ألحانُ السرعة
استدرَك: نقَض تدبيرَه، أحيا نقصانَه، مع انغمارٍ في التفصيل، يَلحق بأسنانِه ما فاته من ذاتِه. لأنّ المعرفة عضلة داخليّة، والإدراك شعوبها، فهي تخصّ الجسم بالتحامها فيه دون تدّعي تمثيلَ هذه الشّعوب. الإدراك لا يَقبَل التّمثيل والتوسّط، ومع تعدّده الشّديد وكثافته؛ يصير منزلةً كاملةً سديدةً من مجموع نقائض تتّسق بدقّة فائقة مع عصمة الدّحض. استدرَك أي انحرَف باتجاهِ الصّحيح، لكنّه انحرافٌ على أيّة حال. ويقتضي الانحرافُ جادّةً، ولكنْ أحياناً يتحرّك من غيرها مُستمسكاً بطلاقته ومُتحرّراً من معناه.
الاستدراك على ذلك ليس مجرّد عودة أو لحُوق، الاستدراك المتحرّر بنَاءٌ جديدٌ خاضعٌ للإحاطة والإطاحة والقفزة. استدرَك يعني بَنى مستعمِلاً الهشيم؛ ولكن هذا ليس مجرّد ركام، إنّه مادة ركضيّة تكاد تطّابَق مع هندستها، مادّة عارفة واصلة من الشّعور الأصليّ وليس من التّجربة. يَقوم هذا الصّرْح على مَيزة الكبَد، كبَد الرّحم، مُطلِقاً عنفوانه في نظرة صاحبه إليه، نظرة المجدّد وليس الآبق. الاستدراك مغامَرة، فهو مشدودٌ بين النّفي والثَبَات، لكن جوهره مع ذلك هو السّلامة والنّجاة في الخطر وليس من الخطر. ليس ثمّة مسافة بين هذه الأشياء، وهي سلسلة واحدة من التحقّقات المتقاطعة المتخاصبة.
الخطر أصْلُ النّجاة، الفزع أصْلُ الأمن، الجسد أصْلُ القبر. لا يترافع شيءٌ عن شيء، يحيط شيءٌ بكثيفِ شيءٍ في لحظةٍ معيّنة. يتحقّق الإشباع، أيْ يبدأ الجوعُ لحظتَه، فيتحرّر المحيطُ من عِلْمه؛ والمحاطُ به من كثافته، ثمّ يتبادلان الأدوار. ولذلك لا يجب تصديق المستغيث؛ فهو آمِنٌ ممّا يستغيث منه، ولا تُصدِّقْ أيّ تطرُّفٍ، خاصةً تطرُّف الجثث، فكلّ ذلك محاوَرات وتنقيب في العصمة. لا تكترث للملهوف، وإيّاك ومساعدته على الهرب، فبذلك تَنفقدُ نطاقات معرفتِه، وتُضاعُ معظم مَعْقوريّته. لكن ليس ثمّة هَدْرٌ أبداً، فحتى ذلك صيرورة، تَلتحِمُ في تدخُلاتك مع صيرورتك أنت أيّها المنقِذ. ربّما يكون ذلك استدراكُكَ أنتَ وليس مَن تُغيث.
المستدرِك غشاءٌ، إنّه ليس أكثر من تعرُّض. مَنبُوضٌ حرٌّ من البوصلة، بل من الاتّجاه نفسه. يَخرج هذا العاري المستعرِي في المغمُوض، مكانُ التّخرّج من الإشباق، حيث يَفتقِرُ هي الرّبّ. المعْقل انزلاقٌ مستمرّ، الخروج تطوّرٌ باتّجاه مادّته الخام، حتى أنّ الخطوةَ تُضطرُّ إلى خلقِ المشْي، ويُضطرُّ المشْيُ إلى خلقِ الإصغاء، والإصغاءُ يَخلقُ اللّحظة التي تَخلقُ الخذلان. كلُّ شيءٍ اسْتَعِرْ، حِدْ، انْجُمْ. الجحيم نقرة واحدة خفيفة على الرِّقّة الصّحيحة. والرِّقّة الصّحيحة ليست موضعاً بطبيعة الحال، بل المغادَرة من كلّ موضع، صدى نداءٍ لم يُطلِقه أحد. باختصار؛ لا توجد رِقّة صحيحة إلا في هيئة مَفروغِها، إشارة محْدِقة بلا مُشَارٍ إليه مَضْمُون.
