أولى‭ ‬الهزائم

السبت 2015/08/01
تخطيط: حسين جمعان

كان في كثيرٍ من الأحيان، وبينه وبين نفسه يحاول أن يجد لها الأعذار‭.‬ يفتشُ دوماً عن أسبابٍ تجعلُ منه المذنب الأول‭.‬ ولم يشكّ ولو للحظة أن جانباً من اللوم كان يقع عليه‭.‬ ومع ذلك فهو لم يشأ من ذلك النصف المخفي من الأسباب أن يعمّق جرح الخسارة لكليهما‭.‬ كان يعشقها حتى الجنون‭.‬ وكانت تبادله نفس المشاعر‭.‬ على الأقل حتى ذلك اليوم المشؤوم‭.‬

وما من شكٍّ بأن خسارته لها في ذلك الزمن كان طعنةٍ في العمق، وفي مقتبل العمر‭.‬ أول هزائمه ولم يكن آخرها‭.‬ ولكأنما اعتقد حينها بأن إشارة واحدة من يده كانت كفيلةً بأن تجعل منه ساحراً يُرَقِّص العالم على رؤوس أصابعه‭.‬

ولم يعرف بأيّ لغة عليه أن يخاطبها‭.‬ كيف يردُّ وقد فاجأه الهجوم‭.‬ أحسَّ يومها كأن تيّاراً عميقاً جرّه إلى الأعماق‭.‬ كل أشياء الدنيا يمكن استجداؤها إلاّ الحب: ذلك الرابط الخفي والملغز‭.‬ عاطفةٌ لا نعرف سبباً لهجومها، ولا تفسيراً لهزيمتها المباغتة‭.‬ تكون بستاناً ثم تغدو صحراء‭.‬ وكانت القمر وكان الشمس!

“حبيبتي لم تعد حبيبتي”!

أوّل الطريق في الهزيمة النكراء‭.‬ كيف لأحدٍ غيره أن يفهم المقصود من تلك الكلمات؟ هو نفسه لا يعرف لماذا قال ذلك وماذا أراد، ولِمَ أراد ما أراد‭.‬ أليست هي مَنْ رغب بالقطيعة وتسبّبَت بها؟ كان حُبُّهما سيمتد إلى نهاية العمر‭.‬ ورغم ذلك فهو لا يحقد عليها‭.‬ وكيف يحقد على صبيّةٍ أبدت رغبتها بعدم رؤيته؟ القرار بأن يغدو صفراً كان قرارها‭.‬ ولها بالتأكيد أسبابُها، وإلاّ فما السبب الجوهريِّ؟

وكان صعباً عليه وهو الفتى أن يزين الكلمات بميزان التروّي، وأن يترك الأمور تصل بنفسها إلى نهاياتها‭.‬ كان أوّلُ الهزائم أوّلَ الدم! على أنَّ ذلك كان أفضل بما لا يقاس من استمرار علاقةٍ يعرف أنها ستحتضرُ، وسيأخُذُ احتضارُها وقته الخبيث والثقيل على النفس‭.‬ مجاملات، وابتسامات صفراء‭.‬ موافقاتٌ خجولةٌ تقود مع الأيام إلى عداوة نتمنى معها الموت لمن نحب، ونرجفُ خوفاً حين نراه‭.‬ نهربُ من شارعٍ إلى شارع!

أجل‭.‬ أيقولُ بأنه وجد أخيراً السببَ الذي مِنْ أجله قَطعت حبيبته علاقتَها به؟ وهو يصِرُّ إن تحدث عن الماضي أن يسميها حبيبة، على الأقل حتى اللحظة التي انقطع فيها حُبُّهما‭.‬ وبعدها سيتحدث عنها باعتبارها الحبيبة التي كانت‭.‬ فلا شيء يهمّ، بعد أن انقطع كل شيء‭.‬

فهو يتذكرها تماماً‭.‬ وهي لم تكن في يومٍ من الأيام مبتهجة ومنفتحة كذلك اليوم‭.‬ أيكونُ لقاؤهما تمّ في ذروة مزاجٍ نرغب فيه بأن نكون بلا رفقاء، مغلقين وشفافين كمرآة‭.‬ لحظة لا نسمح لأحد، كائناً من كان، بالعبث بعوالمنا الخفية، والأثيرة‭.‬ أجل‭.‬ فقد تواجها في لحظةٍ كانا فيها عالمين متغايرين‭.‬ وقفا وجهاً إلى وجه، وكان الصدام نتيجةً مؤكّدة!

