أن نُحلِم الطفلَ بكل شيء
لكنني عندما كبرت فعلا وتخطّيت عتبة الأربعين الكئيبة، اكتشفت أنّ أشدّ الأعمال حمقا أن يكبر الإنسان، وأنّ أعظم الخيانات ذنبا أن يغادر المرء الطفل الذي فيه ويتنصّل منه. وهكذا رحت أستعيد الطفل البعيد وأتقفى خطاه، وأتدارك ما فاتني من قربه ومعرفته. ولم يكن من سبيل لي إلى ذلك إلا الأدب. هو الذي صرفني عنه صغيرا وهو الذي يعيدني إليه كبيرا. فرحت أقرأ الكتابات الموجّهة للطفل ولأبنائي عليّ في ذلك فضل كبير، واشتغلت بالبحث في الأدب الموجّه إلى الطفل ووضعت في ذلك ثلاث دراسات عن طه حسين وغسان كنفاني ونافلة ذهب، وبعد تردّد تجرّأت مؤخّرا وكتبت رواية لليافعين.
ولعلّ تردّدي هذا إنما يعود في جزء كبير منه إلى اعتقادي الراسخ بأنّ الكتابة للأطفال عمل صعب جدّا، وكنت أجد في ضعف الأعمال المكتوبة للأطفال التي تقع بين يديّ دليلا على عسر الإبداع في هذا المجال. وليس مردّ هذا العسر إلى صعوبة نزول الكاتب الكهل إلى مستوى إدراك الطفل الصغير كما هو الاعتقاد السّائد، بل لعلنّي أقلب المعادلة فأقول إنّ هذه الصعوبة عائدة إلى عسر ارتفاع الكاتب الكهل إلى مستوى الطفل الإدراكي ورهافة حسّه وغنى رؤيته للعالم وشاعريّته الفائقة، هذا علاوة على ما تتطلّبه الكتابة للطفل من براعة وثقافة اجتماعيّة وبسيكولوجيّة عالية ومن خبرة عميقة بالحياة والإنسان. وعلى هذا النحو فليست الكتابة للأطفال كما يعتقد الكثيرون، تزجية للوقت وسعيا نحو الربح السهل ولا تمرينا في الكتابة القصصيّة يشرع فيه مبتدئ مّا في انتظار أن يمتلك أداته القصصيّة فيكتب للكهول. على العكس من ذلك تماما ينبغي على من تهيّأ ليكتب للأطفال أن يكون وراءه رصيد مهمّ من الكتابة للكهول وحذق لفنون القصّ يمكّنانه من حسن تطويع أدواته الفنيّة والاهتداء إلى أيسر السبل إلى مخاطبة القارئ الصغير.
ولعلّ أبرز القضايا المتعلّقة بالكتابة للطفّل على الإطلاق هي قضيّة التوفيق بين مطلبين اثنين تعدّ المواءمة بينهما مقياسا للنجاح في الكتابة للطفل: مطلب تربويّ بيداغوجيّ تمثّل فيه المادّة القصصيّة رسالة يسعى المؤلّف إلى تبليغها للطفل راجيا تحقيق غايات تربويّة وأخلاقيّة وحضاريّة نبيلة، ومطلب فنيّ جماليّ ترتقي فيه الكتابة إلى مستوى الغاية المقصودة لذاتها فيكون هدف المؤلّف تحسيس الطفل بقيمة النصّ في حدّ ذاته وحضّه على اكتشاف مواطن الإبداع الجماليّ فيه بغية تنمية قدراته الذوقيّة والخياليّة والتعبيرية.
