أصوات الشعر الجديد في لبنان

الجمعة 2019/11/01
صادق الفراجي

أجيال ستة تعاقبت على الشعر اللبناني “الحديث” منذ خمسينات القرن الماضي. مرحلة أولى مع “الآباء الكبار” ممن أرسوا أساس الحداثة الشعرية العربية أمثال أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ممن استوفوا حقهم نقدا ودراسة وتشريحا لتجاربهم ورؤيتهم للشعر والثقافة والمدينة في “شعر” و”مواقف” وغيرها، ثم جيل “التمكين” الذي تلاهم مباشرة وانقسم بين عصبة ناضلت لتصبح قصيدة النثر هي الولد الشرعي للحداثة أمثال بول شاوول وعباس بيضون وبسام حجار ووديع سعادة ومجموعة أخرى عُرفت بـ”شعراء الجنوب” أمثال محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وحسن ومحمد وعصام العبدالله وإلياس لحود جمعها هَمّ الجنوب اللبناني المحتل ثم تفرق أصحابها مذاهب شتى واختط كل منهم لنفسه تجربة شعرية خاصة في القصيدة التفعيلية. وقد نالت تجارب هذا الجيل الثاني حقها أيضا نقدا واحتفاء وغناء بصوت مارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وغيرهم.

أعد الملف وقدم له: محمد ناصرالدين، بهاء إيعالي، مريم جنجلو

الجيل الأخير الذي يعرفه جلّ المتابعين للشعر اللبناني خارج منصات التواصل الاجتماعي هو الجيل الثالث، وهو الذي نفرد لرواده حيزا في افتتاحية البانوراما الشعرية، منوّهين بأن ظلما ما قد لحق بهذا الجيل الذي “ضاع سجلّه” إبان الحرب الأهلية اللبنانية، كعبده وازن وعيسى مخلوف وإلياس حنا إلياس وبسام منصور وتشتت في أصقاع الدنيا. الدراسة مخصصة حصرا للأجيال الشعرية الثلاثة الأخيرة في البلد الواقع على فيلق للزلازل، بيت بمنازل كثيرة كما سمّاه مؤرخه كمال الصليبي وبويلات كثيرة كذلك. أجيال سنسميها اصطلاحا: جيل “الصحافة والهجرة” و”جيل الهموم الصغيرة” وجيل “الشعراء الشباب”، وقد قررنا عرض تجاربهم تحديدا بدراسة أفقية وعرض بانورامي شعري لأنه لا يكاد يُعرف اسم لشاعر أو شاعرة من لبنان عربيا وعالميا من هؤلاء الشعراء وهم اليوم في العقد الرابع أو الثالث أو الثاني من العمر.

تأمل هذه الدراسة الإجابة عن أسئلة راهنة بخصوص المشهد الشعري في بيروت الآن، من قبيل: من هم شعراء بيروت اليوم؟ ولماذا لا يبذل المهتمون بالشعر اللبناني مجهودا لاكتشافهم والإضاءة على تجاربهم؟ لماذا تتكرر الأسماء ذاتها في الأنطولوجيات ومهرجانات الشعر وفي الفضائيات والمقابلات؟ هل غادر الشعراء بيروت؟ هل ما زالت بيروت بيتا للقصيد، بيروت ذلك العظم الذي يُجبر ويكسر. تكسره الحرب الأهلية وحروب الداخل والخارج باليأس ويجبره الفن والشعر والمسرح والموسيقى بالأمل؟ الأمل بأن بيروت ولّادة، وأن المختبر الشعري والثقافي لحداثة العرب ما زال قادرا على الكلمة الخصبة في زمن القحط.

جيل الصحافة والهجرة

يعتبر هذا الجيل شاهدا على أفول الحرب الأهلية اللبنانية في تسعينات القرن الماضي والأسئلة القلقة المتعلقة بهيمنة النظام السوري على الحياة السياسية اللبنانية ومشروع سوليدير الإشكالي لإعمار وسط بيروت. في هذه المرحلة لم تكن السوشيل ميديا وعوالمها الافتراضية قد خالطت عالم الأدب، بل كانت الصحافة الورقيّة في أوجها التي عمل معظم شعراء التسعينات فيها صحافيين ونقادا ومحرّرين، وإن شهدت هذه المرحلة فتوراً نسبياً في عملية نشر الشعر بعد غزو الرواية للمشهد الثقافي اللبناني بشكل خاص والعربي بشكل عام.