ويومها لم تُره وجهها الشمعيُّ‭.‬ وهو لم يحاول أن يراه‭.‬ هل خشي أن تعلق في رأسه صورة الموت؟ دائرة بلا ملامح، قمر بلا ضوء، هكذا تخيّل وجهها دوماً‭.‬ من أجل ذلك صار يتريثُ في مشيه‭.‬ يترك الفتيات يعبرن‭.‬ المشهد الخلفي لهن هو ما كان يبحثُ عنه وفيه‭.‬ وجه معشوقته الأبدية كان هناك‭.‬ والأمر مثل أحجية‭.‬ ومن اللاشكل يبحثُ عن شكلٍ أضاعَهُ‭.‬

ولكن، من أجل ماذا يتذكّر ذلك كله؟ الآن وبعد أن ضاع كل شيء، يحاول استعادتها‭.‬ ويستحضر ما جرى ثانيةً بثانية‭.‬ أيُّ ألمٍ نفسيّ تسبب لها به، عندما استدارت جهة الحائط وصارت تمثالاً من شمع في متحف آلام المنبوذين! حركةٌ من أصابعها المتوتّرة أرته أن عليه أن يغادر فوراً، وإلا فإنها هي التي ستغادر، أو تذوب!

أيجهلُ شيئاً عن نفسه وتعرفه هي؟ ومن أجل ذلك الجانب الخفيِّ فينا والمخفي لنا يحبُّنا البعض ويبغضُنا البعض الآخر‭.‬ وظاهره الذي لا يراه، كيف رأته؟ ما شكلُهُ؟ لقد رآها كما هي، فكيف بدت لها حقيقتُهُ الآثمة!

وإلى غير رجعةٍ مضت تشابهاتهما‭.‬ الملابس‭.‬ تسريحة الشعر‭.‬ ضحكتهما الواحدة في مفاصل الحديث‭.‬ كل ما كان بينهما كان واحداً في اثنين‭.‬ حضور أحدهما في مكان عنى دوماً حضور كليهما‭.‬ أمن أجل ذلك، وذلك بالضبط، تراه يتذكر تلك العلاقة دون سواها‭.‬ العشراتُ غيرها عبرن حياته‭.‬ صداقاتُهن بدأت وانتهت ولا يذكر منها لا الوجوه، ولا حتى الأسماء‭.‬ نعم‭.‬ نعم‭.‬ أتذكركِ‭.‬ يقولُ كاذباً‭.‬ فقط نسيت الاسم‭.‬ الاسم نسيته تماماً‭.‬ آحادٌ سيرى منهن كثيرات‭.‬

وهذا ما حدث بالضبط‭.‬ وبالبساطة التي أخرجته بها من حياتها أخرجها هو الآخر من حياته‭.‬ لم ينفعل، أو يطلب تفسيراً‭.‬ لم يطلب فرصة جديدة، وعفا الله عمّا مضى‭.‬ فقد كانت اتخذت قرارها‭.‬ وكان قراراً لا رجعة عنه‭.‬ وبعد أن وصل كل شيء إلى منتهاه كان عليه أن ينفّذ القرار دون إبطاء‭.‬ ولو أبطأ في موقفه لكان ذلك علامة ضعف منه‭.‬ سيجعله ذلك في موقع المتسوّل‭.‬ وهو لم يكن متسولاً في حينها‭.‬ وهو ليس متسولاً الآن!

لقد اتخذت القرار عندما استدارت بوجهها الشمعي جهة الحائط‭.‬ وكانت ساعتها مثل مزهريةٍ ملأى بالنرجس‭.‬ إن لم تكن الورود من أجله، فمن أجل من؟ كان التصاقها في الحائط يقول له: حتى لو كنت موجوداً، فأنت غير موجود!

وما كان ممكناً لحظتها أن يثأر لكرامته المهدورة‭.‬ فخرج دون أن يودعها‭.‬ كان الكلام قد جَفَّ في حلقه‭.‬ وهكذا وجد نفسه في الشارع، والشارعُ يمتلئ بألوف البشر‭.‬ ولماذا البشر؟ أعليه أن ينتقي من جديد؟ لقد انتقى وانتهى من الانتقاء‭.‬