المستدرِك هالك إلا في مَعمَعة الغشاء، إلا في الخطر. لذلك العاري حُظوة؛ لأنه، وإنْ يكن في أصله جوعٌ، إلا أنّه، وبمجرّد تَوجّهه إلى عُرْيه، يَفقِد تعريفه، يصبح المنزلة بين خطرين؛ لأنه يَقْبَل الخطر بل ويَمتطِيه مع أجنحةٍ أخرى إلى الخطر. هذا هو التعرُّض. مع ذلك، المستدرِك غنيمة ذاته، وخروجه كلّه على مصيريّته ليس أكثر من النّقطة الإحداثيّة العُليا لنبضة واحدة؛ النّبضة حركة ثنائيّة، تحتاج إلى السّكون احتياجَها إلى الحركة. ليس ثمّة نبضة من وصَال واحد، النّبضة وَصْلٌ وقَطْع. يَخرُج المستدرِك في هذه الضدّيّة، وتكون حرَكتُه دائماً ناقصةً إذا استوَتْ على الأمل وَحدَه. أمّا الخروج فكلّه حدوثٌ فتقِيٌّ، ذبذبةٌ في ضَنْك الغشاء تَسمحُ بتنفّس الإمكان، بملامَسة الالتهاب دون تَعلُّم أيّ مناعة ضدّه.
الاستدراك تعويلٌ على قدرة الجهل، المستدرِك عارفٌ استدراكَهُ، لكنّه يَجهَل مكانَ، أيّانَ، كيانَ، صيرورته. المستدرِك خليّة معيّنة؛ مع ذلك، أيّ خليّة، في منقار فرخ الطّائر، خليّة انقلابيّة، تُقرِّر، خليّةٌ جزءٌ من التّنفيذ، جزءٌ من النّقْر، هذه المتعة الغامضة؛ منقارٌ صغيرٌ يتدرّب على الانتحار، يَنقرُ يَنقرُ ما نَظنّه من الخارج جدارَ بيضةٍ، ويُوقِنُه صاحبُه، من حنان تلك العتمة، حدوداً للكون، رُبوبيّة عاصمة، قُبّةَ سماءٍ بُنّـيّة يتماثل فيها الأفق، أفقٌ عضويٌّ مَهْطُول. يَنقرُ الطّائر كَونَهُ، يَنقرُ حَرفيّاً حُدودَهُ، يَنقَضّ على سلامته؛ لأنّه، إن لَم يَخرُج الآنَ، الآنَ، يَهلك في حنانه ذاك.
لكن، لماذا يَخرُج؟، ما الخروج؟، ومن يكون إنْ لم يكن ذلك المغْمُوض في كونه الرّطب؟. النّداء، فقط النّداء، الفرخ الجاهل ذو المستدرَكات مطلوبٌ لصيرورةٍ ما، مطلوبٌ للخَفْق، التّحليق، الأفق المسفوح، كرَم التّدويم. المنظورُ باشقٌ يدحرُ الماضيَ الأرضيّ. مطلوبٌ للطّلاقة، وسلامة ما يَكنزه الجناح، قُدرَته، وَعْيُ الإمكان في تحوّله إلى ضرورة. الحتميّ، الحتميُّ القَارُّ في النّخاع. تنجح الخليّة المعيّنة، كلّ خليّة، في صُنع الصّيرورة.
الجدار الرّقيق، يا لسُمْكِه الأشَدّ، بدأ يتضعضع، الخليّة تُستثار، كُنْ كُنْكُنْ، تُشارِك في النّقر؛ صِرْ صِرْصِرْ، تُشارِك في الهَدْم؛ بُحْ بُحْبُحْ. يتكشّف السّرّ، إذا السّماءُ انشقّت، الأفق يرتخي، تهدّلت النّجوم، سال الكون قطرةً قطرة، خرَج من كونه، في منتصف الكون، السّماءُ المرهَقةُ سماءُ البيضةِ تَركع، ها هو المنقار، على رأسه نار، تلك الخليّة، تلك الكلّ، الحَادِي يُخبِر، حياة حياة، أرى حياةً، حياة. ويَخرُج منقارٌ ورديٌّ في غفلة رَقِيبِي، يَخرُج حرفيّاً، لكنّه يَدخُل حرفيّاً. استدرَك الطّائرُ، استدرَك، عاد إلى أصله، الذي لم يكن هناك بَعْد، عاد إلى الصّفر، البداية التي تُوجَد دائماً في ما بَعْد. هكذا يستدرِك الجنين صيرورته المقبِلَة، مُستقبِلاً كلّ إمكانه في الجهل به. هكذا يَستدرِك المحتضَرُ صيرورتَه المقبِلَة، مودّعاً كلَّ ما كانَه في الجهل به، وَجِلاً من جهله الجديد. الحياة خروج، الخروج دخول، لا يوجد لَحْد. الموت تحقيقٌ لهذه العلاقة، الموت جزءٌ من صيرورة الإدراك والجهل والاستدرَاك.