مجموعة من الشعراء غزت المقاهي والحانات في تحدّ للنظام الأمني والرأسمالي الطاغي مثل فيديل سبيتي وناظم السيد وغسان جواد وزينب عساف وفادي العبدالله في “جدل بيزنطي” و”شبابيك” وغيرها ترافقهم كوكبة من جيل الثمانينات أمثال يحيى جابر ويوسف بزي وإسكندر حبش ممن عايشوا الحرب الأهليّة وخبروا أهوالها، ليطرحوا في أشعارهم الأسئلة الصعبة حول السلم الهش والواقع الأمني والاقتصادي الذي كان يدفعهم دفعا كمن سبقهم إلى الهجرة، إذ استقر بعضهم في الولايات المتحدة (عساف، السيد) أو في الخليج (سبيتي) بشكل دائم أو متقطّع.

يُحسبُ لهذه المرحلة بروز بعض دور النشر بمحاولتها لإحياء الشعر وإبقاء جذوته متقدة، على منوال ما قامت به دار الجديد ودار النهار في التسعينات من القرن الماضي، وهو الدور الذي استكملته لاحقا “دار مختارات” و”دار النهضة العربية” التي ساهمت بنشر الشعر مجانا إبّان فترة إعلان بيروت عاصمة للثقافة العالميّة بين 2006 و2010. وكان لبعض شعراء تلك الفترة نصيب من هذه المبادرة، فلا يخفى أن العديد منهم اكتشفتهم الدور الناشرة وَتبنّت دخولهم عالم الأدب من بابه الواسع.

فيديل سبيتي أحد شعراء هذه المرحلة، شاعر الاستفزاز الذي كرّس شعره للسخرية من الواقع بنصٍ مقلقٍ ومضطرب وساخر، وخلخلة كل ما هو مألوف وراكد وكسول. كأنّ فيديل يملك كاميرا في عينيه، غير أنّها كاميرا تحمل جينات فنتازيّة قويّة، فيقول: الفرح كالسم/كلاهما/يمكن أن يقتل/وكلاهما/يمكنه أن يصير ترياقاً.

صادق الفراجي
صادق الفراجي

في لغة فيديل الجارحة نوع من النبرة الدفاعيّة العالية عن الشاعر، فهو ينظر للمجتمعات بأنّها هي التي قتلت الروح الشعرية، الشاعر الذي “ضيّعه قومه” وهو الذي يعدّ ضميراً لهذه الفئة من البشر، كما ويكرّس فكرة أن السؤال هو الذي يدفع لكتابة الشعر لا الجواب، فيقول: اقرأ كتابا عن الأشياء/ولخصه/إذا تمكنت من تركيب جملة/فأنت قارئ مفكّر/والتفكير شيء.

زينب عساف، شاعرة ذات نبرة متفردة في العالم المحيط بها المشوب بالتكرار والترادف، في شعرها مزاجيّةٍ خاصّة تقترب فيها أكثر من هوس اكتشاف الذات واللحظة الناتجة عنه، لينتج من ذلك قلق غير اعتيادي واضطرابات نصّية مدهشة، فتقول: خفيفة هذه القصيدة/لاحقتها طويلاً لأسجنها داخل حروف/كانت ككل الأشياء التي لا وزن لها تقريباً: /شاش الأزهار البرية إذ يذروه نسيم الربيع/قطرة الندى المنحدرة ببطء عن عشبة في الفجر/ظلّ جناح فراشة ترفرف خلف النافذة/ضوء خجول على جبل بعيد.

جمالية شعر زينب هي في إيغاله في الصدق والحياة، كأنّه صورة شفافة متكاملة عنهما، فالقارئ لنصّها لا يجد ضرباً من ذهنية الكتابة والاستعراض اللفظي، بل إنّه يكتشف ضروباً من المشهديّة الحساسة التي تعود بمرجعيتها إلى الحياة نفسها دون غيرها، فتقول: دمي يفور في أنبوب ممرضة/ولا يلوّث يدها المطبقة/صورة امرأة حامل/ألمٌ خفيفٌ في الرأس /يسبّبه تكرار حلم/لا شيء/تقريباً لا شيء يحدث/سوى سقوط المطر.

في شعر فادي العبدالله نلحظ غنائيّة موسيقيّة تحاول نبش جماليات لغةٍ ضائعة مفقودة، فما بين السطر والسطر في النصّ تتبدّى لنا أغنياتٌ تشكّل جوقة غنائيّة عن اغتراب الشاعر عن كلّ الأشياء التي يحبّها، أو التي عايشها في صباه وشبابه، فتيمة الفقد تبدو بارزة في شعر فادي، وهو الذي يمسكُ بجزءٍ خاصٍ من روحه حيث الألم وينحت به، ربما يحاول أن يجد فيها الألم الذي يعتريه، فيقول: لا يصيبُ الروح ورمٌ/ولا ينفخها النفس، كالغرور/إلا أنّ جراحها لا تختم إلا متى يعلوها الماء.

