أكتب حريتي
“منذ اعتقالِك وأنت تعيشين معي، وأرى كل شيء فيك، حتى لفتاتك المباغتة، وأنت تبحثين عن ورقة ضائعة، أرى كل شيء، ولا أعلم كيف سأصدق حين أراك حرةً من جديد، أنني حقيقيّ، وأنك حقيقية”.
هكذا يقول عاشق لحبيبته في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، وبدوري كنت أعرف العاشق المغفّل حق المعرفة، إنه أنا، أما العشيقة فكانت وطنا أشعل ثورتين قبل أن يعتقل، وكنت شاهدا أيضا على الدم الذي أزالوه قريبا من واجهات البيوت، لأنه يفضح خيانة الحاكمين.
مع الأسف، المسافة بيننا وبين الحرية هي نفس المسافة بين السماء والبشر.
ماذا على الشاعر أن يكتب وسط موجات الموت والعنف والسجن والتشريد؟
يكتب الوطن قبل أن ينهار.
ماذا عليه أن يقول؟
يقول الشهادة، علّها تصادف آخرين في عالم الغيب، إن خيطا خفيا من القصائد يربط السلالة، والشاعر الذي كان في الماضي منشغلا بحلم تغيير العالم، باتت مهمته الأخيرة أن ينقذ هذا العالم من الدمار، أن يصالح ثانية بين الشعر والثورة، وأن يحمل الصليب حتى لو أهانوه من جديد، عليه أن يؤمن بأن القصيدة ملاذه الأخير في مواجهة المحو والخراب، وأنه لم يعد ثمة مهرب آخر، فيما البرابرة يأكلون خريطة الأوطان.
إنني أومن بما آمن به الشعراء الذين منحوا دماءهم بسخاء للقصيدة، وأوقدوا ولو شرارة صغيرة في ضمير العالم، أومن بقوة الكلمة، وأعرف أنني أملك رصيدا هائلا من المآسيَ والانتصارات، من الاستعباد والثورة، القتل والجنون والسجن والمقاومة، وأملك صوتي أيضا أيها العالم، ولا أستطيع سوى أن أقول قصيدتي، حتى لو وضعوا ألف حاجزٍ بيني وبين حريتي.
هكذا سيعود الشاعر إلى أول الصفوف، مدفوعا بالكآبة والأمل والصراع، مشدودا لقلب الإنسانية الذي ينأى بلا رحمة، مؤمنا بحرية البشر وحرية البلاد، بالحياة والموت والبطولة، بعد أن كفر طويلا بالمقولات الباذخة، وأصبحت الحرية لديه بابا لإثارة الضحك، وقنع بركن صغير من العالم لتجريب ألعابه المنفردة، وتشوهاته عبر سنوات الحلم والهزيمة.
الساحة الآن خالية لمن سيحمل اللقب، فمن بإمكانه أن يقود ثورة أيها الشعراء، من أجل بقائنا فوق هذه المساحة من العالم، من أجل حريتنا وهى تموت على الشطآن البعيدة، وليس بمقدورها حتى أن تذوق حتى مرارة المنفى، ورماد التذكر.
