أكاليل على الأبواب

الجمعة 2016/01/01
لوحة: خلدون شيشاكلي

ظل

كأنّما هو صوت لا أحد. لم أكن أسمعه، لكنه كان صوتاً، لا أدري من أين يأتي. الساحة فارغة، المحال مقفلة، كانت هرّة تموء قرب باب. الليل لم يكن مظلماً، ضوء قمر ينفلش على أطرافه. الأبنية هاجعة في نوم ساكنيها. إنها الثالثة بعد منتصف الليل. الهواء الذي يهب من البحر رطب وسميك. لم يكن يفاجئني سوى هذا الصوت الذي لم أكن أسمعه، بالأحرى الذي كنت أسمعه وكأنني لا أسمعه، الصوت الذي كأنّه لم يكن صوتاً.كنت أمشي على الرصيف الذي كثيراً ما مشيت عليه، في الليل غالباً. خفاش عبر بسرعة من فوق رأسي واختفى بين أوراق شجرة. هل هو صوته. لا.

كنت أمشي، ظلي يتبعني حيناً وحيناً يسبقني فأراه أمامي. هل هو صوت ظلّي يهب خافتاً وكأنّ أحداً يخفته؟ ربّما، قلت لنفسي.

ورحت أراقب ظلّي ناظراً أمامي حيناً وورائي حيناً، بحسب وجهة الضوء المنعكس عليّ.

غابة الادميين

نظرت أقصى ما أمكنني ، كانت الأرض شاسعة، تحتلها غابات، أشجارها كثيرة الثمار. سمعتهم يقولون: مَن سيقطن هذه الأرض؟ اننا نحتاج الى اشباه لنا لنملأها. أرض لا يملكها أحد. ليس بوسعنا نحن أن نأكل كل ثمارها... نظرت الى نفسي فرأيتني عارياً مثل الآخرين الذين من حولي. لم أخجل، قدماي مشققتان، جلدي قاس، ركبتاي سوداوان. قال واحد: نحن آدم، أنا آدم، أنت آدم، أنتم آدم... لم استغرب! ثم أشار الى كائنات أخرى قائلاً: إنهنّ حواء، لقد أتين للحين. ودعانا الى القفز صوبهنّ. ولم أدر ماذا فعلنا بهنّ. كنّا نصيح فرحاً، وفي البعيد يتردّد صدى صياحنا.

الاجاصة

الشجرة التي قطفت منها حواء تفاحة، لم تكن شجرة تفاح، هي أخطأت. قطفت حواء اجاصة من شجرة اجاص وأغرت بها آدم. أشجار التفاح كانت أبعد قليلاً، كنت أراها، لا أعلم كيف. الحديقة كانت بلا أسيجة. كنّا نجلس نحن في ظل سنديانة عندما شاهدنا حواء تقرّب الاجاصة الى فم آدم وسرعان ما راح يأكلها. كنّا جميعاً نأكل ببهجة ولم يكن من حراس يراقبوننا.

مدينة الموت

عندما بلغنا مدينة "ياء"، أوقف السائق سيّارته أمام نزل صغير لا تحمل واجهته لوحة كتب عليها إسمه. طرقنا الباب الخشب وانتظرنا، فتحت الباب سيّدة تناهز الخمسين، بحسب ما تراءى لنا. قالت تفضّلوا. دخلنا بهو النزل ورحنا نلتفت يمنة ويسرة، مذهولين بما نرى. كانت تحتل جدران البهو صور لأشخاص كأنهم راحلون، بضع منها بالأسود والأبيض وبضع بالألوان، نساء ورجال وأطفال، عائلات، رجل وامرأة كأنهما زوجان... وما هالنا كثيراً منظر أكاليل الزهور الموضوعة أسفل الجدران، وأدركنا للحين أنها زهور "اصطناعية" فلا رائحة تنبعث منها. أما الطاولة التي تتوسّط البهو فكانت أشبه بتابوت مغلق، ووضعت عليها مزهريتان وجمجمة. سألنا السيدة التي كانت تقف الى جانبه، وقد شعرت بحيرتنا: أهذا نزل أم...؟ ولم نكمل سؤالنا. قالت المرأة: كلّ غريب يدخل النزل، يسأل هذا السؤال. نعم، إنه نزل. لا تخافوا. كلّ الفنادق في هذه المدينة تشبه هذا النزل. حتى المنازل، كلّ المنازل. وعليكم ألا تستغربوا عندما تصعدون الى غرفتكم في الطبقة الأولى.

