أغنياتٌ لقريةٍ مضبّبة

السبت 2021/05/01
عمل لعلي دوبا
  • -1-

لأن الغبار

نسيت أن أنفضه

          عن مقعد الدار الإسمنتي

لأنّه محض غبارٍ

الوقت كان كفيلاً بإحراق إيماني بالحجارة.

***

  • -2-

أعوامي العشرون

بكامل أحلامها المهشّمة

من بعدها كنت أبحث عن آثارٍ لأقدامي

بجانب آثار أقدامها

لم أذكر أنّهما ابتعدتا

ما عثرت عليه هي المسافة التي تركها الرصاص عمداً

حتى اليوم؛

كلّ ما فعلناه ذاك الصيف

أنّنا ظننّا الشمس أفقاً

          فقط.

***

  • -3-

أيها الغريب

أدخل قليلاً إلى صالون بيتي الريفيّ الذي كان أيضاً غرفة نومي؛ أدخله بطمأنينةٍ وأنتَ تحملُ بيدك قماشةً ونبريش مياه. امسح الشبابيك والجدران برفقٍ لئّلا يهترئ الطلاء:

ستجدني هناك

قد جاءني الصمتُ حين الخروج

وكانت له هيئتي.

***

  • -4-

أيها الغريب

“خذ الحكمة من فم الغيم” لكن لا تكن دخاناً؛

خذ الفرح من أفواه الأطفال لكن لا تكبر؛

خذ النور من انعكاس المرآة لكن لا تحرقِ العشب؛

خذ الموت من مشط البندقيّة لكن لا تطلق رصاصة؛

………

خذ الحياة من كل ذاكرتك

لكن لا تعد إليها

إلا حافياً.

***

  • -5-

أعود صغيراً

للمرة الأولى بُعيد سقوطِ الغبار

يومَ كنت أبكي كتمساحٍ بعيد افتراسِه حماراً وحشياً:

الموتى كثرٌ داخلي

ربّما بتّ مقبرةً متحرّكةً

لم يعد داخلي يتّسعُ لجنازة.

***

  • -6-

هناك

في أسفل البوابة

ما يشبهُ الكتابات السومريّة

حيث اغتنمت نومَ أمي لأكتب على الإسمنت الذي لم يجف: أنا + أنت = إلى الأبد؛

لم أكذب يومها يا صديقتي

في الغربةِ لا تُطمس النقوش

كلّ ميّتٍ يترك نقشاً خلفه ليستريح.

***

  • -7-

تركتُ في غرفتي المهجورة صورةً قديمةً لي

ولما عدتُ نحوها اليوم

وجدتُ أنّ جسدي لم يكن سوى صورةٍ لحريقٍ

يسيرُ ببطءٍ صوب الهواء

يعيدُ مصافحة جيرانه دون أن يتذكّر

هناك الزمن يعيد تكويني بجسدين

جسدٌ يسير في الذاكرة

وآخرُ خلف شبابيكِ الغرفة يبتسمُ لصياحِ الديك.

***

  • -8-

كلّ شيء على هذا المقعد الإسمنتي

ليس سوى مزيدٍ من الغربة

من الغبار والدخان

أنا الذي لم يجدِ الطفل الذي كانهُ

أنا الذي لم أغادرِ الدار.

***

  • -9-

وردةٌ في زاويةِ الخراب

نظرتها خيبةٌ لكلّ ما يحيط بها

لها عطر النوم لكلّ ما حولها في مرآةِ هذا الكون

أحياناً تحاولُ البكاء

تتذكر شجرةً انطلقت من جوفِ الأرض لتصل إلى الله

فأراها ترتدي ابتسامة مرآةٍ

وقف قبالتها النور.

***

  • -10-

في الصباح

كثُرت العصافير التي لم تغرّد

وهي تنتظر صرخة الأرض لفقدان ذراعَي؛

في الصباح

تحاول الشمس ألا تغيّر ملابسها

فأرى عجوزاً يذهبُ بصنارته

معتقداً أنّها لم تستفق بعد؛

في الصباح

كلّ ما أتذكّره منذ أمدٍ بعيدٍ

ما تركته رسومات الحائط لي ولها؛

في الصباح

في الدرب المؤدّي إلى الحديقة

ثمّة جثثٌ لطيورٍ

سقطت أمساً بابتهاجِ الجنود؛

في الصباح

في الدرب

عثر أفلاطون على مدينته الفاضلة في قلبها

لكنّه بقي عاجزاً عن ولوجها

وهو يعيد مراجعة أفكاره.

***

  • -11-

في عينيكِ

قلّما وجد النجمُ غازاته ليتنفّس

قلّما وجد المطرُ طريقاً

ليذهب منه إلى الأرض ميتاً

قلّما عثر على حواضر حقيقيّةٍ

تستبدلُ تاريخها بصفائحَ من البنزين.

