أطفال بلا أهداب وأبطال بلا شوارب
محيي الدين اللباد كان شيخا قبل كل شيء. له جلال الشيوخ وصوتهم الصغير الخافت. عباراته مثل عبارات الشيوخ خافتة لكنها حازمة وغير مترددة. لعله ورث هذا عن والده الأزهري الذي كان عالما ويرتدي “العمّة والكاكولا” (الجبة الأزهرية اسمها كاكولا لسبب لا ندريه). أمّه متعلّمة وسافرة وترتدي ثيابا إفرنجية. رؤيتهما معا في الشارع علمته أن من الممكن جدا، بل ومن اللذيذ أن يكون المرء شيخا وفنانا طليعيا معا. التنافر الظاهر يجعل المزيج جميلا مثل الأخضر والأحمر في ديكورات أعياد الميلاد.
مرافقة اللباد لا تبدو صحبة عادية؛ هي نوع من المجاورة. المجاور في الأزهر يتعلم مع التنفس ويتلقّى العلم بأذنيه وعينيه معا. يعرف أشياء كثيرة، ومعرفته تصحبها ذائقة وأدوات استنتاج حادة. كنت أعرف شخصا يمكن بسهولة رميه من الشباك والاستعاضة عنه بموسوعة، كله معلومات لا آدمية فيها. يمكن اليوم صار الاستغناء عنه أسهل بمناسبة وجود غوغل. كان اللباد لا يعرف بيزلي، مثلا، وحسب بل له رأي في تصميماته للقماش وورق الحائط. عندما مات اللباد قال ناقد ومثقف لبناني “من سيترجم لنا فنون العالم بعد اليوم”.
للباد إسهامات مهمة في تصميم الكتب ورسوم الأطفال والناشئة، وكتابات للناشئة وقصصهم تتنوع لكنها تحمل فكرا واحدا. رأس تحرير السندباد وهو بعد حديث التخرج. فيها عمل مع الأستاذ الكبير حسين بيكار. ثم أصدر مجلة كوميكس اسمها كروان. رغم نشاطه متعدّد الأوجه ظل مخلصا لفكره المتسق، والواضح، وهو إنتاج شيء ينتمي إلينا.
أول ما لاحظه في الكوميكس المستورد هو غياب الشوارب. الأبطال الخارقون من سوبرمان إلى الوطواط مرورا بسبايدرمان حليقون ولا توجد شعرة واحدة في وجوههم. البطل في وجداننا الشعبي عنده شوارب. الجدات يحكين لنا عن أبطال عندهم شوارب يقف عليها الصقر، ليس البلبل أو السنونو بل الصقر بعظمته ووزنه الذي يفوق الكيلوغرام؛ يا لها من شوارب.
كل رسومنا الشعبية تصوّر عنترة وأبا زيد الهلالي وعلى وجهيهما شوارب لها أن تسند صقرا، وهي معقوفة إلى الأعلى مثل شوارب سلفادور دالي لكنها أسمك بكثير.
مجلة كروان كانت بسيطة وما فيها بطل خارق. شخصيتها الرئيسية ليست من البطولة في شيء بل مواطن مصري “غلبان” يرتدي نظارات سميكة ويقع في الحفر على الرصيف، باختصار هو “مضاد البطل” واسمه الأستاذ زغلول.
كان اللباد يرى أن العرب صاروا يرسمون أطفالهم مثل أطفال الأوروبيين والأميركان؛ ما عندهم أهداب. الأهداب الغربية شقراء أو خفيفة جدا بحيث أنها لا تبان، في حين أن أطفالنا أهدابهم سوداء وسميكة. الطفل العربي ينظر في الكوميكس فلا يرى شيئا ينتمي إليه. الرجال بلا شوارب والأطفال بلا أهداب وأمهاتهم لا يرتدين جلابيات ولا تطوق شعورهن ربطة.
اللباد انشغل بأمور كثيرة، الكوميكس أمر منها، اهتمامه انصب ّعلى كل شيء غرافيكي، ومنه الخط العربي، واستحدث فونتا جميلا. ولم يكتف بهذا بل أثار وعيا جديا بأن على العرب أن يضعوا خطوطا جديدة في الكاليغرافي زونبه إلى الفرق بين الكاغرافي والفونتوغرافي. اهتم بكل هذا لا لأنه ملول لا يمكث على فن واحد، ولكن لأنه إنسان عصر نهضة. أدرك بوعي حاد وواضح أننا في حالة نهوض لم تنته بعد.
الواعي الملتزم الموهوب في عصر النهضة يدرك أنه مطلوب على أكثر من جبهة، وفي ميادين شتى، النموذج الأرقى لإنسان عصر النهضة كان ليوناردو دافنشي. أمدّ النهضة رساما وعالما ومهندسا وأستاذ تشريح. في النهضة العربية وعى طه حسين ما وعاه اللباد بعده، فلم يقصر جهده على النقد، بل وضع أسسا في ميادين التاريخ الإسلامي، والشعر العربي، وحتى الرواية، والتعليم.