون تحت العيون وعلى جانبي الفم، وفي الخطوط الطويلة التي تحملها الرقاب والأيدي، هذه الجيوش التي تبقى في حالة تأهب إلى أن يأتي الموت، ساعتها سوف يبدأون في التهامي على مَهلٍ، قبل أن يبدأوا دورةً حياة كاملة كبشر، يدخلون الأرحامَ، لكن بعضهم فقط هو الذي يُولد حاملاً ملامحي.
قميص بمربعاتٍ كبيرة فوق الصّدر
ذاتَ فجر، جرَّبتُ أن أكون شَبحاً. جلستُ في الشُرفة، أطفأت الأنوار فجاء لص يحومُ حول “حبلِ غَسيل”، عينه كانت على الأطراف المستسلمة لقميص ذي مربعاتٍ كبيرة ومتوهجة فوق الصدر، كنتُ أجلس في الشرفة المقابلة، لأدخِّن يأسَ رجل لا يريد أن ينتمي إلى هذا العالم، وخمنتُ خطته: يصعد فوق شجرة مائلة، ليخطف القميص ـ الذي كان شائعاً كالذباب ـ ويفر.. أراد أن يتأكّد أولاً أنّ لا أحد في هذه الشرفات النائمة يُمكن أن يراه، اختار ركناً هَشّاً من الجدار ثم خلع ملابسَه وأخذ يتلفت برأسه مبحلقاً في النوافذ والشرفات، جلس كأنَّه يتغوَّط، فلم أنطق بحرف، اطمأن، رفع البنطال ثم صعد بهمَّة فوق الشجرة، مَد أصابعَه فصرخت: “حرامي.. حرامي”، ارتبك اللصُ وألقى نفسه من أعلى الشجرة، حين هبط كادَ أحد كتفيه أن يُلامسَ الأرض، نهض مفزوعاً وبدأ يجري بسُرعة إلى أن اختفى بين البيوتِ، كأنني كنتُ شَبحاً يحرسُ غيبةَ نائمين، وكأنَّه كان شاعراً فشل في رؤية الأشباح التي تحكم العالم على أطرافِ المُدن.