الشعر عند فادي هو محاولة دؤوب للمزاوجة بين الشعور والمعرفة، فلا نجدُ طغياناً شعرياً خالصاً في النص، بل يبدو وكأن الشاعر ينطلق من اتجاهين مختلفين هما الشعور والمعرفة، يصنعُ بهما سكيناً لتقشيرِ شوائبٍ غير محمودةٍ في النص ويبقي الجوهر فقط. كما وأنّ التناص اللغوي عنده واضح، وذلك لمدى معرفته، فيقول: والألم إذا تنفس/ والشعب إذا انفطر/ والحرب في الجوف ناهشة/ إن الخط صراط، للعيش، رهيف، وللموت/ في إهاب مجترح.

جيل الهموم الصغيرة

ظهر هذا الجيل فجأة في الشعر اللبناني بعد فترة ركود وفراغ وكأن الشعر في بيروت، باستثناء إصدارات الشعراء المكرّسين، قد غط في سبات عميق ما بين عامي 2000 و2010. انطلقت هذه المرحلة في الوقت الذي اكتسحت به وسائل التواصل الاجتماعي المشهد، ولم يعد الشاعر يذهب إلى الأقسام الثقافية في الصحافة المكتوبة لعرض بضاعته بغثها وسمينها عليها، لتتغير جذريا أساليب النشر والترويج: بات “الفايسبوك” مساحة للتعبير والكتابة والنشر بشكلٍ يوميّ ما أدّى لظهور ما يمكن تعريفه الكتابة اليومية، ومع تحوّل النشر إلى مواقع التواصل تأسست مع الوقت جرائد ومجلاتٍ إلكترونيّة نافست الجرائد الورقية، بل إنها نجحت في اقصائها جزئيا من المشهد خاصة عند الجيل الشاب الذي أسماه الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل سير “جيل السبابة”.

جيل “الهموم الصغيرة” فاجأ الجميع، هو جيل بلا آباء وبلا إرث ثقيل وأوزار يحملها في الشعر، وإن كان أقرب أسلوبيا لجيل عباس بيضون ووديع سعادة وبسام حجار، جيل يكتب قصيدة متحررة تماما من الأيديولوجيا والبروباغاندا، وتلتقط مادتها من مفارقات العالم اليومية، وترتكز على أسس ثقافية سمح بها الانفتاح على الثقافات والفنون وامتزاجها بالشعر. بعض هؤلاء الشعراء مثل محمد ناصر الدين وربيع شلهوب ومهدي منصور وسمر دياب، ودارين حوماني، كان قد بدأ النشر فعليّاً في المرحلة التي تسبق “الفايسبوك”، غير أن معرفة الوسط الثقافي اللبناني بهم كانت عبر السوشيل ميديا وقد تمت ترجمة بعض نصوصهم كمختاراتٍ إلى العديد من لغات العالم.

في شعرِ فيوليت أبو الجلد المنتمية لهذا الجيل ضربٌ من التكثيف والاختزال والتقاط لحظةٍ تهمّ بالهرب، فالشاعرة ماهرة في صيد الصور والمفارقات الخاصة، تصطادها بسرعةٍ دون تكلّفٍ وعناء أبداً لئلّا تجد فرصة للهرب، تاركة القارئ يأخذ النص كما يريد، لا كما تريد هي، فتقول: مجرّدُ أبوابٍ سحريّة لا تُفتح للأحبّةِ/ولا تُغلق عليهم/في خانة الغرباء ترسو المراكب/التي جذّفتْ طويلًاً في الرضا.

لدى فيوليت نوع من الذاتية المطلقة في الكتابة، فبين الذات والحال الشعري هناك تفاعلٌ شديد يشبه ما يعرف بطقسية الكتابة، والتفصيل الذي يراه المرء عادياً (الخشبة مثلاً) لا تراه فيوليت بعاديته المملّة، بل تلعب لعبة تشريحه واكتشاف الجمال فيه، فتقول: لا تسرق المال من جيوب القرّاء/حين أكتب عن لصوص آخر الليل/لا تنتشل الأسماك من جوف النص/حين أذكر الصيادين مصادفة.

نصّ دارين حوماني يشعرنا أنّها لا تمارس طقس التأمّل والصفاء والجلوس في العتمة لتخرج القصيدة، بل إنّ أيّ ممارسةٍ منها هي نصّ بحدّ ذاته (المشي، النوم، تناول الطعام، الموت….)، هذا ما يجعل النص يحمل من الصدق والشفافيّة ما لا يصدّق، فتقول: نوبةُ هلعٍ/كلّ ليلةٍ في صدري/بكامل طاقتها/قبيحة/مثل قلب إنسان الأرض.