لم يكن أمامنا إلاّ أن نرضخ للأمر، الظلام حلّ قبل ساعتين وعلينا إلا أن نقضي الليل هنا ونبيت. فتحت لنا باب الغرفة، وقد علّق عليه إكليل صغير من معدن يشبه الأكاليل الصغيرة التي تعلّق على بوابات المقابر ، وعندما دخلنا حلّ علينا خوف وأخذتنا قشعريرة. لقد كانت الأسرة الثلاثة توابيت من خشب، وقد وضعت في داخلها أفرشة ومخدات. أصبنا بذهول شديد، ونظرنا السيّدة بعيون تبرق ذعراً: كيف سننام؟ ضحكت السيّدة ثم قالت: كلّ الأسرّة في مدينتنا هي توابيت. سأشرح لكم لاحقاً هذا السرّ. ولكن الآن عندما تنامون عليكم أن تغلقوا غطاء السرير وهو من خشب التابوت نفسه وإغلاقه سهل جداً، وستجدون فيه فتحة بمقدار الوجه أو لأقل الرأس، منها تتنفسون وتبصرون ما يمكن أن تبصروه في الظلام. قال لها احدنا بصوت يرتجف: لن أنام في هذا التابوت. سأقضي الليل جالساً على الكنبة. ولكن، إشرحي لي هذا السرّ الذي حدّثتني عنه. ابتسمت وراحت تحدّثنا: لعلكم لم تقرأوا ما كتب على اللوح المثبت عند مدخل مدينتنا، هذه المدينة التي باتت مقصداً للزائرين الذين أصفهم بالحجّاج. لقد كتب على اللوح: أهلاً بكم في مدينة "ياء"، مدينة "الموت الحيّ". إنّه الظلام الذي لم يدعكم تقرأون هذه الجملة. مدينتنا باتت مشهورة جداً، ويقصدها الأشخاص الذين يودّون التمرّن على الموت. يأتون الى هنا وينزلون في الفنادق، وعندما تضيق هذه بالزائرين، تفتح عائلات أبواب منازلها. فالبيوت أيضاً هي أشبه بالمقابر، والأسرّة كلّها توابيت، حتى أسرّة الأطفال. أهل هذه المدينة اعتادوا فكرة الموت وأضحوا يعيشونها بلا خوف ولا خشية. وإذا سرتم في الأحياء، تجدون هياكل من عظم وجماجم معلّقة على الاعمدة وعلى الابواب اكاليل زهر. انها مدينة "ياء" يقصدها الزوار ليعتادوا فكرة الموت ويصبحوا أصدقاء معه.


لوحة: خلدون شيشاكلي

قطار اللامكان

كان القطار يعبر قرى وحقولاً بسرعة فائقة، ولم يكن يتوقف عند محطة من المحطات الموزعة على الجانبين، مع أنّ ركاباً كانوا يستقلونه، أفراداً وعائلات، ولكن لم يكن يظهر على وجوههم ما يدل على أنهم مسافرون، كأنهم ركاب صعدوا الحافلات مصادفة، وجلسوا على المقاعد ولم يكن يلوح في عيونهم قلق أو اضطراب ولا يساورهم همّ. كأنهم لم يصعدوا القطار قاصدين بلدة أو جهة. ما كانوا يبالون متى تنتهي الرحلة وأين. كأنهم مسافرون من غير وجهة، مثل القطار الذي يقلّهم. ينظرون أمامهم، ولا يكادون يحرّكون رؤوسهم، ولا يبتسمون ولا يعبسون، ليسوا فرحين ولا متجهّمين. لكنهم كانوا يهتزّون إذا اهتزّ القطار في أحيان...

كان القطار يصفر ساعة تلو ساعة، منذراً المحطات التي يعبرها بوصوله من دون أن يتوقف ولو مرّة واحدة. لم يكن يهمّه أن يصل، مثله مثل ركابه، هؤلاء المسافرين الى لا مكان. كان يكفيهم أن يركبوا القطار ويجلسوا على المقاعد فلا يغادروها. ما كانوا ينهضون عنها ليشربوا أو يقصدوا الحمام. حتى الأطفال كانوا جالسين في حال من السهو. لعلهم ما كانوا أطفالاً. حتى النسوة، أمهاتهم، كنّ كأنّما في صورة التقطت بالأسود والأبيض. ظلّ القطار يصفر، عابراً بسرعة هائلة. لم أسأل أحدا من الركاب إن كان أحد يقوده. طوال تلك الرحلة التي لم تنته، لم يطلّ أحد، لا قاطع التذاكر ولا المراقبون. كان القطار وحده يشق القرى والسهول، في وضح نهار لا يغيب. ربما لم تكن من سكة. لا أحد أبصر سكة يسلكها القطار. اما أنا فكنت اجلس بدوري صامتا وبالقرب مني حقيبة يد.

كتب

إنني فقدت كتبي. نظرت فرأيت مكتبتي فارغة وعلى الأرض أوراق وقصاصات كأنّما رميت على عجلة... صرخت: من استولى على كتبي؟ ثم تذكرت أنني رأيت بعضاً منها في بيت لا أعرف أين ولا مَن هم أصحابه، وصرخت: هذه كتبي، ولم يسمعني أحد. إنها كتبي، ولكن مَن الذي أتى بها الى هنا، هنا الذي لا أعرف أين.

المخطوط

ما إن فتحت درج الطاولة التي أخلد إليها لأكتب وأقرأ، حتى فوجئت بمخطوط علمت للحين أنني أنا مَن كتبه. سألت نفسي: أأنا من ألّف هذا الكتاب؟ متى؟ كنت حائراً، ثمّ خامرني شك في أن أكون أنا صاحب هذا المخطوط. لعلّ أحداً قلّد خطّي وكتبه. ولكن لماذا؟

عندما قلّبت أوراق المخطوط تذكّرت أنّ النصوص التي يضمّها تشبه نصوصاً لي. هذا أسلوبي، وهذه أفكار عبرت رأسي. سألت نفسي: هل هذا فخ نصبه لي أحد؟

أعدت المخطوط الى الدرج غير مطمئن، لكنّ فرحاً قليلاً اعتراني، لم أعرف من أين حلّ عليّ.

ساعة دالي

عندما فتحت عينيّ أبصرتني نائماً تحت غصنٍ تتدلى منه ساعة حائط متراخية كرغيف لم يخبز ومنها كانت تسقط الأرقام على وجهي ثم على الأرض. لم أتمكن من معرفة الوقت، ميناء الساعة لم يبق فيه حتى عقرباه، لكنني سمعت الساعة تتكّك ببطء... ثم تذكّرت.