على أنّ الناظر في السواد الأعظم ممّا ينشر للأطفال يتبيّن بيسر اختلال التوازن بين هذين المطلبين وطغيان الهاجس التربويّ على الهاجس الجماليّ. فأغلب النصوص المكتوبة للأطفال تكاد تكون دروسا مباشرة فجّة تقريريّة جافّة يتقمصّ فيها المؤلّف دور الواعظ، فيتوجّه إلى الطّفل بخطاب تعليميّ تلقيني لا تمثّل المادّة الحكائيّة فيه إلاّ مبرّرا لسوق الموعظة تلو الأخرى، وحشو المعلومات بطريقة نمطيّة آلية، ولا تمثّل اللغة إلاّ أداة للتبليغ والتواصل ووعاء يحوي الخطاب التربويّ التعليميّ، فتأتي في الدرجة الدنيا الصفر من الأدبيّة، عارية قفراء من الصور التخييليّة.
ويبدو لنا أنّ وراء طغيان الجانب التربويّ على الجانب الفنيّ في أدب الطّفل أسبابا ثلاثة هي أوّلا تمسّك بعض الكتّاب بتصوّرات تقليديّة عن التربية تعتمد التلقين منهجا والتوجيه هدفا، ثانيا محاولة الكتّاب وعوا بذلك وقصدوا أم لم يعوا ولم يقصدوا، التقرّب إلى أولياء الأطفال بالظهور أمامهم في مظهر من يحرص على مساعدتهم في تربية أبنائهم تربية حسنة وتغذيتهم بالقيم المثلى. أمّا ثالث الأسباب فهو الاستهانة بقدرات الطفل العقليّة والذوقية واعتباره مجرّد متلقّ سلبيّ عاجز عن التفاعل الإيجابيّ الخلاّق مع النصّ الذي يقدّم إليه، ومن ثمّ يتعامل هؤلاء الكتاب مع الكتابة للطفل بوصفها فعلا هيّنا سهلا لا يتطلّب مجهودا وبذلا كبيرين.
الطفل لا يحتاج إلى الحكمة والموعظة المباشرة، فما يمتلكه من حساسيّة وفطنة وتفكير منطقي يجعله قادرا على فهم الرسائل مهما تلفّعت بالرمز والإيحاء. وشأن الكاتب الذي يجعل الخطاب المباشر سبيله إلى التواصل مع الطفل كشأن الفيلسوف اليوناني ديوجين يحمل مصباحه المضيء يتجوّل به نهارا ونور الشمس ساطع يبحث عن الحقيقة. على أنّ ديوجين كان يسير بين الكهول، بين أشخاص أعمت بصائرهم العادة والحياة اليومية الرتيبة وبلادة الحسّ، فاحتاج إلى المصباح المضيء نهارا. أما من يكتب للأطفال، فيتوجّه إلى قارئ ما زالت الأواصر التي تشدّه إلى الوجود والطبيعة والقيم الإنسانية المطلقة أواصر قويّة نقيّة بكرا تنبض حياة، لم تطمرها حسابات الجزاء والعقاب والمواضعات الاجتماعية وإكراهات التعاملات المادية. فما من حاجة للكاتب إلى أن يرفع صوته وهو يخاطب الطفل بل عليه أن يهمس، وما من حاجة له إلى أن يعلّم ويلقنّ بل عليه أن يوحي بالفكرة و يلهم بالعبرة، وما من حاجة له إلى أن يقرّع الطفل بل عليه أن يحلمه…
عرّف سانت بوف الشعر بأنه “ليس أن تقول كل شيء، بل أن تجعل النفس تحلم بكل شيء”. وهو لعمري أنسب تعريف يمكن تقديمه لأدب الطفل. الكتابة للطفل هي أن نجعل الطفل يحلم بكل شيء، أن نساعده يسير المساعدة على أن يفتّق من أكمام الحاضر أرحب الآفاق للإشراف على الآتي، وأن يتدرّب على البحث عن وجهه القادم، وأن يحسن تأمّل الهنا قريته، مدينته، وطنه، حتى يكون قادرا على أن يرى الهناك، المدن البعيدة، العالم، وأن يتيقّن منذ الصبا أنّ الكنز العجيب الذي عليه أن يبحث عنه هو كيانه ينحته نحتا، وأن يتحسّس رويدا رويدا طريقه إلى الآخر شرطا أساسيا لاكتمال الأنا، وأن يوثّق صلاته منذ الطفولة الأولى بالفنّ والعلم ويعتبرهما سبيله في الحياة ومنجاة الإنسانية من الجهل والتعصب.