قد يبدو للقارئ من الوهلة الأولى أن النص هنا يقصده، غير أنّه إن أعاد النظر فيه أكثر سيكتشف أنّه يبقى ملغزا رغم خروجه من ذاتيّة دارين، ما يشبه انسياب المياه من النبع مباشرة، يأخذ شكل المجرى الذي يرسمه الجبل له لكنّه يبقى عصيّاً على محاكاة التراب والصخر حوله، تقول: يمرّ الخوف عليّ كمهاجرٍ دائم/يبلغني بسرعةٍ هائلةٍ/هذه الطريق وحدها تؤدي إلى الموت.

صادق الفراجي
صادق الفراجي

القصيد في شعر عبير خليفة يحملُ هويّة فريدة في زمنٍ الضجيج المسيّر باتجاهٍ واحد، فعبير تحاول أن ترسم أمامها لوحات تعبيريّة عن ماهية الزمن والذاكرة الخاصة بها، أي أنّها تحكي لنا فقط ما يخصّها، بل وإن المتعمّق بنص خليفة يلاحظ أنّ الشاعرة تتماشى مع مقولة “خالف تعرف” إلى حدٍّ ما، فهي ليست لاحقةٍ لجوقة الشعر الضخمة في هذا العالم، بل إنّها تضع كنبتها في مكانٍ شاهقٍ جداً، ومن هناك تستطيع أن ترى ما هو غير مألوف عندنا في الشعر أو لم يعد مألوفاً، فتقول: سهولٌ وحيدةٌ إلا من راعٍ/سيفرحُ بأحدٍ/يلوّحُ له/من بعيد.

غير أنّ الشاعرة ما تلبث أن تضعك في مأزقها الذي تتركه يتلبّسك ليصبح مأزقك أيضاً، الوحدة والفردانيّة تطبع نصوص الشاعرة التي تخاف على أصواتنا التي ترتفع دون أيّ جدوى. هذا وتحملُ لغة عبير ما يشبه محاولةِ التكثيف المشبع بالبلاغة، وهو أمر في صميم مصاعب الشعر منذ الخليقة، وعبير تقرّ بالصعوبة لكنّها تحاول أن تمتعنا بها ، فتقول: الشغف والانهيار علاقة متكاملة/ انبثاقٌ باتجاه الأبعاد/بهدف رؤية الغابة من وراء شلال الغيم/ والدّوس على العشب كملامسة الحياة الأخرى.

لا يمكن للقارئ أن يتلمّس نصوص ربيع شلهوب دون أن يجد نفسه معرضاً لأسئلة كثيرةٍ قابلة للتأويل، الشاعر المغرق في الفلسفة يجعل من الكتابة محاولة للصراخ الذي يعجزه، فيقول: لا أكتب حتى أرتاح/ بل كي لا أزعج مَن حولي/ بصراخي/ وأنا أطرق من داخل روحي/ فيما الناس نيام… والعالم منفردا/ يلعب في الخارج بالمفتاح.

وما يحسب لربيع هو تمسّكه بالتفعيلة كإحدى جماليات الكتابة، تجده يحاول ألا يدع لهذه التفعيلة فرصة لإفقاد النص حساسيّته، وكأنّ الشاعر ولد وتفعيلات البحور الشعرية تسبح في مخيّلته، فينزل النص عذباً وجميلاً وليّناً تمامه تمام قصيدةٍ في الشعر الحر.

نصّ شلهوب مثقل بالمفردات والتراكيب وكأن القصيدة ذاهبة لعرسها، فيقول: قديما/تجوّلت خلف خيام القبائل/لا واحة أزفت في الظهيرة خضرتها/أو طلائع ركبٍ/تميل على جهةٍ كان مجهولها مستقيما/لأكثر من صرخةٍ وسماء قريبة/رقصتُ مع الذئب.

ينتقل القارئ إلى عوالم باذخةٍ في شعر محمد ناصر الدين، فالشاعر يحملُ في شعره ما يحمله شخصه، أي أن النص يتراءى على أنّه نوعٌ من الإنصات وإعطاء السمع للكون والحياة، وكأن الشاعر هو حلقة الوصل بين الروح والمجيء لهذا الكون، وما يشوب ذلك من حساسيّة ليّنة في محاولات الشاعر الدؤوبة للأخذ بالقارئ نحو وضوحٍ يمهد الطريق لغرائبيّة مدهشة. فيقول: الريحُ عاجزةٌ عن تحريك الوتر/والأيدي الناعمة مرمر جامد/وحدك أيها الشاعر تسمع صوتاً/اقترب خطوتين/وانفخ على التمثال/ليبدأ الكرنفال. شعر محمد ناصر الدين إشكالي في الاكتناز المعرفي وتسخير المعرفة في الشعر تقنية ومادة تعج بالمصطلحات والمفردات الماديّة التي ينجح الشاعرُ في تحويلها من يومية استخدامها وابتذالها الى غرائبية وجمالية توظيفها الشعري (بيضة الكيندر، مسلسلات الكرتون، علب الدخان، الفايسبوك، الشمع، الريح، الأغاني….)، فيقول مثلاً: الرجلُ الذي يحبّ البحر/أراد منذ الأزل/أن يكون محارة/ويلتصق بالسفينة./الرجل الذي صار محارة/لم يخبره أحد/أنّه ليس محارة/كان منذ الأزل/يظنّ أنّه سفينة.