البكالوريا

قلت لأستاذي الذي لم أتذكّر إسمه: إنني نجحت في امتحان البكالوريا، فلماذا أتقدّم الى الامتحان مرّة ثانية. قال: إنك رسبت. لا لم ارسب، اسأل رفاقي، لقد نجحنا جميعا. ثمّ تذكرت انّه قال لي أكثر من مرّة أنني رسبت. أما أنا فكنت دوماً أسأل نفسي: لماذا أتقدم الى امتحان البكالوريا ما دمت قد نجحت سابقاً. لكنني كنت أجهل ماذا أعني بـ"سابقاً".

امتحان الدموع

أمام بوابة زرقاء، نصف مفتوحة، تحمل لوحة كتب عليها "امتحان الدموع" شاهدت رتلا طويلا من أناس عراة يقفون منتظرين نداء، لا يعلمون من أين يأتي. كانوا عراة ولكن لا إناثاً كانوا ولا ذكوراً، أجسادهم ملساء كلّها. كان أمام البوابة يقف ملاك لا تظهر قدماه، يحمل بين يديه إناء من زجاج، وكلما نادى الصوت، كان أحدهم يدرك أنه هو من يُنادى فيتقدم نحو الملاك، ثم يحني وجهه أمام الإناء فيسقط من عينيه ماء، ولم يكن على الملاك إلا أن ينظر الى الإناء وكأنه يسبر الماء في داخله، ثم يشير الى الإنسان الذي أمامه إمّا ليجتاز عتبة البوابة وإما أن يذهب شمالاً سالكاً طريقاً تقود الى غابة مظلمة كانت تلوح بعيداً. عندما كان الإناء يمتلئ من ماء يهرقه أحد هؤلاء الناس من عينه، كان الملاك يرتفع قليلاً عن الأرض، فرِحاً ومهللاً... وعندما لا يسقط من العين ولو قطرة صغيرة، كان الملاك يرتعد رافعاً يده مشيراً الى الطريق الوعرة... وإذا لم يسقط من العين إلا دمع قليل كان على هذا الانسان أن ينتحي بقعة ظليلة الى جانب البوابة... كان على هذا الانسان أن ينتظر لا أحد يعلم كم من الأيام .

انتظار

اناس كأنهم بأعمار مختلفة، ينتظرون أن يُنادوا كي يتقدّموا كلّ بمفرده. كانوا جميعاً متشابهين بأجسادهم الملساء حتى وجوههم لم تكن تدل عليهم. لم يكن من أطفال هناك. الهدوء يملأ المكان، الصوت الغريب هو الذي كان يشقّ الصمت السميك مثل طبقة ثلج. السماء بيضاء ،الأرض بيضاء ، كأنهما ممتزجتان واحدة بالأخرى... كان الناس المنتظرون يتمتمون كلمات غير مسموعة، بعضهم متجهمو الوجوه، بعضهم مشرقو الابتسامات، بعضهم تلمع عيونهم ببصيص أحمر...

مكتبة الدير

كنّا نصعد درباً من تراب وحصى. عندما اجتزنا الغابة الصغيرة أبصرت الدير الذي كنّا نقصده. بوابته كانت مغلقة. قرعنا ناقوساً صغيراً كان معلّقاً تحت القنطرة التي تعلو البوابة السوداء التي تأكّل الصدأ أطرافها. ثمّ أبصرنا كاهناً عجوزاً يتجه نحونا، فتح البوابة دون أن يسأل مَن نحن. كان غير مبال، لم يلق علينا إلا نظرة سريعة. شعره أبيض، شديد البياض، ولحيته الطويلة أيضاً. لم أبصر بياضاً في هذا النقاء من قبل. أشار إلينا بيده لنتبعه، كان يعرف أننا نقصد مكتبة الدير، وعندما وصلنا فتح بوابة من خشب عتيق لم تكن مقفلة وقال بصوت يرتجف: هذه هي المكتبة التي جئتم تزورونها، الكتب أمامكم، ابحثوا عمّا تشاؤون. ثم أشار بيده الى صندوق وضع في إحدى الزوايا وقال: هذا لا تفتحوه، في داخله كتاب يجب ألا تقرأوه. وقال: حذار هذا الكتاب السحريّ. ومضى.

المكتبة كأنمّا كنّا نعرفها، جدرانها حافلة بالأجنحة، وفي الأجنحة تتوزع رفوف مملوءة كتبا قديمة، ذات أغلفة سميكة. كانت أسرجة مضاءة تتدلى من السقف الذي لم يكن عالياً، والأجنحة تتعاقب الى الداخل الذي كان يبدو لنا مظلماً. رحنا نجوب الردهات المفتوحة واحدة على أخرى، نقترب من الرفوف ونحدّق، لا أذكر إن كانت العناوين بالعربية، لكننا كنا نقرأها... لم نمدّ يدنا الى كتاب، لا أدري لماذا. كانت تحتل وسط الردهات طاولات ذات طراز قديم، من خشب غريب الرائحة. وعلى كل طاولة مشكاة مضاءة بشمعة. كانت الشموع تشتعل ولم تكن تذوب. ولم تساورنا حيرة حيال النور المنبعث منها. اقترب أحدنا من الصندوق الذي نهانا الكاهن عن فتحه. صرخت مذعوراً: إياك أن تفتحه. راح هذا الشخص يضحك بصوت عالٍ. ازداد خوفي وقلت له: إذا فتحته سيحلّ علينا سحر... الآخرون ظلوا صامتين، كانوا في حال من الحيرة: هذا الصندوق يجب فتحه، ولكن ماذا لو حصل مكروه؟ عندما اقترب هذا الشخص من الصندوق ومدّ يده ليرفع غطاءه، رحت أعدو بسرعة دون أن أعلم نحو أي جهة. ثمّ...