لكن، أين تذهب كلّ هذه الخبرة؟. ما هو هذا المستودَع المجهول؟. الفِطرَة؟. تُولَد الجثّة وخريطتُها في يَدِها؟. الخبرة لا تذهب، الخبرة لا تعرف التموضع، الخبرة لا تَسمَح بالمكان، الخبرة ليست مَنتُوجاً يُخزّن في اللاوَعي، الخبرة لا تَقبَل الخريطة، الخبرة ليست رصيداً، الخبرة ليست التّجربة؛ الخبرة هي الاستمرار، القُدرة على الاستمرار، الاستمرار الذي من شِدّته يَستنزِفُ كلّ خبرةٍ وكلّ تجربة، الخبرة هي الفَناء في الاستمرار، أن يَنسَى الكائنُ أنّه مستمرّ، يَنسَى الكونُ استمراريّتَه، استمرارٌ مستمرّ، اكتساحٌ للثبات، اكتساحٌ للحدث، تقويضٌ للمعنى، إفقارُ الكنز، قوّةٌ شرهةٌ تأكل المستقبَل وتَلدُه في لحظتها، انهمارٌ في الصّيرورة، تقدّمٌ تقدّمٌتقدّم، نَفْيٌ للاتّجاهات، نفيٌ للتّقدّم، نفيٌ للحدود، اشتراطٌ أعمى، تحقّقٌ أعمى، قبُولٌ كلّيٌّ، نهَمٌ نهَمٌنهَم. ليس ثمّة قدَرٌ، لكنْ كثيرٌ كثيرٌ من المصائر، كثيرٌ من التّعافي، كثيرٌ من الكثرَة. يَسقُط شيءٌ، لكن كيف يَسقُط؟. الأبعادُ انتفتْ. حرَكةٌ كليّةٌ، كلٌّ مَضمُوم، الحرَكة تُحقِّقُ الممكِن، والممكِن يُحقِّقُ الحرَكة، تَعاضُدٌ خارج البُلوغ، خارج الوُصول، خارج الإشباع، خارج الجُوع نفسه، خارج الأخلاق، خارج الرّحمة، وخارج الإيمان.
الاستدراك، في جزءٍ من صيرورته، ردّة، كُفْران، ليس بما نكَصَ عنه المستدرِكُ من غفلةٍ، بل بما استَدرَك من هَوْل. مُنقلِباً على ما رآهُ حقيقتَهُ؛ يفرّ المستدرِك منها، فيستقرّ إلى تَحوّله. لكنّه، إذْ يتوَجّه بقلبه كلّه إلى ما احترَقَهُ كحقيقته، يكفُر بهذه أيضاً. ليس «لأنّه»؛ فالمستدرِك لا يَملك قُدرة «لأنّ»، كما لا يَملك قدرة «ليس». المستدرِك مَملُوكٌ مُنتهِب. بل لأنّ هذه الحقيقة المنوَّرة بالوجد والحرائق تنقلب عليه، تعصف به، تُرْدِيه في رحابتها وتَفتِكُ بعُثوره.
هذه هي ولادة المستدرِك التي لم يَعتنِق. في تضييعه ما يَعرفُ في سبيل ما لا يَعرف. في خسرانه إيمانَه في سبيل كُفرِه. لأنّ حقيقتَه الجديدة لا تنكشف له دفعة واحدة، كما أنّها لا تتوقّف عن التّحوّل والانصِيرَار والتّشتّت، غير عابئةٍ بعُثوره ولا عُثوره عليها. في غفلته الجزلة يَدخل المستدرِك حقلَ حقيقته مُصدّقاً بها، فَرِحاً به، آملاً في الشُّكور، وكريماً بالتّسبيح. لكنْ ما أسرع ما يُغدَر به، فهو سحيق. ما أشهى اطمئنانه رَطبَاً طيّـباً حين يُؤكل في مُلتهَب الصّيرورة. أجمِلْ به من خذلان يَهتف الخَسفَ الخَسف. ما أندَى قرُوحَه وهي تهذي البغتةَ البغتَة. يُؤخَذ هذا التائبُ، ويُضرَب بحديد غشاوته، إلى أن يَرتدّ عن استدراكه ويَكفر به. يُؤتَى به مُصفّداً بخيالات الأمل وسلاسل الفرَح الذي استباحَه دون حَقّ، ويُصلَب في القُدرة. أوّل ما يهرب منه، أوّل من يخون، أوّل من يعوي مستطلِعاً أفقَ العذاب الدّاني، أوّل من يَهلك منه؛ أوصال يأسه. يُفتَك بيأس المستدرِك أوّلاً، ولا يُمَكّن من أمله، فيُحرَم من الرّكون.
