أوجاع اليقظة

في ديوان أول لمطير العوني
الخميس 2020/10/01
(لوحة عبدالله العمري)

“خراب الروح” ديوان أول للشاعر التونسي مطير العوني. والعوني مطير بالنّسبة إليّ وإلى كثيرين من رفاقه، شاعر، بمعنى أنّنا لا نتعامل معه كبقيّة الأصدقاء أو النّدامى على حسب مستوى المعرفة أو عمق الزّمالة أو حسب أيّ طريقة أو منظومة اجتماعية كانت. نتعامل معه على أساس كونه شاعراً. ولا يعني ذلك أنّه الشّاعر الوحيد في محيطنا، أو أنّه أهمّ الشّعراء طبعا لا، ولكن هذه الصفة غلبت عليه عندي منذ التقينا ذات ربيع، بقطع النّظر عن مهنته كإداري ببلديّة الحمّامات في تونس، مهنة تجعله أصلا وأساسا بعيدا فكريّا وثقافيّا واجتماعيّا عن عوالم الفنّ والأدب. طبعا، أنا لا أتبنّى هذه النّظرة الإقصائيّة التي يتّسم بها الكثيرون من أهل الفنون والجماليّات، وخاصّة من الأكاديميّين الباحثين للأسف عن الخانات وحتّى عن البوتقة، إمّا لتبسيط الأمور لأسباب بيداغوجيّة أو لتعقيدها لأسباب تنظيميّة غايتها المحافظة على الأدب وحمايته المزعومة من المتطفّلين.

مطير ليس من هؤلاء، فهو شاعر حقيقيّ لا محالة حسّه الشعري وعلاقته مع اللغة ومع الكلمات ومع الأسماء ومع الأشياء تنمّ عن وعي عميق بكلّ هذا. نستقرئ ذلك بلغة حارة ومباشرة، عبر هذا القصيد الذي يخاطب فيه الشّهيد شكري بلعيد:

“ها نحن يا شكري

على قيد الموت

منذ كان حزنك العفويّ

ينساب في كلماتك نهر صمود،

منذ كان فرحك المقصود

يشعّ من عينيك، يدلّنا

على مغارات الموت المجانيّ،

موزّع على الحدود

يوم عرّيت إخوة يوسف

وأفشيت السرّ…”

بعيدا عن البكاء وعن شعر الرّثاء، تذكّرني هذه القصيدة ذات العنوان المتفجر “الكلمات كاسحات ألغام” بأختها الكبرى التي تغنّى فيها الأميركي الثّائر والت ويتمان بالزّعيم الوطني المقتول أبراهام لينكولن، إذ يصفه بالقبطان والقائد والأب لا من باب التملّق بل رفضاً للموت والقتل والفاشيّة التي اغتيل بسببها محرّر زنوج أميركا سنة 1865، مثلما اغتيل شكري بلعيد بعد سنتين من ثورة الياسمين والحرّية والكرامة، مع العلم أنّ لينكولن وبلعيد يتقاسمان أشياء كثيرة كامتهانهما المحاماة قبل تضلّعهما في السّياسة، زيادة على تعلّقهما بالفكر التنويري المحارب لجلّ أنواع التعصّب والتطرّف الدّيني والتباين الاجتماعي واحتكار الثّروات من قبل أقلّية دون الجميع.

كما أنّ تصدير قصيدة “الكلمات كاسحات ألغام” بشاهدة لمحمود درويش ذو معان لما يحمله اسم شاعر القضيّة الفلسطينيّة من رموز في المقاومة والشّعر والغنائيّة على حدّ سواء. لا مكان للموت ولا للإحباط ولا للخمول، فالشّاعر الحقيقيّ لا يرضى بها أبدا، لأنّ اشتغاله على اللّغة أمل في حدّ ذاته. هذا ما يتبيّن لنا منذ الوهلة الأولى، أي منذ الإهداء حيث يكتب الشّاعر مطير العوني “إلى كلّ الذين اتّخذوا من الضفّة الأخرى مستقرّا لهم، تاركين لنا جسورا من الأمل والحكمة”. لكن من هم هؤلاء؟ وهم في النص أحياء يرزقون: محمود درويش، شكري بلعيد، محمّد الصغيّر أولاد أحمد، أحمد إبراهيم، ناجي العلي والإنجليزي ت.س. إليوت.