هزة

كانت الأرض تهتز تحت قدميّ، كنت أبصر أشخاصاً ينهضون من مقابر كانت تنهدم من تلقائها، ثم تنفتح فيها توابيت وينهض أناس ليسوا بأموات ولا هياكل عظم، أناس كأنهم دفنوا للتو... لكنني أبصرت بين هؤلاء الناهضين من المقابر أشخاصاً أحياء ينهضون من شقوق في الأرض وكانوا كأنّما في حفلة صاخبة ، أحدهم بدت له عين ثالثة في وسط جبينه، تظهر وتختفي، لم أتمكّن من أن أسأله عن سرّ هذه العين.الأشخاص الذين يطلعون من شقوق الأرض عرفت، لا أدري كيف، أنهم لم يولدوا بعد، انهم سيولدون مع انهم لم يكونوا صغاراً، بل في متوسط أعمارهم ، بضعة منهم يعتمرون قبعات وآخرون في ثياب العيد... لم تظهر سمات الخوف على وجه أحد. كانوا يرقصون ويغنون، الأرض تهتز والمقابر تتهدّم وينهض أولئك الراقدون الذين كانوا في عداد الموتى وهم الآن في ملء حياتهم...

كنت أمشي وكأنني واقف بينهم، لا أتقدّم ولم لم أكن قادراً على مشاهدة كلّ ما يجري...


لوحة: خلدون شيشاكلي

الكتاب الابيض

كنت كلّما قرأت سطراً من الصفحة يمّحي، وسطراً تلو سطر كانت الصفحة تمسي بيضاء، وصفحة تلو صفحة كان الكتاب الذي بين يديّ يمسى أبيض. عندما قرأت الكتاب كلّه لم تبق منه سوى صفحات بيض. حتى عنوانه، حتى اسم مؤلفه لم يبق لهما أثر. لكنني لم أكن أعلم ماذا قرأت. كانت الأسطر تمحي من رأسي أيضاً مع أن عينيّ كانتا تقرآن بنهم تلك الجمل التي كانت تتحدّث عمّا لا أذكر.

على الطاولة التي أجلس اليها، كانت كدسة من كتب بيض، كأنها تنتظر من يملأها أحرفاً وجملاً.

النار

حدّثنا الرجل العائد من هناك، أنّه سعيد في العالم الآخر. قال إنه عالم يشبه هذا العالم ولا يشبهه في آن. هناك مثلاً، قال، أشرب كأساً وأنا على شرفة تطل على واد بعيد تشتعل فيه نار رهيبة. وما إن أدار الرجل ظهره حتى خرجت من ظله امرأة أخبرتنا الحكاية نفسها. لكنها قالت إنّها تشرب هناك كأس نبيذ وهي تنظر الى النار من بعيد. وردّدت: النار بعيدة، بعيدة جداً.

ساعة البرج

نهضت الى النافذة، أزحت الستار ونظرت الى الخارج. لم أكن أعلم كم من وقت مرّ على نومي في هذه الغرفة، وعلى هذا السرير الذي لم يكن سريري الذي اعتدت النوم عليه. عندما نظرت الى السماء في الخارج لم يتبدّ لي إن كان نهار أم ليل. لا ضوء يدلّ أن النهار يحلّ الآن ولا عتمة تشير الى أنّ الليل يرين على الأفق.

لم يكن الوقت نهاراً ولا ليلاً، لا صباحاً ولا مساء، لا فجراً ولا غروباً. رحت أحدّق الى السماء ثم نظرت الى الأسفل فلم أبصر ما يفيدني إن كان هو الليل أم النهار... لمّا أصابتني حيرة شديدة تركت النافذة ونظرت الى ساعة الجدار التي كانت تتناهى اليّ دقاتها: تك تك تك تك تك. لكنّ ما فاجأني أن ميناء الساعة كان خلواً من الأرقام والعقارب، وحده البندول المتدلّي من علبة الساعة كان يتحرّك يميناً شمالاً، شمالاً يميناً وفق إيقاع التكات المنتظمة. رجعت الى السرير ورحت أفكر، وقبل أن أتمدّد عليه قلت: لعلّ عطلاً أصاب ساعة البرج السماوي، فلأنم إلى أن يتمّ إصلاحه.

الغرفة الرقم 20

طرقت الباب طرقات خفيفة، عندما لم يردّ أحد، فتحته بهدوء ودخلت. كنت أعلم انها لا تقفل باب غرفتها الرقم عشرين، في هذا الفندق القديم. كانت السادسة صباحاً، نظرت إليها تنام على السرير ذي الأعمدة الأربعة، شبه عارية، الملاءة تلف نصف جسدها. لم تستيقظ. لم أوقظها، وضعت وردة حمراء على مخدّتها وخرجت.

عندما دقت ساعة الجدار في الممشى دقات سبعا خرجت من غرفتي وتوجهت الى الغرفة عشرين، حاملاً وردة حمراء، فتحت الباب ودخلت، كانت لا تزال نائمة، شبه مغطاة وكأنّها شعرت ببرد الصبح فتدثرت بالملاءة. وضعت الوردة على صدرها وخرجت.

في الساعة الثامنة دخلت، وضعت الوردة على كتفها الأيمن، في التاسعة على كتفها الأيسر، في العاشرة على بطنها، في الحادية عشرة على حوضها، في الثانية عشرة بين فخذيها... ساعة تلو أخرى، كاد السرير يمتلئ بورد أحمر. عندما دقّت ساعة الجدار الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل، دخلت الغرفة ووضعت الوردة في مزهرية كانت على طاولة صغيرة بجانب السرير.