ثمّ تُعرَض عليه استغاثاتُه التي سيستغيثها توّاً، تُعرَض عليه توسّلاته وانتحاباته كلّها، ويُبلَّغ بكلّ انهيار وكلّ ضعضعة هو مستقبِلُها، ثمّ يقول له حُرّاسه: انظرْ هباءَك؛ كلّ ذلك لَم يُنجِك. تتنادى هرُوبَاته، تتكاتف لَبِناتُه على الهجر، ويُترَك بلا مصير. يقول له لامَصِيرُه: أنا مثلك، مستدرِك غافل. أنت هالكٌ، وأنا غير جدير. يا جاهليّتي، هل ترَاني أغتني بك أو أزكَى؟، هل تراني أفرَح لتوكيدي بك؟، أنت خُسرَاني، لكنّي بلا مَقتلٍ أُوْتَى منه وبلا جَوهرٍ يُمتحَن. أنا فقري يا فقرك، وما أعرف من عقول حرماني لا تفيدك، معرفتي لازمة، معنيّة في فقري بالتّعيين، ولا تقول لي، فكيف أقول لك؟. ثم يُسقَط به في عُرْي الإماطة، تقول له: ليتكَ أبقيتَ على شيء؛ لكُنّا وَجدنا ثقباً يحميك من تَنفّس الفلك. انظرْ انظرْ؛ هذا السّديم فرائصُك، انظرْ ما كان جَفنيك وصار من العذاب ربّاً فاجراً. تنسلخ منك كلّ عزيمةٍ، ويُخترَق ندمُك فلا يَعُود ملكك. هذا هو التّجريد.
يُجرّد المستدرِك من احتطابه، مخزون روحيّته، لا غَلّة لا غلالة، تُنهَب حواسيّته، يُستباح شغَفه، ولا يُترَك منه شيء. حينها، في سَمْت عدمه، أسيراً مَنسيّاً في الضّراوة، بلا حَوْلٍ يَحُول فيه ولا قوّةٍ تُقِيمُه، يَدخُل إلى فقره الكلّيّ، ويتناظران إلى أن يفنى كلّ منهما في الآخر.
ثُمّ رُبّما. الترجيح طفل. «ثُمّ» جريمة. الزّمن جريمة. «رُبّما» بُهتان. يتحقّق قانون الصّيرورة، بلا وَجَلٍ وبلا عجالة. يأخُذ، بلا أثرٍ من شفقةٍ ولا اهتمامٍ، ذلك الصّفرَ العظيمَ، تلك الكثافةَ المفْرَغة، ذلك الجهلَ الأصليَّ، ذلك الطرُوبَ، مُوْدِعاً فيه كُنْهَ المعرفة الأصليّة، ويَنظرُه. هي نظرةٌ، نظرةٌ واحدةٌ، نظرةُ الكون. نظرةٌ لا يَنظرها العطّاء للمسكين، ولا يُحسنها الخالق في خلقه. نظرةٌ لا تُقْبل ولا تُهدى. نظرة الندّ للندّ. نظرة المستحِقّ للحَقّ. نظرة البغتة للمأخُوذ. نظرة الاتّساع للرّحب. هي نظرة، تُطلق سراح الصّيرورة ولا تملكها. ينتفي العدل، والإحسان يتقوّض. يأخذ المنصرِمُ مَجراه. في حرب المطلَق؛ حيث لا غنائم ولا ضحايا، يستوي الأتون. الصّيرورة أكلٌ. الصّيرورة تَنزيه.
تخطيط: حسين جمعان
الاستدراك، كما أسلَف لامَصِير، موضع الحرمان. في هَرْقِه وُجودَه، تحت عضلة الحقيقة، يَعرِف المستدرِك أنّ المسافة بينه وذاتيّته، أي حرمانه، ضرورته الأصيلة. لأنّ المستدرِك مهصورٌ بين صِفره الأُمّ وإشراقاته الأُمّ، مُحتَدماً فيهما احتدام العمى في البصيرة، يستشعِر عليه الانسلاخَ من عينه، والركضَ في مَدى قَبْل-نظرته حتّى تحصُل تلك النّظرة. لأنّ النّظرةَ تقتضي الوَصْلَ والوَصْلَ الهربَ، وإلّا، فهو التحامٌ في الموصُولِ ينتفِي معه مَطلوبُ النّظرة. ينسَلِخ المستدرِك والداً رحِم إدراكه، ممهِّداً جِذْعَه، واضعاً حرابَه في لامتناوَل، يهيّء صفرَه للعطب.