نعم، يرفض الشّاعر حتميّة الموت ويكاد يثور عليه. كتب منذ عشرين سنة في قصيدة ذات عنوان مريب “انعتاق”:

صراحة مباشرة وعفوية طليقة
صراحة مباشرة وعفوية طليقة

“ابتعدي، مخاتلتي

قلت

ودعي جسدي متوهّجا

على الدوام،

متعطّشا للانعتاق

ألاّ أخضر كعود توت

في لحظة التحام

وأنساق إلى الموت

دون أن أموت".

حضور المرأة، الحوار معها، عشقها، التودّد إليها، طردها، كلّ ذلك يخلق جدليّة وحراكا شعريّا يؤسّس لعالم جديد يتراءى لشاعره، عالم وحده الشاعر يملك مفاتيح الدّخول إليه. تحمل إحدى قصائده عنوان “القصيدة أنثى”؟ وهي ليست قصيدة حبّ ولا غزل ولا شيء من هذا القبيل. هو الكلام عن الكلام، هو الشّعر عن الشّعر، هو في نهاية الأمر حبّ الحبّ كما نقول صوفيّا “نور على نور”، لا للمبالغة بل للولوج في صلب الأمور، لتقييم معدنها، لاستكشاف فحواها. فالشّاعر يذكر الله، يخاطبه، يسائله، لكن لا يناجيه ولا يعبده، كما لا يثور عليه. نقرأ ذلك في قصيدة “في دائرة الحلم أو النائب اللصّ”:

“سأحلم أنّـي تجاوزت القضاء

ورفعت لله أمر الأولياء

يا ربّ

هم الآن في ذمتك

أولياء الله الصّالحين

إذن لماذا تركت الضريح وحيدا؟

لقد دمّرته بأيدي الجاهلين

نوايا الحاقدين.

يا رب

إنّي سمعت النّائب اللصّ

يحثّ النّاس على التقاتل حـثّا

يا ربّ شكوتك نائبا لصّا

لسانه قدّ من طين…

أنيابه قدّت من حديد

رأيته يمتصّ دم الجريح مصّـا…”

بلغة مباشرة، ولكن جارحة، يحاول الشّاعر تخليص الله من التديّن الأعمى. يخلّصه؟ لا، قطعا لا، يحاول وحسب، لأنّ المسألة صعبة، ربّما مستحيلة. التألّه تغلّب على الله والتديّن على الدّين. إنّه زمن “عودة الحشّاشين” وليس هؤلاء بالثوّار ولا بالأبرار، هم قتلة ومرتزقة وشرذمة في خدمة رأس المال الفاحش والجائر. انتبه مطير إلى ذلك منذ الأيّام الأولى للثّورة التّونسيّة، شأنه شأن الثوار الحقيقيّين، أولئك الذين لم يثملوا برائحة الثّورة دون التمتّع بملذّاتها، دون شرب رحيق حرّيتها الّتي أجهضت تحديدا يوم “طلع البدر علينا من مطار قرطاج الدولي”، على حدّ قول صديقنا الأديب حسن بن عثمان. لكن، مرّة أخرى، رغم “خراب الرّوح” هذا، رغم ما يسمّيه الشاعر، في قصيد مهدى إلى روح سيد أحمد إبراهيم، “أوجاع اليقظة”، فتلك الأوجاع ليست حتميّة ولا غير مرئيّة ولا حتّى ميتافيزيقيّة، هي حقيقيّة، نعم حقيقيّة: العدوّ أمامنا بزاده وزوّاده وعتاده، بدينه وبتديّنه ومتديّنيه الذين قتلوا أمّ الشّاعر، نعم قتلوها وليس هذا مجازا ولا مبالغة ولا أيّ شيء من هذا القبيل. لن أطيل هنا، لأنّ الأمر مزعج ومحزن على حدّ سواء. وسأترك للشّاعر الفضاء للحديث عمّا أخبرني به… لكن، فلنعد للشّعر ولما يهبنا من مقدرة على التّجاوز.

يكتب الشاعر تحت عنوان “زفاف”:

“قضت العمر تبيع

فساتين العرائس…….