كانت ساعة الجدار في ممشى الفندق في الطابق الثاني تدقّ دقتها الثانية عشرة الأخيرة عندما فتحت عينيّ وأبصرتها واقفة أمامي شبه عارية، وفي يدها وردة حمراء، راحت تنثر أوراقها عليّ ثم خرجت من دون أن تنبس بكلمة. وجهها كان أبيض، عيناها كأنهما مرسومتان بقلم رصاص، شفتاها رقيقتان، كانت تلف جسدها بشرشف رقيق يبين من ورائه عريها البارد... نهضت من السرير مذهولاً وهرعت وراءها شبه عار. في الممشى لم أجد لها أثراً.

عدت و دخلت غرفتي ثم خرجت قليلاً، ونظرت الى الرقم عشرين على باب غرفتي. دخلت، ثم أغلقت الباب بالمفتاح. وعلى السرير ارتميت شبه مذهول.

العضو المقطوع

رحت أصرخ وهم يمسكون بي، عندما تمكنوا منّي نزعوا عني سروالي ومدّ أحدهم يده الى عضوي وبشفرة يحملها بيده الثانية انقض عليه وقطعه، فانبجس الدم وارتفع صراخي... رمى عضوي على التراب أمامي وكان لا يزال ينبض. ثم تركوني وحدي في طرف الغابة التي اقتادوني اليها وفرّوا، الدم ينزف مني وصوتي يدوّي دون أن يسمعني أحد. ثمّ سقطت أرضاً، متخبطاً في بقعة من الدم راحت تتسع وتتسع حتى أصبحت الأرض حمراء والصخور والأشجار...

خيمة الروح

عندما أبصرت الأسرّة تملأ الساحة الكبيرة، ظننت أنني أشاهد مستشفى في الهواء الطلق. كانت نصبت خيمة صخمة وضعت الأسرّة تحتها لتردّ عن المرضى أشعة الشمس خلال النهار. ثمّ لما اقتربت من الخيمة علمت أن هؤلاء المرضى هم من المحتضرين الذين فُقد الأمل من شفائهم، وهم وضعوا هناك على أسرّتهم ليخضعوا لاختبار عجزت عن فهمه بعدما شرحه لي طبيب كان يتنقل بين الأسرّة، حاملاً لوحاً صغيراً عليه أوراق. كان لطيفاً ولم يقطّب حاجبيه عندما استوضحته أمر هؤلاء المرضى، قال لي: أنظر الى هذه الأجهزة الأربعة خارج الخيمة، إنها أجهزة حديثة جداً، اخترعناها نحن، كلّ جهاز يبث أشعة يجمعها حقل كهرو-مغناطيسي في شكل خيمة غير مرئية، ووظيفة هذا الحقل أن يسجّل، في لحظة موت المحتضر، صعود روحه من جسده. عندما يشرف المريض على لحظة الموت، نضع سريره وهو ممدّد عليه تحت الخيمة الكهرو-مغناطيسية، فما إن يلفظ نفسه الأخير وتصعد روحه تهتز الأشعّة ويُسجّل اهتزازها على الشاشة الصغيرة التي تراها قرب أحد الأجهزة. هذا الاختراع أردنا به أن نثبت لكل من لا يؤمن بوجود الروح أنّ الروح تكمن في الانسان وعندما يموت تغادر الروح، صعوداً نحو السماء. والخيمة اللامرئية التي يوضع المحتضرون تحتها هي التي تؤكد أن الروح تصعد ولا تنزل مثلاً أو تتوه على وجه الأرض. ثم أشار لي أن أمكث هنا لأكون شاهداً على صعود الروح. ولم تمضِ دقائق حتى أتى الممرضون بأحد المحتضرين وجعلوا سريره تحت الخيمة، وما إن شهق شهقته الأخيرة حتى التمع برق فوقه وزال بسرعة، وارتسم على الشاشة خطّ متعرّج كمثل الخطوط التي ترتسم على شاشات الأجهزة الطبية في المستشفيات. بُهرت بهذا المشهد وخفق قلبي وكأنني أشاهد أعجوبة، وقلت سأمكث مزيداً من الوقت هنا لأتأكد من أن ما يحصل هو حقاً يحصل. بعد نحو عشر دقائق جاؤوا بمريض آخر كان على آخر رمق، وضعوه تحت الخيمة الكهرو-مغناطيسية ثم زفر زفرته ومات. ولكن ما من برق التمع فوقه، ولا سجلت الشاشة الالكترونية خطاً، مع أنّها كانت مضاءة مثلها مثل الأجهزة... اضطرب الأطباء والتقنيون للفور، واقترب طبيب من الميت وراح يجس صدره بالسماعة، ثم أشار الى رفاقه مؤكداً موته وتلاشي نبضه ودقات قلبه. ثم اقترب طبيب آخر وراح يهز جسد الميت، ورفع الغطاء عن ساقيه فإذا بالفراش مبلل ببوله. وهذا دليل قاطع على مفارقته الحياة، واتجه أحد التقنيين نحو الشاشة ليتأكد من جهوزيّتها وعدم حلول عطب بها... ارتبك الجميع. قال أحدهم: لعلّه بلا روح. أو لعلّ روحه فارقته قبل أن يموت جسده. هذا شخص بجسد فقط. ثم قال آخر: لعلّ جسده كان على خلاف مع روحه فافترسها.

لم تمضِ لحظات حتى جاؤوا بمحتضر آخر. وعندما فاضت روحه التمع برق أعلى الخيمة، وسجّلت الشاشة خطاً متعرّجاً. صاح الأطباء فرحاً، وهدأوا بعد حال الاضطراب الذي أصابهم. وأمر أحدهم بالتخلّص سريعاً من جثمان المحتضر الذي كان بلا روح، خوفاً من أن يفسد عليهم اختراعهم العظيم.

كنت أبصر هذا المشهد مندهشاً، خائفاً، وددت أن أضحك، لكنني لم أجرؤ.