ربيع الأتات، طبيب وشاعر من هذا الجيل يتخصص بكتابة الهايكو كلغةٍ شعريّة خاصة، فيقول: هالاتُكِ السَّوداء/ظِلالُ رجال/أدركَهُم اللَّيل.

القارئ لقصيدة الهايكو التي يكتبها الأتات يكتشف أن الشاعر يجنح نحو الكثافة والاختصار والتأمل والواقعية، أي في المقوّمات التي هي أعمدة هذا الفن، الشعر لدى الأتات بشكلٍ عامٍ هو مبادرة للبحث في عمق الوجود، فكان الهايكو بنظره نبضة منعشة لتذوق اللحظة، يقول: في لعب الأطفال/الجنود بلا زوجات/وبلا أطفال.

 نجدُ تطرفاً سوريالياً قويّاً في شعرِ رنيم ضاهر التي ترى هذا العالم بعين الدهشة والغرابة كمثل ألعاب الخفة التي يستمتع المشاهدون برؤيتها، وهي كأنّها تقوم بمشاهداتٍ خاصّة لهذا العالم من أقاصي الذاكرة وتلاحق فكرتها حتى توصلها لجوّانيّة الشعر، فتقول: أنت جدّي أيها الحقل/تنفس ملء عزلتي/خبّئ سعال الذئاب/في الوديان/أقفل على خرافك/باب الليل.

تكتب رنيم ما يشبه المتتالية الشعرية والشعر عندها أقرب للعدسة التي تنجح في تكبير وتضخيم المشهد في مكانٍ أو جعله مينيماليا في مكان آخر…. لرنيم لغةً خاصّة عارية كبرتقالة مقشّرة: سأعلّم ابنتي الغرق/ القفز من السفن الغائمة/ التي لا تتوقف/ إلا لتتزود بالقات.

ماري جليل في نصوصها القصيرة تعالج مسؤوليات وجوديّة بطريقتها، فبدايةً مع الحب الذي تأخذه برصانةٍ وصنعةٍ مدهشتين، مروراً باليوميات الروتينية والحكايات المتكررة فتقول: وجوه صفراء/يبس الليل على جفونها/تحتل الأمكنة بحيادية/خلتها أصناما يائسة /لكن لهاث أنفاسها/ضباب يرسم حدود/المدينة. تعطينا ماري صورة مغايرة عن اللغة اليومية المبتذلة، فاللغة سليمة تماماً، والنص يحمل الدهشة الطازجة للشعر: وأنا مذهولة ……! /كعاشقة التهم صوتها دفء الجحيم/أتأمل عبور المشهد/قبل أن أسقط على هيئة رصاصة دندنت أغنيتها/بعد أن أفرغت حمولتها/في صفحات الفصل الأخير.

ينتمي شعر نسرين إلى أدب القصيدة الومضة، فهي تسعى لخلق كثافةٍ قويّة في نصها والخروج من الحشو والإسهاب غير المحبّذين، أو لنقل أنّها ترغب بنقل فكرتها بأقل عددٍ ممكنٍ من الكلمات، تماماً كالبرقيات المرسلة، فتقول: أرى كل ذلك /فلا أغمض عيني/كي أحلم بجسارة. /أنت/الفراغ المحبّب/الذي أملؤه بي. /رغم الأمتعة المبعثرة/لا زلت أغسل قدمي/كي تشقّ طريقاً.

جيل الشعراء الشباب

الدّارس لِشعرِ الجيل العشرينيّ في لبنان يتبيّن له أنّه يخوض تجارب وُلدت مع انتهاء الحرب الأهلية التي لم يسمع عنها هذا الجيل إلا بالتواتر، ولعلّ عدم معايشته للحرب حولت تجربته إلى تساؤلات وجوديّة ذاتية إنسانية خاصة، إذ أن معظمهم لم تكن تعنيه الحال السياسيّة في البلاد بقدر ما كانت تعنيه الحال الذاتية لنفسه.

