أنثربولوجيا المكان وتغريب الهُويّة
إذا كانت الرواية الأميركية تقف في المقدمة كمّاً ونوعاً، فيما يتعلق بمعالجة قضايا السود والعنصرية، فإنه يمكن القول إن الرواية العربية الحديثة تحاول أن تثبت حضورها في مواكبة المنتج الثقافي والسياسي المتعلق بهذا القضايا، وكشف المسكوت عنه من تغريب هوية الزنوجة وقتلها.
كشفت دراسة أميركية حديثة، أن برنامج “عقم بالإكراه” أجري في ولاية “كارولينا الشمالية” في الولايات المتحدة بين عامي 1929 و1974، استهدف بشكل واضح تحديد نسل الأميركيين السود. وأضافت الدراسة، التي نشرت في مجلة “American Review Of Political Economy” أن القيام بهذه الإجراءات بذريعة تحسين النسل ينطبق عليه تعريف الإبادة الجماعية. فقد خضع الآلاف من الرجال والنساء وحتى الأطفال، إلى عمليات جراحية لتحديد النسل، في إطار منع الأشخاص “الضعفاء عقلياً” من الإنجاب؛ ليُحرم السود من أبسط حقوقهم في الحياة، وينكشف بذلك رسوخ أيديولوجيات الإبادة، وتأصّل الفكر العنصري وعمقه وتراكمه منذ قرون خلت، بدءاً من التطهير العرقي للسكان الأصليين في أميركا، واستجلاب الأفارقة في أكبر حركة استرقاق في التاريخ، ومن ثم عزلهم في أحياء خاصة بهم، والتفنن في إزهاق أرواحهم على مرّ الزمن. وقد عبّر الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر عن تجذر العنصرية في أميركا بقوله “إن في الولايات المتحدة خزاناً من العنصرية المتأصلة”.
بصورة عامة، يبدو أن مسلسل التطهير والتغريب والفصل المكاني العرقي سيبقى متواصلاً بحلقاته الصادمة، ما لم تسنّ القوانين التي تضع حداً لأشكال العنصرية. وقد انعكست أصداء هذه الممارسات في الروايات التي تشتغل على ثيمة العبودية والسواد، وتواصل الإضاءة على مجازر التطهير العرقي، وقهر الهوية الأفريقية في الصراع الأنثربولوجي الذي يؤثر في رسم خريطة المكان، في عالم يرى الأشياء بلونين فقط هما الأبيض والأسود. وإذا كانت الرواية الأميركية تقف في المقدمة كمّاً ونوعاً، فيما يتعلق بمعالجة قضايا السود والعنصرية، فإنه يمكن القول إن الرواية العربية الحديثة تحاول أن تثبت حضورها في مواكبة المنتج الثقافي والسياسي المتعلق بهذا القضايا، وكشف المسكوت عنه من تغريب هوية الزنوجة وقتلها.
نقف بداية عند رواية “زرايب العبيد” للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان (2016)؛ إذ تحفر الكاتبة في أعماق التاريخ الليبي، عائدة بنا إلى زمن ما قبل الاحتلال الإيطالي؛ لتميط اللثام عن تلك الحقبة، وتقف عند نهاية تاريخ الاسترقاق في ليبيا مع طرد العثمانيين منها على يد المستعمر الإيطالي.
بدءاً من العنوان، وهو عتبة الرواية ومنطلق القارئ، يجد القارئ نفسه أمام جرس يُقرع مثيراً التساؤلات، هازّاً الضمائر. فالوقوف على كلمة “زرايب” ومفردها زريبة، تحيل على “موضع الغنم، وحظيرة الغنم من خشب”. فكلمة زرايب إذن تطلق على الحظائر التي تخصص على طرف البيت؛ لإيواء الأغنام وغيرها من الحيوانات الأليفة؛ وبالتالي فهي مليئة بالقاذورات، وتفتقر إلى أدنى مقومات المسكن البشري. وهذا الأمر دلالة فجّة على معاملة العبيد السود معاملة البهائم، لا البشر.
لا يمكن للقارئ أن يتخيل هذا المكان الذي يقترن اسمياً بالعبيد ويؤويهم بوصفهم أشباه بشر، إلا من زاوية تبئير عرقية، بكل ما في الأمر من استفزاز إنساني. فالقضية المطروحة أنثربولوجية ترتسم معالمها بوضوح منذ صفحة الغلاف؛ لتضع الإنسانية على المحك، وتنذر القارئ منذ البداية، بما ينتظره من عبيد محشورين في حظائر معدة للبهائم، تخيره بين الانصراف أو المحاولة.