لم تجد وقتا لشراء عريس

فماتت وهي عانس“.

(لوحة عبدالله العمري)
(لوحة عبدالله العمري)

هذا، ولا شكّ في ذلك، قريب جدّا من برقية شعر المنصف المزغنّي. هو من وحي التناصّ أي من وحي التفاعل والتحاور النصّي. من الجدير القول إنّ هذا الأسلوب الخاطف المستوحى من فنّ الهايكو الياباني يتماشى مع فكر هذا الكتاب الأوّل لصاحبه لأنّه مجموعة من التّشكيلات والتفاعلات وربّما التّخريجات التي تمتدّ على أكثر من عقدين من الكتابة. لا نقول ذلك للتلميح بأنّ في هذه الكتاب الشّعري شيء من الغثّ والسّمين، بل لدعوة الشاعر إلى التحرّر من هذه التّجارب المتعدّدة بغية الذّهاب قدما في صياغة تجربة أخرى، تجربة جديدة، تكون تأصيلا لكيانه الشّعري، لأنّ الكتاب الثّاني، شأنه شأن الوليد الثّاني، تكريس لقصّة حبّ.

هذا الحبّ للشّعر وفي الشّعر وبصحبة الشّعر، يجعلنا على ثقة من مصداقيّته وأصالته وتجذّره، ومن رغبته في التجدّد، ومن جعل الكلمة والصورة والقصيدة والكتاب القادم قابلة كلها لأن تتعتّق كالخمرة التي يصفها الشاعر بأنها “خمرة الدّم المراق”. كيف لا أتذكّر هنا دم الرّفيق بازوليني المراق على شاطئ أوستيا ليلة الثاني من نوفمبر 1975؟ دمه سال وجسده خُرّب، لكن لا تزال أشعاره وإبداعاته بيننا، هو الّذي كتب “رماد غرامشي”، ذلك الشّهيد الآخر. لكن، ألم يقل درويش في إحدى قصائده الأولى، تحت عنوان “عن إنسان”، “نيرون مات ولم تمت روما؟”.

مات موسوليني وبقي غرامشي وفكره العضوي الذي نعيش به حتّى اليوم. رحل بعض الطّغاة خلال ربيعنا العربي وسيرحل الباقون بعد شتاء ونيف لكي ننشد من جديد برفقة سيد أحمد الخالد “خضر مرابعنا زرق سناجقنا بيض أيادينا”، كي يولد بعد أحمد ألف أحمد وبعد ليليا ومايا ألف فاطمة وألمى من شأنهم جميعا الخروج بتونس إلى برّ الأمان والوصول بها إلى “التّونسة” وهي، حسب رأيي، المرحلة الضروريّة لتكريس الحرّية والإنسانيّة والكونيّة في بلادنا البهيّة.

شعر مطير العوني بصراحته ومباشرته وعفويته الطليقة والجريئة هو الجواب بالشّعر، كما تذكرني نبرته بقصيدة لبيار باولو بازوليني، الشاعر والسينمائي، المناضل المقتول غدراً:

“كهلا؟ أبدا. أبدا: كالحياة

التي لا تنضج أبدا، تبقى خضراء،

من يوم رائع إلى يوم أروع.

أنا يمكنني أن أبقى فقط وفيّا

لسرّ الرتابة الرائعة.

لهذا السّبب، في السّعادة،

أنا لم أضيّع نفسي أبدا. لهذا

السّبب في قلق أخطائي

لم أصل أبدا إلى النّدم الحقيقيّ.

على قدم المساواة، دائما مساويا للذي لم أقل بعد

في جوهر ما أنا هو".

بيير باولو بازوليني، (من كتاب “روما 1950، يوميّات”، ترجمة أ. ح).

أخيّر أن أهتف بصاحب هذا الشعر، لا خوف، لا صمت، لا موت بعد اليوم. “فإمّا حياة وإمّا فلا.” ولننشد دائما وأبدا: “تحيا الحياة”. هيّا يا صديقي، أتل علينا أشعارك الأولى، أمتعنا، كلّنا آذان صاغية، وقلوب آوية، وأرواح سامية، في انتظار الجديد، المزيد وما سيتلوه عليك الشّعر المُريدْ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.