أكثر من مجرد كلمة
يتساءل الكثير من الناس لماذا توجد رقابة على المطبوعات ومنها الأعمال الأدبية، ولماذا كل فترة وأخرى يطالعنا الإعلام بخبر حظر نشر أو توزيع كتاب ما، أو بتهديد، أو محاكمة، أو ربما هدر دم أحد الكتاب. والكثير يعجب من هذه الصرامة في التعامل مع الكلمة المكتوبة، ويتساءل عما وراءها، وعن مدى أهميتها، أو جدواها.
يظن الكثيرون أن الأعمال الأدبية ما هي إلاّ تعبير عن واقع اجتماعي معين. ولكن ما يغفلونه هو أن الأعمال الأدبية ليست مجرد مرآة للواقع الاجتماعي لمجتمع ما، وإنما لها وظيفة خطيرة أخرى، وهي أنها تعتبر أداة من أدوات السيطرة الاجتماعية التي قد تستعمل لإحداث تغييرات مجتمعية كبيرة ومؤثرة. فقد يخفى على الكثير من الناس ما تحمله الكلمة من قوة ونفوذ قد يفوقان أو يتساويان مع القوة البدنية، أو قوة السلاح. ويمكننا أن نتلمس هذه القوة عندما نراقب كيف ينشأ عراك عضلي بالأيدي بين طرفين أو عدة أطراف أثناء مناقشتهم لإحدى القضايا. فعادة ما نلاحظ في هكذا نقاشات أنّ هذا العراك بالأيدي لا يبدأ إلاّ عندما يفشل أحد طرفي النقاش في الدفاع عن نفسه، أو عندما يفشل في إثبات حجته لغويا. فعندما يصل هذا الطرف إلى يقين بأنه لم يعد في مخزونه اللغوي ما يدافع به عن نفسه، وما يثبت به حجته، عندها فقط يلجأ هذا الطرف للأساليب غير اللغوية، مثل استخدام العضلات أو السلاح. وهكذا فإنّ العنف باستخدام العضلات أو السلاح ما هو إلاّ اعتراف بفشل اللغة في أخذ الحقوق، أو استرجاعها، أو إثبات الحجة.
فاللغة لا تستخدم من أجل تحقيق التواصل فحسب، وإنما من أجل تحقيق الذات، والتعبير عنها، كما يحصل في الأعمال الأدبية، وفي المسابقات اللغوية. كما تستخدم اللغة من أجل التلاعب بالآخرين، والتأثير بهم، وغسل أدمغتهم، والسيطرة عليهم. وهذا يقودنا إلى أن ندرك أن للغة قدسية تجعلها مهابة، وتجعل الآخرين يخشون تأثيرها وسطوتها. فالأديان السماوية قد استخدمت اللغة باعتبار أن لها قدسية بحد ذاتها، قدسية تجعلها ملجأ للخائف وترياقا للمريض. فعند مطالعتنا للقرآن الكريم، مثلا، ندرك النفوذ والسحر الخلاب الذي تمارسه لغته على مسامعنا وكينونتنا من خلال استخدام الأساليب اللغوية المختلفة من جدل وحوار وقص وعرض ووصف.
ولكي ندرك ما للغة من أهمية باعتبارها تشكل وطنا، أو هوية اجتماعية، أو عنصر وحدة وتكاتف وتآزر، فما علينا إلّا أن نرجع بذاكرتنا قليلا إلى الوراء لنرى كيف كان يسعى المستعمرون للدول إلى اجتثاث ومحو هوية سكان البلدان المحتلة واستبدالها بلغتهم. وهذا لأن المستعمرين كانوا قد أدركوا أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، وإنما هي رابط اجتماعي، ورمز للهوية الوطنية والولاء للوطن، وأنها بذلك ستشكل مصدرا للمتاعب بالنسبة إليهم. ومثلما أدرك المستعمرون أهمية اللغة باعتبارها هوية وطنية، فإن المؤمنين بالقومية وقادة ثورات التحرر والاستقلال قد أدركوا هم أيضا هذه الأهمية للغة باعتبارها تمثل وعيا قوميا يمكن استخدامه لخلق الولاء وتعبئة الجماهير.