هكذا بكل بساطة وشفافية وقصدية، ومن دون خداع أو مخاتلة، يؤدي العنوان وظيفةً كاشفةً الفضاء المكاني لرواية “زرايب العبيد”. كمن ينظر من ثقب في جدار ويرى ما وراءه، قام العنوان بهذا الدور البصري، وأتاح للقارئ الكشف عن الأرضية المكانية التي يتضح أنها تشغل المساحة الأبرز في أبعاد الرواية. فالسرد في رواية “زرايب العبيد” يظهر المكان بوصفه فضاءً أو حيّزاً للتمييز بين العبيد والأحرار في مجتمع يفرض قواعده وتشكيلاته العنصرية، ويتقلب فيه عبيد الزرائب بين نيران البيض ومعاملتهم الوحشية، وأهوال الطبيعة وتقلباتها الشرسة التي تهدد باستمرار هشاشة الزرائب “الريح حارة أو باردة، عدو آخر للفقراء هنا؛ لذا عندما يستشعرون الخطر يحزمون ملابسهم وما يستطيعون حمله في صرر ويستعدون للرحيل أو لسكون العاصفة” (ص 86).
تسهم تمثيلات المكان في رسم الهوية السردية في رواية “زرايب العبيد” من خلال الاشتغال على الإطار الأنثربولوجي، فتجلو لنا ملامح الآخر الأسود في علاقته بالمكان، ووضعيته الهامشية في زرائب العبيد جائعاً معدماً منسياً مقصياً ممرغاً في الآفات والقاذورات تحت رحمة الأسياد وقوى الطبيعة في آن معاً. في مقابل وضعية أولئك الأسياد في المدينة، وهم متحصنون في منازلهم الفاخرة، ومنغمسون في أهوائهم وملذاتهم، في مفارقة يبرزها السرد بصورة لافتة من خلال ازدحام الثنائيات الضدية المكانية؛ إذ تسرّ الساردة الممثَّلة عتيقة لنفسها، مستشعرة المسافة الكبيرة التي رسمها القدر بين قوم البيض وقومها السود “لم يع عقلي سوى أن الأحرار هم ذوو البشرة البيضاء؛ أناس ليسوا مثلنا في كل شيء، لا يشبهوننا حتى وهم يشبهوننا. إنني لا أحقد على تميزهم عنا في اللون والمأكل والملبس والمسكن والرزق وكل حظوظ الحياة، بل إن إعجابي بنظافة ثيابهم ودورهم وصدقاتهم التي يمنحوننا إياها يجعلني أفرغ نفسي للإعجاب والامتثال بهم” (ص 47).
تتكشف المعرفة الأنثربولوجية التاريخية، وتتجلّى عبر التذكر والتخيل، من خلال تقنية الاسترجاع، بوصفها وسيلة الحركة والتنقل الزمني الرئيسة في رواية “زرايب العبيد”. فبالوقوف على الطريقة البشعة التي تموت بها البطلة “صبرية”، وهي حرق الزرائب بقرارٍ من السلطات الإيطالية لمنع تفشي الطاعون، تتكرس مأساة العبيد الوجودية؛ إذ يقف السرد في مشهد مبأّرٍ من خلال عيني الساردة الممثَّلة عتيقة، عند مأساة حريق زرائب العبيد في مشهد تعيش فيه الشخصية لحظات تبدو سنوات طويلة، وتجول في دخيلتها ذكريات أمها، وحياتها الشقية “كان آخر ما رأيت من مأساة الزرايب دخاناً أسود كثيفاً حجب الأرض والسماء، رائحة كريهة لأجساد بشرية وحيوانية شويت حية، روح أمي تختنق من سواد خلقت وإليه تعود، هي ومن احتجزتهم النيران هناك، كانوا أحياء عندما رشت السلطات البنزين والكاز على الأكواخ، وأشعلتها بمن فيها” (ص 169.(
يشير المقطع السردي السابق إلى تعاقب أزمنة العبودية، ويختزلها. فهو يحمل تلميح الكاتبة نجوى بن شتوان إلى أن طرد الاحتلال العثماني ومجيء الاحتلال الإيطالي لم ينه زمن العبودية؛ لأن انعدام قيمة السود بوصفهم بشراً ما يزال حاضراً بقوة؛ فالمستعمر الإيطالي الفاشي لم يتوان عن حرقهم جميعاً لغاية التطهير البيئي، في خطوة حملت ملامح التطهير العرقي. وكأن آليات التغريب الأنثربولوجي المكاني لا تكفي لقتل أرواح السود المهمشين، فجاء الفعل التطهيري الساحق ليخط السطر الأخير في حياة عبيد الزرائب. والتاريخ هنا يقف كتفاً إلى كتف مع الجغرافيا المكانية، ويشكل نقطة الارتكاز في السرد، فالشخصية تعبّر عن وعيها الأنثربولوجي، وعن الرؤية التاريخية في فكر الكاتبة نجوى بن شتوان وتصورها، وتؤسس لمتن الهامش الذي ينهض به الآخر الأسود بصورته الجمعية.