عندما يَحصُل على مسافته، ويُقِيم أركان حرمانه، يَضرب المستدرِك نظرتَه فيه، ويَسمح بالرّيح والزّلازل، كما يَسمح بالغفلة، اللّمَسان، التّذلّل والإسلام. هكذا يغترب عن سلامته كي ينالها. زاهداً لا أحرص منه، كلّما أوغل في صيرورته الجديدة شسعت طويّته وابتعد عن حرم ذاته. المستدرِك فَطِيم. هذا الفِصَال من أصل النّموّ، ففي المسافة بين حقيقته وذاته ينضَح المستدرِك مَواعينَه، وينشغل بالموران وبالأبنية. وفي شُغله ذاك لا يَبرَح حرمانَه قيْد أنمُلَة، بل يتأبّنه من داخله تأبُّن الجنين صوت أمّه. ويتحرّك في حرمانه بالحَقّ، حقّانيّة النّطفة في مراعي الرّحِم، حيث يَرعَاه، ويُغذّيه بالأسرار، ويَمنحه الفزع اللازم. يَسري المستدرِك في ذاته، ينشغل فيها، يتحجّج بعلومها، ويقترع ضلالاتها. لكنْ، متى اشتدّت عليه شهادته، واستحكمت حكمته، فزِعَ إلى مسافته تلك، فزِعَ إلى حرمانه الأمّ، طالباً الغَمْر.
الحرمان هو الحَجّ، هو الحجيج، وكعبة النّظر. ليس ثمّة نارٌ ولا جنّةٌ أكمَلُ من نيرانه وجنانه. يَعتوِر الحرمانُ الشّيءَ، يصهره، ويَخرُج به كنزاً لقشوره، ولُبّه مسالك في المدّخَر. ويغادر الحرمان الكيان، الكيان الرّاضي بنظرته السّاكنة، مُهرولاً من شُبهة الأمن؛ طاعون طاعون، يفرّ من نعمة المطمئنّ. أنْ تُحرَم من الشّيء، أن تحُوزَه إلى الأبد؛ يُغذّي الحرمانُ الحاجةَ، ويَضمَن، متى أهَلّت، قياماتِها وصُورَها الجديدة. لأنّ الحرمان أخذها من الضّروريّ إلى مجمرة الضّرورة، مُسبغاً عليها مَصيرَها وكلّ ما تفلّتَت منه في عدم التّلبيَة. تتحوّل الحاجة من مَطلوبٍ إلى مُطالِب، تترقرق في الإلحاح، وتأخذ، من التّهافت، بقوّة الوَجد، أضعافَ ما ضنّت به في قوّة المنع.
يَظنّ المستدرِك، بعثوره على لُقيَته، أنّه كان أضاعها، وأنّ عثورَه أبدَلَ فقرَه غِنىً. والحَاصِلْ أنّ المستدرِك لمْ يَفقِد من كنزه التَّكْتَح، ولم يغادر ضُلوعَه في تَربيَـتِه والانهمارِ فيه. لكنّه يُؤخَذ بعِزّة التّربية حتى يَصيرَ موضوعَها. يَشتغِل الكنز على طويّة صاحبه، يَجترحُ فيها، يُغِيرُ عليها، ويتناوبها مع الكَلَل والإنهاك، ممتحِناً اليقينَ في عزّته والكليمَ في كلمته. في تلك التربية يتغيّر المكنوز، ويتغيّر الكنّاز، وينصرف كلٌّ إلى جَنّتِه؛ فُجورِه في عين صاحبه. في هذه المفارَقة المنهمرة، تُشحَذ الحواسّ، تشتعل الرّئة بالعلوم، يتقطّر الأصيل في أصالته، ويُجاهد ما دون ذلك في خلق ما يجعله أصيلاً. في هذه المتّفق عليها، هذه الغيمة الظنّـيّة، هذه النّكايَةً في العدل وفي الصّحيح، يتعاظم الفجور في المغالبة، يستوحش ما دام من الوحش، يَنأى، يتفرّط، يَنفَرط، يلتهب، ويلتاع. لكنْ كلّ تلك معاوَنة. كلّ ذلك شُمول. يَدخُل في الكنز تَجدّده من ذات القنّاص، يَدخُل في الكنّاز تهيُّـبُه من ذات المقتل.