الراقص

كان يرقص على حافة تطلّ على بحر ساكن سكون مرآة. يرقص رقصة باليه، عارياً بجسد شديد البياض، وجهه صوب البحر. لم أبصر منه سوى ظهره وفخذين ناعمتين تنتهيان في ما يشبه قبّتين صغيرتين. يقفز قليلاً، محرّكاً يديه وقدميه برشاقة، الضوء يسقط على رأسه حتى ليكاد يمحوه، والزرقة كأنّها تغرقه في سرابها فيبدو كأنه يرقص في لوحة داخلها بحر. عندما استدار وبان وجهه وصدره بدا كأنّه بلا خصيتين ولا إحليل. حوضه أبيض ولا شعر فيه. ظلّ يرقص، محرّكاً كلّ فاصلة من جسده حتى اختفى.

ثدي العجوز

شاهدت امرأة عجوز تحتضن طفلاً وليداً يشعّ بين زنديها كجوهرة. عندما راح يبكي شرّعت عن صدرها وأخرجت ثدياً متهدّلاً، تغضّن جلده ،وناولت الطفل حلمتها اليابسة فراح يرضع بنهم. كان الطفل جميلاً، مشرق المحيّا، في حضن هذه المرأة العجوز التي فاض ثدياها بالحليب.

بلا وجوه

كانوا بلا وجوه، يمشون كما لو أنهم يبصرون. رحت أنظر إليهم مستغرباً: كيف اختفت وجوههم وحلّ محلّها هذا الجلد الزهري الذي يشبه جلد الأطفال عندما يولدون. كانوا كأنهم يروننا، نحن الذين كنّا على الرصيف، يمشون بلا عصيّ، لا أحد يدلّهم الى أين يذهبون. بلا عيون، بلا افواه، بلا أنوف... كأنّ يداً خاطت وجوههم بخيوط من لحم مبقية على آذانهم وشعرهم. هل يبصرون بآذانهم؟ سألت شخصاً يقف الى جانبي، لم يجب. لم اجرؤ على مناداة احد منهم.

المائدة

كنّا ننتظر المدعوّين، جالسين في البهو الكبير والمائدة كانت قد امتلأت بالأطايب ولم يبق سوى أن نجلس اليها... تأخر المدعوون ساعة أعقبتها ساعة. شعرنا بالجوع ينسلّ إلينا. نهض سيد الدار ونادى خدامه: اخرجوا وادعوا الفقراء الذين على الأرصفة، جيئوا بالمتسولين والجائعين، المائدة ستكون لهم لأنهم أحقّ بها. عاد الخدّام بجمع من هؤلاء الناس الفقراء والمعدمين بثيابهم الرثة والمتسخة وجلسنا جميعاً إلى المائدة، نأكل ونشرب، متنعّمين بما قدّم إلينا. وما تبقى من طعام وفاكهة، أبى السيد إلاّ أن يحمّلهم إياه. لكنّ واحدا منهم انقض على ابريق الذهب الذي على الطاولة وحمله وفرّ به هاربا. نظر الجميع اليه نظرات استغراب ولكن لم يجر وراءه احد.

بيتنا

عندما دخلت البيت أدركت للفور أنّه ليس بيتنا مع انني أبصرت أمي في المطبخ تهيئ الطعام. الأثاث هو أثاث بيتنا، أما البيت فلا. حتى كتبي أبصرتها ولكن في غرفة ليست غرفتي. الحديقة التي تجاور البيت حلّت محلّها ساحة. قلت لأمي: هذا ليس بيتنا. قالت: بلى، إفتح النافذة وانظر. فتحت النافذة ونظرت، كان الليل معتماً، لكنّ السماء كانت مزروعة بنجوم لم أبصر مرّة ما يماثلها.

الضمادة

كنت أبحث عن صديق في مستشفى نقل اليه في كينشاسا، بعد وقوعه من الطابق الخامس في المبنى الذي يقطنه. عندما دخلت بهو المرضى كما أشارت إليّ ممرّضة سوداء، أبصرت عدداً هائلاً من الأسرّة يرقد عليها مرضى، سود بمعظمهم، نساء ورجال، شباب وعجائز. رحت أجول بين الأسرّة التي تتجاور وتمتدّ وكأن لا نهاية لها. بعد ساعتين ربما، بلغت السرير الأخير ولم أبصر صديقي. كان المنظر رهيباً، أكياس مصل تتدلى من أعمدة قرب الأسرّة، شراشف بيض ملطخة بالدم، أخرى صفراء، أسرّة من حديد صدئ، مرضى ينامون وآخرون يجلسون أو يقفون قرب الأسرّة، بعضهم يئن، بعضهم يصرخ... لم يكن عليّ أن أرجع من حيث دخلت. وجدت أمامي بوابة ففتحتها وخرجت، وإذا بي في حديقة كبيرة تتوزعها مقاعد يجلس عليها مرضى بلباس أبيض... رحت أحدّق يميناً وشمالاً حتى أبصرت صديقي. ناديته وركضت نحوه. عندما توقفت أمامه ألقى علي نظرة غريبة. قلت له: كنت أبحث عنك. خفض عينيه، ثمّ رفعهما وتملاّني ولم ينبس بكلمة. رحت أكلّمه، لم يبال. نظر الى الأعلى، صامتاً. كانت ضمادة تلفّ رأسه، وكتب عليها إسمه بالفرنسية، ورقم هو 22.