بحُكم صغر سنّها، حُكم على هذه التجارب مسبقاً بأنّها لا تعدو كَونها مجرد محاولات كتابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وَتحديداً الفايسبوك، وناضلت هذه الأصوات لحجز مكانها على الخريطة الشعرية اللبنانية والعربية خاصة أن البطريركية في الشعر و”الشعراء المكرسون” قلما يرحبون بتجربة جديدة ومميزة، وتدافع هذه العصبة الشابة عن نفسها باستحضار سيرة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي كتب “فصل من الجحيم” وَ”إشراقات” وَهو أصغر منهم بقليل.

 بهاء إيعالي يكاد الوحيد الذي يستحضر الحرب من هذا الجيل، لعيشه في طرابلس المدينة التي لم تنته فيها الاشتباكات المذهبية المسلحة إلا من فترة وجيزة. لا يسعى إيعالي لإقصاء الحرب نهائيّاً بقدر ما يحاول أن يبقي نفسه في أتونها لتكريس نفسه ضحيّةً لها، فتجده يقول: في يدي بندقيّة/دون زنادٍ ومشط/ويخبرني صديقي/انتظر/سأذهبُ وإياك إلى الاشتباك.

لتجده في مرحلةٍ أخرى يحاولُ التهرب من الحرب والمدينة وأشياء أخرى مستعيناً بعناصر كثيرة: التسكع، العزلة، النبش في المجهول، العنف…. قبل أن يدخل عنصر الحب على كتابته، والتي كانت نهايته “ارتفاعاً للقوة” التي رمّز إليها بالدم والموت، فكانت “كريستين” التي قال إنّ موتها هو محطته للانتقال إلى الشعر، فيقول: غيمٌ… طريقٌ/أما وجهي فسينخلعُ ويسبح/في طريقهِ إلى الغيم، فهو متأكدٌ أنها تؤدّي إلى تلك المدينة المقفرة/فقط.

شِعر بهاء إيعالي هو محاولات شجاعة لكتابة نص يواجه به ذاكرته وماضيه، بل لربّما يحاول الشاعر العشريني أن يتهرب من كتابة حكاياته بالشعر، وهذا ما يفسّر صعوبة نصِّه وَسورياليتَه المتطرّفة، فيقول: أجمعُ ريقي في كأسٍ لأغسلَ به الغبارَ العالقَ في الطريقِ/أضعُ آخرَ أشجارِكِ رأساً لي لأفكّرَ كيفَ يقدرُ العصفورُ على النومِ.

أما باسل الأمين فتعكس تجربته محاولة فذة لتجميل القبح في ذروته، منطلقاً من مقولة إن الشاعر ليس غرضه إعطاء الفرح بقدر ما يسعى لتخفيف الحزن، لعلَ ذلك مرجعه إلى تجربتين قاسيتين عاشهما بشكل متزامن، الأولى هي دخوله السجن، والثانية تجربة فقدان شخص قريب، فتراه يقول: وكان رُضوان سلّةً من التفاح/وكان التفاح يأتي في موسم الحب/يا مواسم الحب الباردة/يا مواسم الحب الخفيفة/كم تشبهين وجهي/كم تشبهين الشمس التي تغطس في البحر/وتصيرُ حبة دواءٍ كبيرة/قمراً يسكّن آلامي.

المثير في نص باسل هو تجلّي مظاهر الحياة اليومية فيه، وما يعتريها من حكاياتٍ وطرائف وخلاف ذلك، وَتضمّنه مشاهداتٍ لا تقال إلا في العشرين، السن الذي نتكلم فيه كثيرا، فيقول: كان هنالك أولادٌ يلعبون في الرمل في أرضٍ غير مزروعة (البورة). /علمت أنّ قلبي يشبه تلك الكرة التي يركلونها. لكنها حرّة بما فيه الكفاية لتتحوّل إلى عصفورٍ ما ينده لي….

عند حنين الصايغ نوع من السيلان الإيعازي، ففي مكان تجدها تحاكي نفسها بمشاهدات عامة تأخذها، بهدوءٍ وَطمأنينة، نحو ذاتها وكيفية النظر في نفسها، كما حين تقول: عن المطر حين يهب نفسه لعشوائية الأضواء فوق إسمنت الشوارع/عن الحقيقة حين تهب نفسها لِقبلة واحدة. وأحيانا هناك الإيعاز للآخر، للحبيب أيّاً كان، في كلّ تفاصيله (عيناه، ذراعه، كتفاه، جبينه، صدره….) بلغة مملوءة بالعاطفة والحميمية، فتقول: يقولون إن كلّ فرح زائل /وكلّ كرب كذلك…/وأعرف أن جسدينا زائلان/ولكنّ هوسي بك…آه من هوسي بك/باستدارة كتفيك/بقسوة صدرك حين يكون جبلا/وحنانه حين يصبح لي مغارة/بالمسافات الثلاث لنظرتك البعيدة/وبالأوزان الثلاثة لذراعك فوق خصري العاري.