لا يستجيب الكنز إلا لصرخة اليائس فيه، لا يهتمّ ولا يلتفت إلا لإدماع كُفرِه، لا يتوافد الكنز على كانزه إلا وهذيانه في يده من شدّة البرَاح، وجدتُنِي وجدتُنِي. عندها يَستَرِدّ ما أغدقه كلّ منهما على الآخر، خلقاً جديداً، مُنمنَمات السّحيق، تَقول تَقول، كلماتٌ تُولوِل، العُمران والمنسَأة والقنوط، المكتحِل والمحروم، الدّولة والإدالة، العُثور والمعْثُور. في غمرة الاستدراك يلتفتان إلى جثّة الطّوية، أرض المعركة؛ أضابير لحميّة، المكتسِحَاتالمؤرشَفة، مكاتَبات شؤون الأسَر، الحدقة المنهوبة، المنكب أرتالاً أرتالاً، النّكوص والمَنّ والأذى، مخلوقات الويل الصَّديق، الحدقة المنهوبة، الحدقة.
المستدرِك تخليده حُزنيّته. مع تقلّبه في الأحوال والآجال، يحتفظ في قطعةٍ من سَحيقه بحزنه الأوّل. حتّى في تَغنّيه الأمَلَ لا يقنط ضحى مسرّاته الحُزنيّة، عارفاً الأمَلَ هو التّغنّي به، دُوْبَاي فاقع يَستلذّ. المستدرِك في تَعْليَةٍ مستمرّةٍ، فهو حزين، يتناوش كلمته ويَخونُها، في مُكوسِه تلك، التي يستجلِبُها من ذاته ويهرقها فيها، يدفع بالتناقض؛ مُنتحِلاً أصالته ومُتأصّلاً في النّحْل. مُتأصّلاً بحيث لا ينطوي إلا على الطّارئ والمنتهَك المسرور. إنّه ينمو، ينمو قبل الفراغ الذي يحويه، وفي ذلك يَدحض نُموّه ليسمح بذلك الفراغ؛ المستدرِك شهوة باقية للمَحو. إنّه فراغه، وفي مَحوه ذاته يتنفّس المواضيع التي تتناثر منه. كَمْ جديدة!، كَمْ نشارة الخفّة، كَمْ فقاقيع الحكمة التي جِلدَتُه الآن، فقاقيع ولا أجمل. يسبح المتشظّي في شظيّته، يتجدّد في التفاصيل، يتهارَب في تخَمُّجَات نجميّة، من جسده يَستولِد العفن الذي مُدّعيَاً النبوّة يَدخُل في نيرﭬَـانا التّرياق، ويتسمّم فيه.
هذه أعضاء هرَبت، كيف اللّحاق بها، كيف يَعثر عليها، كيف يُخضعها، لكنّ الأعضاء التحاقكَ الهرَب. تاركاً فراغك المقِيم، مُشتَعلاً في فراغٍ آخَر. أيّ مُنقلَبٍ يَنقلِبون، لا يُهِمّ، لا يَنسَى المستدرِك هوامشه، السّهوب يتشارَح فيها وذاته، ويُناقِض فيها بجِلده ما يَكتبه بجِلده. الهوامش مخادِعة، مثل كلّ سلحفاة تَحمل زنزانة عظمِيّة على ظهر لَحمها الحُرّ. الهوامش تبريح، لأنّها الفَتْك. يقف الهامش مُتخفّياً مثل ثور أهوج في كلمة، حرف، هلال، مَهيض، منبع. حين يتقاعس المتن، غفلةً مقصودةً، يتهرّج الهامش ويتمرّج. يا للفضيحة!، المستدرِك كامل!، مريض يتداوى من الصّحّة، صحيح يتهدّل في المغَص. المستدرِك مُتفرّعٌ، مَفروعٌ، مُفرعٌ بالفروع، مُتولّدٌ فيها، تعريشة من العضلات المكشوفة، تعريشة من العصمة. البَلُوم في فَرْعُو غَنّى، الأزل مغشيّاً عليه.
ها هي كلمةٌ للتّوّ. كلمة سحريّة لا تدلّ. فارغة. كلمةٌ للدّحض، بلا مُسمّى، بلا مفتاح، بلا صوت. كلمةٌ عاتق. لا تَمنح ذاتَها، غَفْلَـذَاتٍ، بل تَرشح في فقرها، وتَفيض فيها. إنّها اللّغة، إنّها اللّحن، هي الحنجرة، بل رئة الحنجرة. كلمةٌ لخيانة الكلام، فيها يتبدّد. تَماثلَت في استدراك الحُزن، واستأذنت هَدمَها، أي نَعَم خليل إسماعين، أي نعم المسموم المطير في ﭬـيتنام صوته. بعض الأغاني استعذاب، بعضها عذاب، لكن أبقَاها الهادمة. النّاقضة الغازلة النّاقضة الهادمة. يَشرَع أبوقطاطي في البُنيَان، ناجي والبنّاؤون يَعرفون تلك الاختلاجة.
