أوركيسترا لوجه قلق
لخالسّنجاب چامبا يمسك حبّة الجوز في انفعال .كان انفعاله شديدا على غير العادة .يلتفت وراءه ثم يدور حول مكانه على جذع الشجرة قبل أن يهمّ بقضم الجوزة.
موسيقى سيمفونية بيتهوفن يسمع صداها في أرجاء الغابة .تخترق أغصان الأشجار المكسوّة بالثّلوج كرعشة خفيفة ثم تتبيّن الألحان واضحة نقيّة .طربت لها الطيور فرفرفت بأجنحتها كفواصل اندمجت مع هذا اللّحن الذي اقتحم الغابة فجأة.
چامبا قلق جدا .نظر إلى وجهه صباحا في البحيرة الجليديّة ولم يستسغ ملامحه .وجه مكوّر ضئيل تنبثق منه أسنان بشكل فاضح وعينان صغيرتان يعتصرهما خدّان منتفخان.
لم تكن لديه أدنى فكرة حول الحياة في البريّة الجليدية وهذا ما شكّل له عقدة منذ ابتعد عن عائلته كراشد متحمس لحياة الوحدة واللّامبالاة .كما أنّه لم يكن راضيا عن شكله .شعر أنه مقيّد عن فعل عدة أمور كحمل أشياء ثقيلة أو مكالمة الإنسيّين الذين عادة ما يأتون للغابة للاحتطاب .كان لا يزال يمسك حبّة الجوز بعصبية مفرطة .لم يكتم تشنّجه .طفق يخربش جذع الصنوبر بمخالبه الصغيرة ويحكّ وبره مبديا أسفا وحنقا كبيرين.
بيتهوفن يبعث الألحان في الغابة بلا انقطاع .لا رتابة فيها .تلسع الأغصان المنحنية بثلجها فتزعزع صمتها وتحيلها إلى انشراح فترتجف خفيفة وهي تلفظ ما عليها في عمق الغابة البيضاء .غالبا ما تكون الأصوات في الغابة منبثقة عن طبيعة حيوانية في البريّة .كتزاوج ثعالب الثلج أو عواء الذّئاب الحارسة لمناطق نفوذها أو نعيق غربان شريدة .كان چامبا يحبّذ تأمّل السّماء ومباركة ذوبان الجليد .ولشدّ ما يمقت جحره المريع المليء بملصقات إشهارية لمنتوجات الغابة الجديدة من عصائر ومربّى وقشطة وسريره الضّئيل الذي يحيل على تساؤل منطقي .أين ينام؟
انتصف النهار بعد حين .وانتبذت السّحب أركانا أشتاتا في السّماء .جالت أصوات مزمجرة الأرجاء .طيور سوداء تقتحم المكان وتلهب الأفئدة بالفزع والارتباك .تقذف بيضا ناريّا بنسق مسترسل فينفجر تباعا .بيد أنّ چامبا لم يفقه ماهية هذه الأطياف الدّخيلة ذوات الأصوات المرعبة .وحسبه أنّها غضب مفاجئ زمجرت به السّماء .فكّر أنّ بقاءه هناك ليس إلّا موتا على أيّ حال وأنّ قلقه لن يزيد انتكاسته إلّا وبالا. انتحى طرف الجذع المائل في توجّس وصمّم على اتّخاذ قرار جسور ورأي يقيه النّهاية التي نسجتها مخيّلته الغضّة .ازدادت الطّيور تهيّجا واتّخذت حركاتها مسارات لولبيّة دائريّة .تجمّلت اللّوحة بدخان أبيض متماوج فكانت السّماء بهيجة في أوقات معدودة ومكدودة في أوقات أخر وزادت الانفجارات المتقطّعة أوصال الغابة تمزيقا وغاب سكون الصّباح عبثا بددا.
بيتهوفن يرسل ألحانه .تميس على سمت نقيّ ثمّ تتداخل مع زفير الطّيور اللّاذع وهي تقذف بيضها النّاريّ فتتلاشى أسرارها الطّروب وما تفتأ أن تعاود تفوّقها في تراقص .كانت تلك رسالة بيتهوفن إلى الطّيور الغاضبة وكانت تلك إجاباتها المعربدة لألحانه.
خمّن چامبا أن لا بدّ من الهرب والمغادرة .حمل ما خفّ وترك ما ثقل ثمّ قفز إلى أسفل .فكّر أنّه لا يعرف طريقا يسلكه .جال ببصره مطرقا سمعه ثمّ تدانى برأسه قليلا إلى الجهة اليمنى حيث تناهت إليه أصوات مرحة .الأمر في غرابته مخيف ما جعل ملامح السّنجاب الصّغير متكدّرة ممتقعة .تلهّف مجدّدا واستطاب تلك الألحان الشّجية فكان ينطّ بين الأعشاب والحصى بشغف وتولّع .فكّر أنّ المعركة القائمة اندلعت إثر عدم تمكّن الطّيور من إيجاد مكان ملائم لوضع بيضها فكانت تبيض في الهواء.
أطلّ من صخرة ملساء باحثا عن مرسل ألحان بيتهوفن .تناكب مع سنّور ووشقٌ سيبيريّ متلهّفين لاستبيان اللّحن الأخاّذ .حطّت بومة إثر ذاك فكانت حيوانات الغابة وطيورها تصل متتابعة إلى السّهل ثم تتوجّه إلى بيتهوفن يقودهم چامبا في زهوّ.
لاح سراب لامع بجانب البحيرة .كان يهفهف أعلى وأسفل .توقّف چامبا والآخرون على مرمى بصر منه .بدا لهم إنسيّ، إنسيّ يصدر ألحانا بالنّقر على شيء أسود له أسنان بيضاء وهذا ما جعل فكرة الوجه تنقر على ناصية چامبا وتمسح سحنته بشيء من الرّيبة .اقترب من الإنسيّ ومكث كذلك في أخذ وردّ، مقارنا بينه وبين الشّيء الأسود الذي ينقر عليه باهتمام وفضول، باحثا عن مخرج من ورطة الوجه القلق وسيطرت عليه غبشة من انهزام فكان كسيرا.
بيتهوفن يواصل العزف والطّيور المتهيّجة ما تزال تقذف بيضها النّاريّ بدون انقطاع .انفجرت بيضة حذو جامبا فاحتمى بصفصافة وتفرّقت الحيوانات منتبذة المغاور والآجام .التهب عقل السّنجاب الصّغير بصورة وجهه القلق .حاول تبديد تلك الوساوس بمناورة ساذجة إذ التفت صوب الوجه الخشبيّ الأسود .كيف لذلك الشّيء الصّامت أن يصدر صوتا متناغما؟ لم يتمكّن من استيعاب هذا المنطق الجديد .ربّما كان لوجهه صوت متناغم أيضا .حاول صارخا إصدار صوت رخيم فزعق .حاول مجدّدا .تبعته حيوانات الغابة .اعتقدت أنّ چامبا يطلق نداء استغاثة .تلذّذت بالصّراخ مرّة أخرى وانبرى الجميع يتصايحون.
طائرات حربيّة تقصف المكان بلا هوادة .عجوز قرويّ يواصل العزف على بيانو قديم .حيوانات الغابة تنتحب بشجن .كانت تلك الأوركيسترا تدغدغ أذني چامبا .واصل الصّراخ مفكّرا أنّ وجهه ليس بتلك الدّرجة من البشاعة طالما يصدر منه عزف شجيّ فانبلج فرح هادئ من محيّاه وكان ذلك آخر عهده ببيتهوفن.