شراهة

كان هيكل عظميّ يقف بجوار عمود الكهرباء على الرصيف، يدخّن بشراهة. كلما أنهى سيكارة تناول أخرى من علبة كان يخبّئها في حوضه، يشعلها من نار السيكارة السابقة قبل ان يرمي عقبها ويدوسه بعظم قدمه. لم يكن يستخدم ثقاب كبريت ليشعل سكائره، حرصاً على الوقت. كان يدخّن من غير أن ينظر الى المارّة، ابتسامته وحدها ترتسم على فمه الذي لم تبق فيه شفتان. كان الدخان يتصاعد في الهواء حول جمجمته ولا ينزل في صدره النافر الاضلاع، الفارغ تماماً.

لم يكد ينهي آخر سيكارة في العلبة حتى انقضّ عليه ثلاثة شرطيين كانوا يهرولون صوبه وكأنه مجرم. عندما قبضوا عليه أصرّ على أن ينهي السيكارة الأخيرة، لكنهم لم يأذنوا له، سحب أحدهم السيكارة من فمه ورماها ثم داسها، وكبّل يديه. ساقه الثلاثة مشياً على الرصيف بين المارّة الذين راحوا يضحكون لمرآه مقهقهين. أما أنا فلم اضحك، تأسفت عليه لأنه سيقضي بقية ايامه في السجن.

النصف

كنت أنظر الى نفسي في مرآة كبيرة فإذا بي أرى وجهي نصف وجه، أنفي نصف أنف، وكذلك فمي وعنقي... كنت أيضاً بعين واحدة وأذن واحدة، بنصف صدر، بيد واحدة، ساق واحدة، قدم واحدة... حتى الثياب كانت نصف ثياب.

عندما نظرت الى النافذة وجدتها نصف نافذة، الجدار نصف جدار... في الخارج لم يبق من العالم إلاّ نصفه.

الناجون

كانوا يسقطون، واحداً تلو آخر، يرتمون من شرفات ونوافذ تتصاعد منها ألسنة لهب. يقفزون كالأسماك، يتسابقون في سقوطهم ملء الهواء، وفي أحيان كانوا يرسمون خيطاً بأجسادهم المتصلة بعضاً ببعض... عندما يبلغون الأرض يرتطمون بها ثمّ يقفون في ما يشبه الصفوف.

نحن الذين كنا نشاهدهم لم نكن نتردّد عن القول: لقد نجوا من النار بأعجوبة.

الرجل الحامل

كان الرجل يمشي في الشارع، مرتدياً تنورة تبلغ أسفل ركبتيه، بطنه منتفخ والى جانبه امرأة كانت تمدّ يدها اليه متلمّسة بطنه، حيناً تلو حين. راح الناس يلقون عليهما نظرات ملؤها الحيرة. سألت أحدهم عن هذا الرجل، فابتسم قائلاً: إنه الرجل الحامل وزوجته، إنهما يسكنان هنا في الحيّ ولم تمضِ على زواجهما أشهر حتى حمل هو. فوجئنا جميعاً، ولكن ما من أحد تجرأ على أن يسألهما عن هذا الحمل. قيل إنّ لديه عشيقاً كان يعاشره قبل الزواج. وقيل إنه امرأة وليس رجلاً إلاّ ظاهرا. وقيل إنه رجل وامرأة في آن. وقيل إنّ امرأته لها عضو ذكر، على رغم بروز نهديها. وقيل إنّ أباه كان مثله... وورث هذا الأمر عنه. رحت أنظر إليه، كان يمشي مشية امرأة حبلى، ولكن بساقين مشعرتين. ولم تكن تخلو مشيته من إثارة ممزوجة بطابع أمومي.


لوحة: خلدون شيشاكلي

ساعة جدار

كانت ساعة الجدار تلفظ الثواني: تك، تك، تك... لم يكن في مينائها عقربان. ساعة قديمة في بيت من خشب بنّي نحتت من حوله أزهار، واجهته من زجاج. تذكّرت أننا كنا نملك واحدة مثلها. ظلت الساعة تتكّ، ثانية تلو ثانية، تكات كادت تثقب أذنيّ. لم يكن من أحد هناك، الصالة فارغة، لا طاولة، لا كنبات، لا كراس... النافذة المفتوحة تطلّ على زرقة السماء. راحت الساعة تدقّ دقات عالية كأنها تؤذن بحلول وقت منتظر. عندما بلغت الدقة الخامسة والعشرين توقفت. كانت الظلمة قد حلّت من وراء النافذة، مع أنّ الليل لم يحلّ. ثم عاودت ساعة الجدار تكّاتها: تك، تك، تك...

اقفاص

كانوا يعرضون على طول الرصيف أقفاصاً لا عصافير داخلها. أقفاص بالمئات تنتظر مَن يأخذها. اقتربت من احد الباعة وقبل ان اسأله قال لي : لم يبق في العالم عصافير. لقد انقرضت. لكنك اذا وضعت اذك على قضبان القفص تسمع زقزقة وخفق اجنحة.

قايين

لم يكن من أحد هناك سوى هذين الرجلين، لا ادري كيف كنت ابصرهما. كان أحدهما منحنياً على الأرض يقطف بيديه نبتة عندما انهال عليه الآخر بصخرة صغيرة التقطها عن الأرض وراح يضرب بها رأسه فحطّمه. انبثق الدم وسقط النخاع على التراب ومضى الجريح يتخبّط على الأرض مطلقاً زفرات خافتة. انقض القاتل على النخاع وراح يلتهمه متلذذاً به. ثم نظر الى السماء، ضرب صدره بيديه القاسيتين وصرخ... لكنه سرعان ما سمع صوت امرأة أطلّت من بين الأشجار، تقول: قايين أين أخوك؟ لم ينظر الرجل الى أمّه وسرعان ما شقّ طريقه في الغابة هارباً من نظراتها الحارقة. اقتربت الأم من جثة ابنها وراحت تولول، وقالت: اللعنة عليك يا قايين ستصبح أنت رجلي الوحيد، أنت ابني القاتل، سأنجب منك أولاداً سيقتل بعضهم بعضاً. وراحت تبكي.