***

  • -12-

أخبرني بوكوفسكي عن حانةٍ

تقف وحدها في شارعٍ ضيّقٍ

في ذاك الشارع أيضاً

عثرتُ على بضع بقايا من دموعِ نسائِه الكثيرات

آثرتُ أن أدوسها كما أدوس البصاق.

كثيراً ما وجِد ترانسترومر

واقفاً فوق جزيرةٍ من جليدٍ اصطناعي

بظرف الزمان

يحاولُ أن يخبّئ أشعة الشمس

لأيّام العتمة.

عمل فني لعلي دوبا
عمل فني لعلي دوبا

***

  • -13-

أعطني بعضاً من حزنك أو كلّه

دعيه يحاكُ حذاءً بحجم قدميّ

ليهترئ كلّما اقتربتُ صوب الشمس.

***

  • -14-

أنزلي الآن كلّ ما يمكن القول عنه إنّه حالكٌ

اضحكي ليصاب الباقون بالرصاص

فهكذا يمكنني أن أعبث بما أراه من هواءٍ أصفر يحاولُ أن ينقضّ على رأسكِ المزدحم بالصمت والدموع؛

 أقول: قفي

الدرب خفيفةٌ كتراب اللغم، قفي

فتنامين في ذاكرتي وأسير.

أعبثُ بما أراه من الشوك الذي تتركه الأرض عارياً

أقول: قفي

 لنسقط معاً في جوف هذا الكون الملعون

أو لنَنَمْ على الجسر قبيل انفجار الديناميت.

***

  • -15-

متى كان الوقت الذي تغيّرت وجهتنا فيه؟

الهواء متّسخٌ

          البحر متّسخٌ

الصمت متّسخٌ

          الثرثرة متّسخةٌ

الغاز يتمدّد في أجسادنا وهو يضحك كضبعٍ مرقّط

هل عليّ أن أكون ضبعاً

لأتمكّن من الضحك؟

***

  • -16-

عرفتك فراشة سوداء

والماء رأى أن الغبار كلّ ما في الأمر.

***

  • -17-

يبقى في ذهولك صمتاً مطبقاً

وبضع نثيراتٍ زجاجيّة

بالكاد تثقب الوقت لتعبر منه ابتسامة

بالكاد أجد فيه مكاناً

لانفجاراتي القديمة التي لم تغف عليها الريح

بالكاد أرى انعكاس الحرب

كعيني أرملةٍ فقأتها حرابُ بنادقِ الجنود.

***

  • -18-

أغمضت عيني اليمنى

في محاولةٍ لمحو الوجه الآخر للأشياء

دون جدوى.

***

  • -19-

حين أخبرتك عن كلّ ما سبق

امتلأ جدار غرفتي الأيسر ببقعِ دمٍ أسود

فذاب الطلاءُ

ودخل المطر والهواء مزهوَّين ليغسلا بقايا الخراب

انتظرتُ شتاءً كاملاً لأجلِ هذا

ما رأيته فقط

هو حقيبةٌ ضخمةٌ تتّسع لثيابي

تركتُ ثيابي ترتبُ أماكنها داخلها

وتحترق.

***

  • -20-

أجلس في المقهى برفقة شبحٍ

عيناه زجاجٌ ضبابيّ

جسدُه دخانٌ

والصمتُ حوارُه الجميل

ربّما هو هكذا

ينتظرُ أن يأخذَ مقاسكِ ليتكلّم.

***

  • -21-

طريقٌ بفروعٍ كثيرةٍ

لكنّني لا أراكِ إلا من فرعٍ واحد

حيث كنت متجهاً إلى حفلة صباي

أحياناً

تقترب منّي هذه الفروع

تأكلني كتفاحةٍ فرنسيّةٍ تلمعُ كالمرآة

وحينما أقف

تستند بأكتافي مواقيت الكون كلّه

تتسع في رأسي مقبرةُ الزمن

وأكبر

وحدهم العجائز المتفرّجين عليّ من شرفة دار العجزة صدّقوني

ربّما بدوت أشبههم كثيراً.

عمل لعلي دوبا
عمل لعلي دوبا

***

  • -22-

أمسِك وجهي بيدي

أحاولُ تمريرَ أصابعي فوقهُ قليلاً

كلّما تذكّرت شيئاً اختفت تجعيدةً

كلّما حاولتُ الابتسام

شعرتُ بطفلٍ قديمٍ يريدُ أن يحادثني.

***

  • -23-

حين رأيتكِ

لم أبتسم كثيراً

ابتسمت كثيراً بعدها

لأنّني لم أبتسم.

غيّرتُ كلّ شيءٍ في غرفتي

علّقتُ صورة جديدة لي وأنا أبتسم

نظرتُ إلى صوري القديمة وحاولتُ التقاط بعضها

ثم فقدت الذاكرة تماماً

فقدتُ كلّ ما سبق.