وفي رواية “لأني أسود” للكاتبة الكويتية سعداء الدعاس (2010)، يرصد السرد الدلالة الأنثربولوجية للمكان بدءاً من مركز انطلاق أحداث الرواية في ولاية شيكاغو الأميركية، بوصفها أنموذجاً عن عنصرية الولايات المتحدة الأميركية تجاه السود. فالبطلة الأميركية “جوان” تعاني من مفرزات الاختلاف اللوني، بمواجهتها آليات الإقصاء المكاني من أحياء البيض، وينتهي الأمر بلفظها خارج الحي، “بعد أسبوع واحد بحجج مزيفة مدفوعة بحقيقة عجز الحي عن قبول شوائب ملونة” (ص 30)، ودفعها إثر ذلك للعيش في أحياء لا تليق بإنسانيتها. فالرواية تظهر الأثر الكبير للمكان في الشخصية، وضلوعه في تأزمها، ويتبدى ذلك بوضوح من خلال عدسة الراوي العليم التي تكشف دخيلة البطلة “ما إن تتخطى الشارع الذي يفصل حي السود عن الطريق الرئيس، حتى تبدأ بفقدان ثقتها بنفسها؛ لتعيش أحلامها الخاصة بالبحث عن فارس يمنحها الحب والهجين معاً” (ص30، 31). وفي مقطع آخر، نجد وصفاً مختزلاً للحي الذي تسكن فيه البطلة، لكنه يفي بالإيضاح “ما إن ألج الزقاق المؤدي إلى منزلنا وأُحشر بين البيوت الصدئة حتى أشعر بأني أختنق، وأبدأ بالبحث عن منفذ أختلس منه أنفاسي المسلوبة.. أتساءل دائماً: لمَ لا تسكن زميلاتي الشقراوات في أحياء كأحيائنا؟” (ص65).
فهذا الحيّ أشبه بالسّجن، والسّرد يشير إلى إحساس البطلة بالضيق والسأم؛ فهي تعيش خارج نطاق الحياة. ولا يطّلع القارئ على تفصيلات مكانية أخرى؛ إذ يبرُز المكان في السرد بوصفه إطاراً عاماً، أو ديكوراً تعيش فيه البطلة معاناتها النفسية، ويحمل ما يحمله من دلالات عرقية. فالسرد يربط بوضوح بين لون البشرة ووضاعة المكان، ومرجعيته العرقية في المجتمع الأميركي، بإبرازه صدمة البطلة بحجم الاختلاف بين عالمي البيض والسود، ويلوّح إلى سياسات المجتمعات الرأسمالية التي تسيء إلى الإنسان وتجرده من إنسانيته، وتغرس فيه شعور الاغتراب، والإحساس بالتهميش، بالوقوف على قضية فصل السود مكانياً في الجانب الجنوبي من “حي شيكاغو” المسمى بـ”الحزام الأسود”، وما يحمله من تقسيم أنثربولوجي للخريطة الديموغرافية في الولايات الأميركية، وما لذلك كله من أثر في هوية الأفريقي الأسود.
فالفصل المكاني بصبغته العنصرية يحمل تداعيات اجتماعية وثقافية خطيرة؛ إذ يكرّس تغريب الشخصية ذات الأصل الأفريقي عن السياق الاجتماعي الأميركي، وبذلك يعيش الأفريقي الأسود الاغتراب بصورة مزدوجة؛ فهو غريب قصيٌّ عن وطنه الأم في أفريقيا، وغريب معزول في مكانه الجديد في أميركا.