كائنات ضارية

كنّا من خلف النافذة نبصرهم كلّ ليلة، في ضوء القمر، عندما يخرجون من أوكارهم. كانت فرائسنا ترتعد خوفاً، وكنا نحدّق إليهم بصمت، مختبئين وراء الستائر. رجال شبه عراة، رؤوسهم رؤوس ذئاب، يقفزون قفزاً، صرخاتهم أقرب الى العواء. كانوا ما إن يبصروا إنساناً أو حيواناً ينقضون عليه ويمزّقونه بأنيابهم. كانوا يهجمون على بوابات البيوت، عندما يشمون رائحة بشر في داخلها، لكنهم ما كانوا قادرين على تحطيمها. كلّ البوابات كانت من حديد صلب والنوافذ أيضاً...

في أول الفجر كانوا يعودون بهدوء، كأنهم متعبون، ثم يختفون قبل أن تنقشع السماء ويشيع الضوء في الجهات.

الفزاعة

سرب الطيور الذي كان يحلّق فوق حقل القمح لم يخشَ الفزاعة التي كان الهواء يحرّك يديها وثيابها التي أشبه بالأسمال. راحت العصافر تنقر سنابل القمح ممزّقة إياها بمناقيرها، غير مبالية بالفزاعة التي غرسها الزارعون هناك. لكنّ الفزاعة سرعان ما رفعت يديها وراحت تركض بين السنابل مطاردة اعداءها. أما العصافير فحين سئمت حركة الفزاعة انقضت عليها وحملتها بمناقيرها وطارت بها وهي تخبط بيديها وقدميها.

عندما شاهدنا، نحن أصحاب الحقل، الطيور تحمل الفزاعة، جلبنا بنادق الصيد لنطلق النار عليها... لكنّ العصافير كانت ابتعدت في وسط السماء.

حطب

أشجار عارية في حقل لا تخوم له. أنظر فلا أرى إلا أشجاراً عارية. هل هو الخريف حلّ بها؟ هل التهمت نار أوراقها وتركتها جذوعاً بأغصان يابسة؟ أشجار كأنها أحطاب منتصبة في هذا الحقل. حتى التراب له لون الحطب. اشجار وراء اشجار، حتى منتهى النظر، هياكل عظمية ولكن من حطب.

رجل

رجل بعين واحدة، بجفن واحد ويد واحدة وساق ورجل... بنصف أنف ونصف شفتين، نصف عنق، نصف صدر... كان يمشي وأمامه نصف ظل. لم يكن مقطوعاً بالنصف، كان هكذا نصف رجل، رجلا بنصف رجل. عندما اقترب من الساحة التي كنا نلعب فيها: صرخنا كالأولاد عندما أبصرناه وهربنا خوفا.

النيام المستيقظون

كانوا يجلسون على كراسي من قشّ في ضوء القمر. لم أنتبه كم كان عددهم. رجال ونسوة، كانوا يبكون جميعاً وكأنهم فقدوا أبناء أو أخوة أو أحبّة. كأنهم كانوا في جلسة عزاء. جلست على كرسيّ ورحت أنظر إليهم بحيرة تامة. انهم يبكون كلّ على طريقته، بصوت خافت أو عالٍ، تأوّهاً وولولة، بحنجرة مجروحة، بتنهّد... ما إن هدأ قليلاً الرجل الذي الى جانبي حتى بادرته بسؤال: لماذا تبكون جميعاً؟ هل فقدتم شخصاً غالياً في قريتكم؟ تنحنح وهزّ رأسه قبل أن يجيبني من غير أن ينظر إليّ ثم قال: المأساة كبيرة. لقد متنا. إنك تبصر أناساً ميّتين. لم أفهم ما يقول. سألته: كيف متم وأنتم تبكون؟ أجابني متنهداً: مضت ثلاثون ليلة ونحن نجلس هنا ونبكي، وعلينا أن نواظب على البكاء شهراً آخر كي تعود أحلامنا إلينا. إنها اللعنة التي حلّت بنا، نحن أهل هذه القرية. فقدنا قدرتنا على الحلم. لم يعد أحد منّا قادراً على الحلم. ومن دون الأحلام نصبح في عداد الموتى. في آخر حلم أبصره أحد الرعاة وكان ينام على تلّة، زاره كائن غريب وأبلغه بالأمر. حدّثه بلهجة قاسية قائلاً له: إنكم يا أهل هذه القرية ستصابون بجفاف الأحلام. بعد اليوم لن تبصروا حلماً كما اعتدتم أن تبصروا من قبل، لدى إغماض عيونكم. كانت رؤيا الراعي نذيراً حقيقياً. منذ تلك الليلة حلّ بنا الجفاف وهجرتنا الأحلام. ومَن لا يحلم لا يمكنه أن ينام. الحلم حارس النوم. إننا ننام وكأننا يقظون. في إحدى الليالي أطلّ الكائن الغريب مرّة أخرى على الراعي في رؤيا خاطفة وقال له: على أهل القرية أن يلتقوا كلّ ليلة في ضوء القمر ويقضوا ثلاث ساعات من البكاء. يجب أن يبكوا حقاً، أن يبكوا وينوحوا. ثمّ بعد شهر ربما أو سنة أو بعد سنتين، ستعود أحلامهم إليهم.

هكذا بدأنا البكاء منذ شهر، ثلاثين ليلة، وحتى الآن لم تظهر أحلامنا. إننا سنظل نبكي حتى نستعيدها. حياتنا بلا أحلام أرض خراب ثمّ صمت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.