وكذلك تلك العلاقة الجدلية في قلب الشاعرة بين عالمي الداخل والخارج: وحدي أكتب على وجه العالم البارد/سيرة ركن يتهجّى الدفء ولم يره/وحدي أختار للأشياء ألوانها/وأخلق أسماء لأشياء أخرى لا يراها إلاّي.

تنطلق ملاك مكي إلى ما يشبهُ التجارب في التقاط اللمحة، ما يقاربُ الفلسفة المشائية في الكلام، حتى ليشعرَ القارئ في نص ملاك أنّه يسير ويجمع نفسه في عدة تساؤلاتٍ إنسانية (الحب، الموت، القلق….) ليجد نفسه ملقى على الطاولة، على الضوء، على الورقة، كلّها أشياء تقرؤها عين الشاعرة من زاويةٍ خاصة لا يشاركها فيها أحد. فتقول: يخلقُ الضوء لنفسه ظلّا، ضوءًا آخر/لا يلتقيان/لكن ربّما يتحدّثان. تمتلك ملاك قدرة على التحكم بسرعة الزمن وبطئه، تقول: كأنني أسابق صخرة/لا أعرف معنى الدهشة/لا الثبات يدهشني ولا الحركة. كما أن نصّها يضج بالتساؤلات التي تطارد الشعر وهي شرط وجودي لخلوده، فتقول: كعتبة منسيّة، مهملة/مرّ بها الزمن ومضى/لا يذكرُها سوى ضوء قمريّ/حديث ما يدور بين القمر والعتبة/لا نفهمه نحن الذين نخاف من أن نُهمل.

تطالعنا الرغبة في ابتلاع شعر زهرة مروّة كاملاً، هي التي تستعين بالحب في نصّها الانسيابي بلغة واثقةٍ وجديّةٍ دون الإمعان في التدفق العاطفي. نص مروّة لا يضع المشاعر على سطح الكلمة، بل يتركها دفينة في أعماقها ببساطة، ليبقى هناك ما يشبه النقر الخفيف، كالزخرفة التي ينجح الحرفي الماهر في تطريزها، فتقول: طهرتُ نفسي من المغامرة السابقة/تركتُ قصص سندريلا والجميلات النائمات تيبس تحت المخدّة/الحب سبقني الى الغرفة التالية. لا تعاين مروّة مجيء الطرف الآخر بلغةٍ تقليدية عادية، بل تلج في اعتيادات الحياة اليومية لتعبر عنها بلغة طفولية طازجة، فتقول: أول الرحلة جميل، ثم تتعكر. هناك خدعة في البياض المطلق، حجر أسود تحت الشرشف الأبيض، داهيات يخفين شرورهن. سوف تحبس الأرض أنفاسها، تغدو السماء خمرية، وتمطر ناراً.

في شعر باسكال صوما نبرة تحدٍ فكانت البداية بنداء خفيّ إلى الرجل الشرقي الذي تعرّيه في تناقضاته، أو تحثّه على قلب نفسه بلغة عفوية ونرجسيّة فاقعة، فتقول: غزة ليست أهم مني/ مفهوم؟ /هي أنثى مغتصبة ستين حرباً/ وأنا عفيفة/هي عجوز الطبائع/ وأنا أول البلوغ عمري/كفى احتماء بغزة/وارحم غيرتي.

صادق الفراجي
صادق الفراجي

لنجدها فيما بعد تغادرُ هذا الجو الخطابي لتدخل في أجواءٍ خاصةٍ وحميمةٍ تتركها مفصولة عن بعضها دون أن تقطع بينها بنقاط، فتقول: أنا غريبةٌ عن هذه البلاد/كأن أوقفَ نهراً بكتفي/وأصطادُ الحبَّ من جهةِ الرحيل، لمن كلّ هذه الغرف/حائطٌ واحدٌ يكفي/لتنهي البكاء.

القارئ لشعر محمود وهبه يكتشف الكم الهائل من القلق والهذيان المطلق للشاعر، كأنّ الشعر تجسيد لتناقض المشاعر والمواقف والتعبير عن إشكاليات الحياة والوجود، فيقول: بلا حسدٍ وسحرة وشعوذات/جرياً على عادتي/محمولاً في نعش/أو مرمياً في مستنقع/أكتبُ/كي لا أضلّ الطّريق. إنها لغة تخرجُ من تلقاء نفسها، كأنّه يقيم معها علاقة طبيعية تماماً، في الفراش، فوق طاولة الطعام، في الصور المعلّقة على جداره، حميمية ابن القرية مع اللغة يسكبها في قوالب موجزة، فيقول: أرجعتُ أشيائي إلى أماكنها/قلبي إلى قفصه الصّدريّ/نقطة الدّم إلى شريانيَ الأبهر/رافقتُ زوجتي إلى حتفها/ألقي التّحية على الحضور/أرسم موتي على جدران شارع الحمراء/أخرجُ صورتي من ذاكرة الآخرين/أمسحُها…/.Delete/Delete/Delete