إنّ نشوء ما يسمى بالرقابة على المطبوعات في الكثير من الدول يشير إلى النفوذ الذي تتمتع به اللغة على الأفراد والجماعات. وعادة ما تكون الأفكار والرؤى المخالفة لرأي الأغلبية الساحقة هي التي تتعرض للرقابة أو لحظر النشر، وذلك لخشية الرقيب من تحول هذه الأفكار من مجرد أفكار ورؤى هامشية إلى أفكار مهيمنة وسائدة. إن الرقابة على المطبوعات ماهي إلا إدراك الرقيب ما للغة من نفوذ وقدرة مؤثرة في إحداث تغيير في النظام الاجتماعي للمجتمع. فالرغبة بحماية إحدى مؤسسات المجتمع التي قد تكون مؤسسة الدين، أو الأخلاق، أو مؤسسة العادات والتقاليد، أو مؤسسة الحكم هي التي تقف خلف فرض أنظمة الرقابة على المطبوعات، وعلى النشر، وعلى الإعلام، وعلى المناهج المدرسية، وغيرها. فمن أمثلة خشية الأنظمة السياسية من الكلمة المكتوبة هو ما قام به هتلر، مثلا، في عام 1933 عندما أقدم على حرق 25000 كتاب في ميونخ بحجة أنها ليست مكتوبة باللغة الألمانية. ولكن هذا التطهير الذي تعرضت له الكتب لم تكن تكمن وراءه، في حقيقة الأمر، إلاّ خشية من أن تضم هذه الكتب أيّ أفكار ورؤى معارضة، أو مخالفة للحكم النازي آنذاك.
وهذا يقودنا إلى قضية لطالما شغلت المفكرين والباحثين، ألا وهي هل لا بد للعمل الأدبي أن يكون ابن بيئته، وأن يكون مرآة صادقة للمجتمع الذي يعكسه بكل ما في هذا المجتمع من قبح، ومثالب، ونقائص، وسلبيات، وتحديات من مثل قضايا حرية العقيدة، أو تغيير العقيدة الدينية، أو العذرية قبل الزواج، أو الجنس دون زواج، أو المثلية الجنسية، أو زنا المحارم، أو السخرية من الرموز الدينية، أو مشاهد العنف، والجريمة، والاغتصاب، والمخدرات، والمافيا، أو محظورات السياسة، وغيرها، أم أن العمل الأدبي لا بد له أن يكون نظيفا من كل ما قد يعرضّه للحظر، أو يعرض كاتبه للعقوباب، كالفصل من الوظيفة، أو المحاكمة، أو التهديد، أو هدر الدم.
إن خلق أعمال أدبية نظيفة وذلك عن طريق إطلاق يد الرقيب لا يعني إلا أن قارئ العمل الأدبي قد تم خداعه بحجب أفكار الكاتب الحقيقية عنه، وأيضا بتقديم العمل الأدبي لصورة للواقع مغايرة للواقع القائم والموجود فعلا. وكذلك فإن الرقابة الصارمة على الأعمال الأدبية ستؤدي إلى تقييد الكتّاب وإلى تحجيمهم، وربما حتى إسكاتهم عن التعبير عن آرائهم وفكرهم، وهذا ما سيؤدي إلى نكوص في عالم الفكر والإبداع.
وبالرغم من أن حرية التعبير هي واحدة من أهم الحريات في الدول الغربية، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه الدول لا تمارس حظرا على نشر الكتب وتوزيعها. إن معظم الكتب المحظورة من النشر أو التوزيع في هذه الدول تقع في خانة حقول مثل المثلية الجنسية، أو التمييز العنصري، أو حركة السود والملونين. إن المجتمعات التي تلعب فيها الرقابة على المطبوعات دورا صارما لا يمكن أن تعتبر مجتمعات مالكة لزمام حريتها امتلاكا كاملا، بل هي مجتمعات تقرر فيها الحكومة ما يجب أن يقرأه الناس من كتب ومنشورات. وبالتالي فإن الحكومة هي التي تقرر نوعية الأفكار التي يطلع عليها الناس، وهي التي تدير دفة تفكيرهم ووعيهم، وهذا مما يؤثر على قدرة الناس على التفكير الحر والنقدي، دون قيادة ودون إملاءات خارجية.
ورغم أن عصرنا الحالي، وبحكم أنه عصر ثورة المعلومات وعصر تكنلوجيا الاتصالات، ومنصات التواصل الاجتماعي قد شهد تغيرا، وربما انحسارا، أو تقييدا لدور الرقيب في حظر المطبوعات ومصادرتها، إلا أن أسباب الحظر والرقابة لازالت قائمة، وهي الخشية من أن تعلو أصوات المهمشين لتصل إلى حد يمكنها من إحداث تغيير في الوضع القائم. وهذا مما يؤكد على ما للكلمة المكتوبة من أثر بالغ في خلق وعي مغاير للوعي الجمعي السائد، وأن الكلمة أكبر من مجرد كلمة.