طينة الأماني العَذبة تحت تهدّجاتالعَوِيش، يُناشدها ربّها، يُناشدها شاعرها، يُناشدها الطُّلَب الأفنان، يُناشدها الخَليل في جَلَدِ العارفِ تضييعَها. الأماني العَذبة، العزيزة، العَزباء، العاوية. خارج القُدرة. وكيف يَنالها وهي مَنزلة من مَنازل حرمانه إيّاها. إنّه الاستدراك، استدراك الطّفل. الأماني العَذبة تتراقص حِيَالي، يا صوتَك يَخُون، يا يَكفر بالوعد. صوتك، مغدوراً، مُنقّىً بالهَول، يتغنّي السّعادةَ، ليفتكَ بها: هي النّفْس ما حمّلْتَها تتحمّل. يتورّط الطُّلْبَة في مَعمعة التعويل، بُكْرَة يا قلبي، لعلّ الحياة لعلّها، يتذوّق بحيلته النازعة للنقاء شهقةَ العَدل. لكنْ، آهٍ يا خليلي، ما أسرَعَ ما تَستدرِك. يَستدرِك يَستدرِك، بصوته المحض، يتغرّس في الألم.
ينفجر خليل الحُزن، يحرث قلْبيّته، كلّ ذلك يقع فيما يُخيّل للسّامع أنّ شاتلاً للحبور يَسعى. الأماني العَذبة، يا سلام غُنْيَة ظريفة. ألمْ ترَ كيف فعَل ربّك يَستدرِك طينتَه المسقيّة بالعذاب، ثم يَكفر يَكفر بالأمل: الأمانيْ العَذبةْ تِتْـرَاقصْ؛ لا أصدّقها لا أصدّقها، يقول صوتك. حِيَالِي حِيَالِيحِيَالِي، هذه هي الكلمة ابن آوى، هذه هي مَسْطَرِين البرق، الهامش اللّعين، حِيَالِي أي المسافة، حِيَالِي أو أشدّ قسوة، حِيَالِي أي مَسرَى أملي، والأمل لا يَحوز لا يَتّصل. حِيَالِي أي حرماني.
الأمانيْ العَذبةْ تِتْـرَاقصْ حرماني. حُلمِي بُكْرَة، ليس ثمّة بُكْرَة، يقول صوتك. بُكرَة تِتْحَقّقْ أمَاني، والفُؤَادْ يِرْتاحْ ويِتبَسَّمْ زَمَاني!، على منُو يا خِلَّة؟، يا العارف الصّبّ، يا الأمل المقروح، يا مُضاعاً في العريض المحض. والسّعاااااااااااااااااادة. السّعااااااااااااادة، تهطل مثل صرخة، مثل مَقتل، داميةً دامية. هل ثمّة فَتْك، أشدّ من خليلي، بجَالُوصِ أمانيه؟. هل ثمّة نقْضٌ أندى لبنْيَة الغيبوبة؟. هل ثمّة رَدْعٌ أشدّ من السّعاااااااااااااااااااادة. التهامٌ صِرْفٌ. لا حيلولة لا تصريف. الأماني انزلاقٌ في تخمة الحرمان، تَزلّفٌ للأرق، إرواء غبطة اليأس، استدعاءٌ مباشرٌمباشرٌ للعدم، استدراكٌ للضّرورة، لُزُومُ اللازم، صليبٌ منصوبٌ لمناصَفة الأمل. استدراكٌ عنفوانيٌّ. خليل إسماعين في الدّرَك الأعلى، في جنّة الحرمان، مع ذلك يَجوز.
المستدرِك أمّيٌّ، على كَفاف الإشارة، غير مَعنيّ بالإفصاح. في هذه الحُريّة يَقتنص اللّغة اقتناصَهُ الهوامّ، والأعضاءُ تتناهَد في يد قُدرته، يتصفّحها في غرَابةٍ لا يُقايضها إلا نسيانه إيّاها. كلّ مفرَدة طائر، طائرٌ منفردٌ، كلّ طائرٍ مفردة، مفردة تطير. في تحديقه الأمّيّ لا يرى السّربَ، بل حركةَ السّرب، ولكنْ إذْ يحدّقُ يَفقِدُ السّربَ والحركةَ ويرى الجناح، الجناح فقط. الجناح الذي جزءٌ من الفضاء، الجناح الذي يطوي وينطوي، الجناح الذي يَحجب الطّائر، يَحجب الطيران، يَحجب الفضاء، ويتناسل في النّبض، داخلاً عين المستدرِك، عين المجاعة، عين الإعصار، بئرٌ تتوالد في بئريّتِها وتتّسع في جوعها. بئرٌ مسطّحة، على امتداد اللّغة، تَستَزرِع السّرعةَ التي لا تَنبُت في المسافة والزّمن، بل في التّنوّع، الانحرافات، الطّوارئ، المنمنَمات، التخريج، الصُّدْفة، التّردّدات، التّردُد، الأمراض، البراكيِن، الانتحارات المثقوبة، الفُلول، وكلّ إزاحةٍ، ضِدٍّ، واقتلاع. على ذلك تندرج السّرعة في النّسيان؛ لأنّ السّرعة سرطان الثابت، والنّسيان فجواته التي تهبّ منها سرعته.