لذلك ينبغي على من يكتب للأطفال أن تكون له في الوقت نفسه مهارة الساحر وخفّة المهرّج ووقار الحكّاء، وثلاثتهم يحبّهم الطفل ويطمئنّ إليهم. عليه أن يكون ساحرا يحسن تصريف الأشكال والموجودات وتغيير أوضاعها والتلاعب بهويّاتها الأولى، وعليه أن يكون مهرّجا أخفّ من الريح وأرشق من الظلّ يستطيع أن يتنقّل بالطفل بين الأرض والسماء وأن يعبث معه بالاتجاهات الستّ في سيل من الدوران والرقص والقفز، وعليه أن يكون حكّاء يتفنّن في نسج رداء الحكاية ويعرف أحسن المعرفة كيف يراوح بين الصمت والكلام، وكيف يجعل من الحروف أرواحا وأخيلة وأجسادا سويّة يراها الطفل ويسمعها، ويمدّ إليها اليد ويسير إلى جانبها مرافقا غير هيّاب وإن شملت العتمة غاب الحكاية.
بناء على ذلك يكون النص الموجّه إلى الأطفال نصا جمعا تتعدّد فيه الأجناس الأدبية والفنون وتتزاوج في أعراس بهيجة يجد فيها السرد مكمّلا له في الشعر، ويجد الشعر سندا في المسرح، ويهب الرسم النص فضاء ملوّنا حيويا رقراقا مشكّلا من ماء وتراب، ممتدا بين سماء وأرض، يعطي الطفل الانطباع بأنه لا يجلس حين يقرأ إلى كرسيّ وطاولة بل يتربّع على بساط طائر يأخذه في كل مرة يقرأ فيها قصة إلى مملكة الدهشة، إلى العالم برا وبحرا، شعرا ونثرا، قديما وجديدا، أسطورة وعلما، أفراحا وأتراحا، لهوا وجدا.
ولا يهمّ إذا استطاع الكاتب أن يعرج بقارئه الطفل هذه المعاريج أيّ موضوع يطرق وأيّ نمط من أنماط الكتابة للطفل يقصد. فسواء كتب في الخيال العلميّ أو وظّف أسطورة من الأساطير أو عالج قضيّة اجتماعية أو استلهم شخصيّة تاريخية، فإنّ الأهمّ أن ينجح في أن يجعل من ذلك الموضوع مرقاة إلى أن ييسّر على الطفل اكتشاف ما يمكن أن ينبثق عن أيّ موضوع كان من معان ثوان لا تحدّ، وما يمكن أن يختفي خلف الكون القصصي من أكوان أخرى كثيرة.
كل موضوع قادر على أن ينجب نصا جميلا بشرط أن يوفّق في أن يبعث في القارئ الطفل حين يفرغ من القراءة، الإحساسَ بأنه قد وضع العالم في جيبه وأضحى يستطيع أن يخرج الشمس أو القمر في خفية من أبويه ويتخذ منهما كجّة يباري بها أترابه في الحيّ.
ولكن أليس ذلك هو حلم الكاتب أيضا؟ أترانا لا نفعل حين نكتب إلا العودة إلى الطفل الذي أضعنا في زحمة الأيام؟ أليست الكتابة كل الكتابة هي اقتصاص من الزمن ومقاومة للموت باستدعاء الطفل وأحلام الطفل؟
كل كتابة هي عودة الكهل الصارم إلى الطفل الأوّل يتمدّد على الأرض الرمليّة يناجي السماء، ويغوص بيده إلى أعماق البحر يلقي إلى السحب المارّة بعض فواكه القصص.