***

  • -24-

أفيقي أيّتها المياه – أفيقي

أفيقي أيّتها الغريبة كالسهوِ في السفر-أفيقي

خطوة-الهواء محضُ خطوتين

ومطرٌ بعدها تينٌ يسقطه الإله أشواكاً هشّةً ليشرّ حطامُها غطاءً لرأسي العاري؛

العريّ رأسي – فأفيقي.

***

  • -25-

هاي – أنتِ

ذاك الصمت وأنا أغادرُ لا يستطيع الموت

ورأسكِ المتروسِ بالحكايا الشعبية يأكلني ببطءٍ، فأنام

ثم أغيّر المشهد في التلفاز – رغم ذلك أنام

ثمّ أعود

ثمّ أحاولُ أن أتذكّر ما قاله القتيل وهو ينظرُ إلى الغابة حيث فقد أخاه، أتذكّرُ بينما كان الوقت يغزلني ككنزةٍ صوفيّة من الخيطان المتوفرة مهما كانت ألوانها،

ثم أعود ببطءٍ كالإنترنت في مرتفعٍ جبلي

ثمّ أقف

وأصمت

وأصمت. حتى تتدحرج من رأسي كافّة أشكالِ الموت.

***

  • -26-

رأيتُ حاسة الذئبِ لدي

أنتِ رأيتها

وأفاقت الصحراء التي كانت تنظرُ لحوافرِ أقدامنا الخفيفة

وعقدت طوقاً من الرمال حول رقبتي

قبل أن تدخل المياه الميّتة ببطءٍ جسدي المبقّع بالموتى.

***

  • -27-

ها هنا أنت

تعدّين ما بقي من موتك القديمِ كتاباً

يغنّي والرصاص تحت لسانه

ها أنت ترسمين من إهليلجي الدموي وجهاً زجاجياً لخرابي

ها جئتُ

كبرتُ حين جئتُ ولم أجد جسدي

كلّ ما وجدتهُ ريحٌ

تعبثُ بالأمس والغد.

***

  • -28-

لا شيءَ مؤكّدٌ حول ما قاله العابثون عن إغلاق الطريق بين تراقيا والبلقان. لا شيء يوحي بالخوف من صوت جاك بريل وهو يلفظُ أنفاسه الأخيرة. غبارٌ – ركامٌ – هواءٌ ملوّثٌ أعرفُ أنّهُ ينتظرني هناك، أو في الطريق المؤديّة إلى صوت جاك. غير أنّني أعي تماماً أنّ الموسيقي لا تتعبهُ أثقال الحممِ التي تتساقط فوق رأسهِ وحوله.

وصل صوتي، وبقي جسدي ينتظر

يلتمس بمذاق التفاح حلماً خفيفاً يسيرُ بعذوبة عذراءَ في رأسي.

لا شيء يقلق أبداً

لا شيءَ يمكنه التحدّث مع الطريق كي تنفتحَ وحدها

لا شيء قادرٌ على أن يصمت وأنا أسير ملطّخاً بالغبار.

***

  • -29-

الحقيبة فقط تحوي أذني بيتهوفن

وبضع نغماتٍ لم يسمعها

ورغيفاً

الحقيبة لا تتسعُ لأكثر من رأسي

وما يحوم حولهُ من تبغٍ وورد

فليكن الصمتُ هو الصديق الوحيد في الطريق

فلتكوني أنت الصمت

فلأنم كحرّاسِ الليل في النهار

لا أحلمُ إلا بيوم الإجازة،

فلأحلم

فقط لأجد وجهي الميّت.

***

  • -30-

لي في نهارٍ يسبقُ الزمن شجرةٌ عارية

أوراقٌ كوجبةٍ شهيّةٍ للريح

كحفرةٍ لآخر الموتى

          لم تجد من يغلقها

كمدنٍ فارغةٍ من الدخان تحيط بي

كتجلّياتٍ لنقاطٍ فارغةٍ تبحثُ عن ضلالها

كصدًى لأغنية Aranjuez mon amour فيما كان ريتشارد يبكي

كتفاصيلَ من أشياءَ لا يفكّر بها إلا الحمقى

كآخر كونشيرتو غادره عازفُ التشيللو وهو يشعرُ بالملل

كأشياءَ تأكلُ بعضها كالديدان.

***

  • -31-

كانت الغابة تأخذني إلى مراحل جديدةٍ للموت، للحياة التي يغفو على عتبتها حطابٌ شيخٌ يتربّصُ بلحاء الشجر.

كانت الغابة شكلاً آخر لجسدي

سأتذكرُ فيها

أنّني لستُ وحيداً كمنزلٍ مهجور

سأتذكّرُ الكهف الذي خرجتُ منه

ووضعتُ مفتاحهُ أمانةً بيد الذئب

سأتذكّر أنّني هناك عازف غيتارٍ

بموسيقاي شمسٌ رُسِمت بدءاً من قريةٍ

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.