تطالع نصّ زنوبيا ضاهر فتصطدم بالفلسفة، القصيدة عمليّة بحث طويلة عن الجميل والمقدس والمطلق، أو هي نوعٌ من المشاهدات التي تتحاور معها أيّاً كانت، كلها تقود إلى الشعر الذي يشبه الحزن الطويل فتقول: فقط/حينما قرّرتُ أن أتمرّد على الغابة/وأبدأ بدفنِ موتايَ/وحين رحتُ أوزّعُ عليهم عتماتٍ ليأكلوها في أعمارهم الآتية/راحَ هذا الهذيان يفقِدُ منطِقه.

وكأّنّ الأشياء والعناصر كلها مترابطة في لغة زنوبيا، أو تدور في دائرةٍ واحدة، فالله هو العشيق، والسينما والمسرح تراها بصورةٍ شبحيّة، كلّ هذه الأشياء تؤسس لها الشاعرة في لغة متكاملة تشبه السهل الممتنع، ليكتشف فيها القارئ في القراءة الثانية إغواء الأنثى ودعوتها للعبة الإغواء والمطاردة فتقول: لا سَفَر يُحصي عدد الشامات في جسدٍ يعدّ الفراغَ للبكاء/فالمجرّات الهائلة الخائفة التي تحمل احتراقها على كفّيها/تُهابُ ولا تُحصى.

تنتمي أشعار زاهر مروّة إلى عالم الغربة والمنفى مع كثرة توارد مصطلحات المكان (الكورنيش/الحقل/المدينة/الغياب/حجارة الرويس) في شعره دليلٌ قاطعٌ على حنينه الدائم لمسقط رأسه، لأحبته حتى أن عنوان كتابه “هذا النفق ليس للأبد” إحالة لهذه الثيمة الأثيرة فيقول: إنها الضرورة بأن يزورنا شبحُ المعنى مبتسماً ولو على هيئة الحلم/فهذا النفق ليس للأبد. الغياب شأنٌ خاص وَموجعُ لدى زاهر، مرتبطٌ بكافةِ تفاصيل حياته وخصوصياتها، يكتبه بلغة فطريّةٍ سلسة بعيدة عن التكلف والاصطناع اللغوي، فيقول: هنا لأن السماء قريبة/تظنّ أنّ القمر بمتناولِ يديك/وأنّك تقدرُ أن تقطفَ حمرةَ الشمس.

في نصّ محمد سليمان ما يقول إنّه غير معنيّ بكلّ العالم من حوله، بل هو يخترع لنفسه عالماً خاصاً بعيداً ومنخفضاً، فيقول: أمام ذاكرتي/كأنّي على ضفّة المستنقع/أشاهدُ أشجار الحورِ والصفصافِ شاهقة ومرعبة/خيوط الشمس تعصب بطنها بمناديل وتشدّها بإحكامٍ لتنسلّ من بين الغصون. نصّ محمد هو غناءٌ للخراب، الفراغ مرسوما في لوحة تجريدية، فيقول: حين داعبت الخزامةُ وجه الكون المجعّد/تحسستُ وجهي/وأدركت ماذا أراني أفعلُ كلّ يوم/… كالقلب/يكدّس الوقت ببلاهةٍ/ويكبرُ الماضي.

غنائية عالية النبرة تطالعنا في شعر حسن المقداد، الشاعر الذي يطفو طيف أمه الراحلة على سطح معظم نصوصه فيقول: كنت الغريب/سألت الريح عن وطنٍ أنثى/يدثّرني من بردي العاتي/قالت/لتدخُل مجاز العشق/سوف ترى قصراً يحيط به سور الحكاياتِ.

تنبعث غنائيّة حسن من ثقافةٍ عربيّةٍ غنيّة تراثية، ومن حفر متين في اللغة فيقول: هناك نساءٌ خلقنَ ليصبحنَ أهزوجة الشّعراءِ/وينبتنَ من كلِّ خصلة شعرٍ.. /وغمّازتينِ.. /قصيدة! /وليسَ هناكَ رجالٌ كذلكَ.. /من أجلِ هذا/تسمّى القصيدة أنثى.. /ومن أجلِ هذا تغارُ القصائدُ من بعضها/والغواةُ؛ /يحبّونَ كلَّ قصيدةِ حبٍّ جديدة..

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.