أنا والذاكرة والتاريـخ
في مُعظم الأحيان يرسمُ الوالدان المسار المهني لأبنائهم، سواءً من خلال التوجيه المُباشر، أو من خلال استبطان الأبناء للمسار المهني للوالدين، فكم من طبيبٍ أصبح أبناؤهُ أطباء وكم من مُحام أصبح أبناؤهُ محامون… أما أنا ورغم أنهُ كان مُقدرًا لي على الأرجح وكمعظم أقاربي أن أسير على درب والدي الفلاح في حرث الأرض خريفًا، وريّ الأشجار صيفًا، ثم قطف ثمار البرتقال في حقلنا الصغير خلال فصلي الشتاء والربيع، فإن حكايةً بسيطة روتها لي أُمي جعلت مسار حياتي يتغير.
خلال فصل الصيف كانت والدتي تحملُنا أنا وإخوتي ومعنا خالاتي وأبنائهم من مدينتنا الصغيرة بني خلاد، الواقعة شمال شرقي تونس إلى مدينة سليمان، التي تبعد حوالي اثني عشر كيلومتر عن منزلنا، للتمتع بشاطئها الجميل وبحرها الدافئ.
كانت هذه الرحلة تتكرر تقريبًا كُل أسبوع أو أسبوعين على امتداد فصل الصيف، رحلة وعلى الرغم من محدوديتها في الفضاء الجغرافي، فقد كانت بالنسبة إليّ أنا الذي لم يتجاوز سنّ الثماني سنوات في عظمة رحلات السندباد أو ابن بطوطة، فعالمي كان ينتهي عند حدود حقلنا الصغير الهادئ جدًا، وفي أقسى الحالات عند حدود مدينتي، القريبة في تخطيطها إلى قرية كبيرة أكثر منهُ إلى مدينة.
يبدأُ الاستعداد لرحلة الاصطياف هذه في العادة قبل يوم، أي يوم السبت، بإعداد أمي وخالاتي لأنواع الأكل والحلويات المختلفة. أما نحن الأطفال فكنا نستعد لهذه الرحلة بمراقبة حالة الطقس منذ يوم الجمعة، وكانت حالتنا المعنوية تتأرجح حسب العوامل الجوية، فالطقس الجيد يعني أن الرحلة مُؤكدة، أما هبوب الريح وتلبُد السماء بالغيوم فيُنبئ بأن الكبار سيتخذون قرارًا بتأجيل الرحلة إلى الأسبوع المقبل، حيث كان هذا القرار يُخلّفُ خيبةً كبيرة في نفوسنا، خيبة ربما أستطيع الشعور بها حتى اليوم.
كانت الحافلة المكتظة تنطلق في معظم الأحيان متأخرةً عن موعدها المُحدد من محطة الحافلات ببني خلاد، وكانت على الرغم من اكتظاظها تتوقف كل مرة لتُقل المزيد من المُصطافين. على الرغم من حالة الاكتظاظ الشديد، فقد كانت والدتي تجد الوقت والفضاء لتتجاذب أطراف الحديث مع واحدة من معارفها الكثيرات، فتقريبًا مُعظم سكان مدينتي يعرفون بعضهم البعض وتربطهم قرابة عائلية بطريقةً أو بأخرى. كان أكثر شيءٍ يُنغّص عليّ هذه الرحلة أوامر والدتي المُتكررة والحازمة بأن أُسلّم على صديقاتها ومعارفها، الذين كانوا لا يتوانون عن حضني بشدة وإمطاري بالقبل، وكانت بعضهن يكدن يلتهمن وجنتيّ الحمراوين.
ينتهي الجزء الأول من الرحلة بالوصول إلى وسط مدينة سليمان، حيث كان علينا أن نسير بعد ذلك عبر أزقتها القديمة حتى نصل إلى محطة حافلات أخرى، لتحملنا حافلة تعود ربما إلى سبعينات القرن العشرين إلى الشاطئ الذي يبعد عن المدينة حوالي أربع كيلومترات.
كان عبور أزقة مدينة سليمان القديمة الجُزء الأكثر متعة وإخافةً في نفس الوقت، فمِن جهة كنتُ مُعجبًا بالبيوت المُتلاصقة، الأبواب المزوقة، وجامع المدينة المُميز ذي السقف المُغطى بالقرميد والصومعة المُربعة؛ ومن جهة ثانية كنت أخافُ أن أتخلف عن الركب، فأضيع في هذه المتاهة من الأحياء والأزقة المُتداخلة.
لا أعلم إلى حدّ اليوم الدافع الذي جعل والدتي في أحد المرات ونحن نعبر أزقة سليمان تُخبرني عن الأندلسيين الذين طردوا من أسبانيا فجاؤوا إلى تونس، حيثُ أسسوا العديد من المدن التي من بينها مدينة سليمان، وكانت لهم عادات وأطعمة خاصة، تُتقنُ إعدادها خالتي التي كانت تقيم بالمدينة، ومازالت تُعد بعضها إلى اليوم كحلويات «الشبابك» أو كما تُسميها «الفرشك».
زادت هذه الحكاية دهشتي وإعجابي بالمدينة، فكنتُ أتخيل كُل مرة أزور فيها سليمان أوائل القادمين يبنون ويشيدون المنازل، كما كُنت أتصور الحالة النفسية الصعبة لهؤلاء المُهجرين، والتي تذكّر بها اليوم حالة اللاجئين السوريين أو الفلسطينيين وغيرهم ممن قادتهم ظروف بلدانهم الصعبة إلى مُغادرة أوطانهم.
رغبتي الطفولية في معرفة المزيد من التفاصيل التي غابت عن رواية والدتي خصوصًا، وعن حكايات الغابرين عمومًا، هي التي جعلتني أختار مواصلة دراستي الجامعية في قسم التاريخ، كما قادتني إلى إنجاز رسالة ختم دروس الأستاذية حول موضوع الموريسكيين وأن يكون نفس الموضوع أحد أهم المحاور الأساسية في أطروحة الدكتوراه التي ناقشتها سنة 2014.
اليوم وعلى الرغم من كل النصوص المصدرية والدراسات الأكاديمية التي تناولتُها بالبحث والدرس، فإن رواية والدتي مازالت تحظى عندي بالأولوية العاطفية، فصناعة التاريخ لا تنطلق فقط من الوثائق والبقايا الأثرية، بل كذلك من الذاكرة الجماعية والفردية.