وفي رواية “أكثر العيون زرقة” للكاتبة الأميركية توني موريسون (Morrison, Toni: The Bluest Eye, 1970) ، تكشف سردية التمايز المكاني الطبقي قسوة عيش السود في فضاء اجتماعي موحش، مكرسةً مفارقات التموضع المجتمعي؛ إذ يرصد السرد في مستهل الرواية، داراً لأسرة بيضاء يشعّ الجمال والبهجة في تفاصيلها “ها هي الدار. خضراء وبيضاء، ولها باب أحمر، وهي جميلة للغاية. ها هم أفراد الأسرة.. إنهم سعداء للغاية.. انظروا إلى القطة، إنها مسترسلة بالمواء.. انظروا إلى الكلب إنه مسترسل بالنباح” (ص 4) ومن ثم يعرّج بعد ذلك على وصف دار لأسرة سوداء، ويكشف سوء الحال فيها “دارنا عتيقة، باردة اللون.. وفي الليل يضيء مصباح كيروسين غرفة واحدة، أما الغرف الأخرى فيحكم الظلام قبضته عليها، وتسكنها الصراصير والفئران” (ص 10).
الدار هنا أنموذج لدور السود المسحوقين، ففضاء الدار في معظمه سوداوي مظلم تملؤه الصراصير والفئران؛ ليعكس صدى فنياً لنظرة المجتمع الأميركي الرأسمالي الأبيض إلى قاطني الدار، أصحابِ البشرة المغايرة. ومن الناحية المقابلة يعيش البيض في منازل جميلة مشرقة تمثل تربية القطط والكلاب فيها صورة رمزية دالة على الارتياح المعيشي، في مقابل انتشار الصراصير والفئران الذي يرتبط بصورة عامة بسوء المسكن كما يُظهر أنموذج الرواية الأميركية التي نقاربها.
وهذا المكان الموحش الضاغط معنوياً على رؤوس أهله يلقي بظلاله الثقيلة على الشخصية الفقيرة المعدمة، ويحول الحب الأبوي فيها إلى اغتصاب كما تظهر الرواية في منعرج خطير من منعرجاتها، حين تقع بطلة الرواية “بيكولا” فريسة القهر والضعف؛ إذ يرى الأب طفلته الصغيرة المسكينة “تغسل الأطباق، وقد انحنى ظهرها الصغير على الحوض، ولم يستطع تحديد ما رآه أو ما أحسه، وأدرك شعوره بعدم الارتياح، وعقب ذلك أحس بعدم ارتياحه ينحلّ إلى لذة” (ص 161). فالقهر الاجتماعي والتوتر العرقي يصل بالشخصية إلى حد العدائية تجاه العالم بأسره، ومن ثم يصل الضغط إلى عتبة الانفجار وارتكاب المعصية أو الجريمة. وهذا ما يحدث بالفعل حين يقدم الأب على اغتصاب طفلته الصغيرة، فتحمل جنيناً من صلبه.
وبذلك يبدو أثر أنثربولوجيا المكان وجغرافيته السوداء في تعقيد أزمة السواد، فالعلاقة بينهما مركبة وعضوية وجوهرية؛ علاقة تأثير متبادل تنعكس بوضوح على طبيعة العلاقات الاجتماعية؛ إذ تكبر هوّة التباعد الثقافي والمعيشي بين البيض والسود، فتتكرّس النظرة الدونية تجاه السود، لتصل إلى حد تقبل سياسة التخلّص منهم وإبادتهم، كما حدث في برنامج تحسين النسل في ولاية كارولينا الشمالية الأميركية، الذي تم كشفه مؤخراً، بوصفه حلقة من حلقات التطهير العرقي الممنهج الممارس بحق السود، والإرث التاريخي العنصري المتراكم. في مقابل تعاظم إحساس أولئك السود بمركب النقص، وبانعدام العدالة الاجتماعية، وقد بدا ذلك في وصف المأكل والمسكن ومفردات الحياة، والخيوط الدقيقة والعريضة، لدرجة أنهم؛ أي السود، ينظرون إلى ذلك كله بامتعاض وحسرة وضيق.