النّسيان بئرٌ حسّاسةٌ للحسّ، أبجديّةٌ مُعقدّةٌ من حَرْفٍ مُمتدٍّ هو نظرة اللامنظور إلى عالمِ عينِ المستدرِك. النّسيان ذكاءٌ يتحقّق فيه المغْفَل في الإغفال، سُقيَا تتحفّظ على شعوب المستدرَكات. النّسيانُ قنطرَةُ الشأنِ يَعبرُها بين فجوره في نظرة المستدرِك وفجوره في غفلته. هو صِفرٌ تهبّ من كنوزه ألحانُ السّرعة. النّسيان لحظةٌ من لحظات السّرعة، لحظةٌ أحفوريّة. أيّ عين المستدرِك، عين المجاعة، عين الإعصار، بئرُ: ها أقبَل جناحٌ دون طائره، ها تدويمٌ يحتجّ بلا جناحه، هو الفضاء مُبقَّعٌ بحمار الوحش، هو السّرب خارج حركته، انفطام النّظرة من المنظور ومن النّظر، كلُّ شأنٍ شأنُه، تلبيةٌ في المحض، نقاءٌ في الشّظف، عضلةٌ حُرّةٌ من الإعمال؛ يَصرخ المستدرِك لقيَته، لكنّ صراخَه انْبَتَّ، الصّرخة هاجرت من الصّوت. الصّرخة نشءٌ جديدٌ مُحتدم. الصّرخة دَمٌ تَسرِي في حَلماته صخرة البهاء الجاهل أَنْ حانَت البئرُ، حانَ فُرَاقْ الطِّرِيْفِي، حانَت اللّغةُ القديمةُ، حانَت الخيانةُ الجديدةُ، حانَت فؤوسُ الخيالِ، حانَت شجرةُ الفأسِ، حانَ ترميمُ المطلَقِ، حانَ المترمِّـمون.
الكون الذي يتحرّك فيه المستدرِك هو كلمة واحدة في لغاتِه المنسيّة. كلمةٌ استعادَها حين قفز في الظلام وما كان قَطُّ آملاً فيها، لكنّها التحَمت فيه وصارت كيانَهُ القافز. ذلك الالتحام ليس هديّة، إنّه انتحارُ الكلمة، التحاقها بانتحارات المستدرِك، قفزتها فيه لتَصيرَ كلَّ ما ليس كلِمتَها. تَمنح الكلمةُ ذاتَها لصيرورة برّيّة، وتتحرّك فقط في مجالاتٍ تَسمح بتخصيبها. ها هي كلمةٌ تنادي صيرورتها، ها هو غشاءٌ يُغوِي بنَصْله، ثمّ يأكله. لكلّ حيٍّ كلمةٌ تخصّه، تتوالد حوله وتطنّ في غيبوباته.
كلمةٌ قديمةٌ، مُهترئةٌ، جاثمةٌ في المواصلات حتى أنّ الكلّ يعرفها، يتناوشها، ويتندّر بها. لكنّها نَقْشٌ لا يفضّه إلا تشرّدُ مأهولِه وانهياراتُه. لذلك هي ليست كلمة، وهي بالأخصّ ليست قديمة، بقدر ما هي عنصرٌ منظورٌ في عمى الكيمياء، أو طعنةٌ تَنسَخ ذبذباتها في حرير الدّم إلى أن يَحدث الحَريرُ في الدّم. تلك هي القفزة التي تَلِد لغتها، أو تستدرِك نقشها، التّخاطب الفعّال بين انتحارين متعاكسين، لغة الشّخص المستعادة من مستعمرات التّواصل، صوت الغشاء، الصّوت المرِح الخارج من أنقاض السّوائل، الصّوت المكتوم الذي لا يُدرَك إلا كرائحة، انبعاثٌ فِينيقٌ مكانُهُ رعشةٌ متناهيةٌ شرهةٌ متناهيةٌ حرَكةٌ متناهيةٌ في عضلة الذّاكرة.