ولسوف يتجنّبُ بعد هزيمته النكراء تلك المرور في الأماكن التي يعرف أنها تمر فيها‭.‬ وفي البداية تحاشى الأزمنة‭.‬ حَلّة المدارس مثلاً، وكانت حلة المدارس أسعد أوقاته‭.‬ هناك كان لقاؤهما الأول وهناك كان لقاؤهما الأخير‭.‬ في بقعةٍ لا يرى منها أحداً ولا أحدَ يراه‭.‬ وكانت روحها موجودة عند السور، وفي الشارع، والدكاكين، وفي جيوب البنات‭.‬ صورةٌ أخّاذةٌ انتزعنها من صفحات الكتب‭.‬ في كل مكان يمرُّ فيه، حتى مع غيابها كانت حاضرةً‭.‬

وكان عليه بعد ذلك أن يضيف المكان إلى الزمان كعدوّين له، وصار خارجهما! لقد صار عليه بعد ذلك أن يستفهم ممن يدعونه إلى السهرات، والمناسبات الاجتماعية إن كانت فلانة ستحضر أم لا‭.‬ فلانة، هكذا صار اسمها‭.‬ هكذا صارت حبيبته السابقة‭.‬ لا اسم يدعوها به‭.‬

وتلك الكلمة كانت في البداية مثل تعويذةٍ، يهمس بها لنفسه‭.‬ ثم صارت مُلكاً لباقي شلة الأصدقاء‭.‬ وهي وإن لم يعادوها كرمى له، فقد صاروا، أيضاً، يشيرون لها بذلك الاسم: فلانة‭.‬ إحزر مَنْ رأينا بالأمس؟ بالأمس رأينا فلانة‭.‬ فلانة‭.‬ فلانة‭.‬ ولقد ضاق ذرعاً بذلك الاسم: أعرف‭.‬ أعرف‭.‬ لقد رأيتم فلانة!

ولم يقصد بتلك التسمية أن يتسبب بالأذىً، لا له، ولا لها‭.‬ وكان في ذلك الموقف منه تجاه حبه القديم، وربما الوحيد، بقايا وِدٍّ لم يَمُتْ‭.‬ أهو بالضبط ما يدعوه الآن للبحث عنها على ذلك النحو الهستيري؟

لا يعرفُ، وسينتظر من الأيام أن تمر، ومن الحبيبة، التي وجدها أخيراً، أن تغدو أكثر انفتاحاً تجاه حُبهما الجديد‭.‬ سيجعل ذلك الحب يتجدد فجأةً كما انقطع فجأة‭.‬ وسينتظر طويلاً قبل أن يسألها‭.‬ إذ لطالما حيّره السؤال‭..‬ في شروده المتواصل‭..‬ في ابتعاده المتدرج عن كل من كانوا يعرفونه، ويعرفون حبه المجنون لفتاةٍ رآها الكثيرون شمعةً لا تصمد في مواجهة الزمن!

وكان يريد معرفة السبب الحقيقي الذي من أجله استدارت يومها جهة الحائط‭.‬ والوجه الذي أراد رؤيته لم تُره إياه‭.‬ رأى دائرةً من ورق، ولو لم يغادر لحظتها لصار وجهها طائرةً ورقية! لقد طلبت منه الخروج، وذلك ما زعزعه من الأعماق‭.‬ لِمَ أرادت ذلك؟ لِمَ رفضت حبهما؟ هي المجنونة وهو المجنون!

وسيأتي وقتٌ ينتهي فيه اللعب كي يبدأ الجّدّ‭.‬ وقبل اللعب وقبل الجد أراد معرفة نفسه‭.‬ يعرف أنه لم يخطئ‭.‬ فماذا إذن؟ ومن أين جاء الخطأ؟ “لماذا أرادها ولم ترده؟”‭.‬ وسيدقُّ رأسه في الحائط إن لم يحصل على إجابةٍ شافية‭.‬ إن سال الدم فهل سيستريح؟ لماذا، ولماذا‭.‬ هل سيأتي الوقت الذي تتوقف فيه الأسئلة؟

وهكذا، وكما تجنّبها زمناً، وفَرَّ من كل مكان يمكن أن توجَدَ فيه، راح من جديد يتحين الفرص لرؤيتها‭.‬ يسير في الشوارع التي تحاشاها طويلاً‭.‬ حَلّةُ المدارس‭.‬ سور المدرسة‭.‬ سور المدرسة دون سواه‭.‬ الزمان والمكان اللذان أصبح خارجهما صارا في داخله من جديد‭.‬ ومن جديد راح يفتشُ الوجوه عن وجهٍ لا يمكن أن يخطئه‭.‬ كيف ينسى وجهاً من الشمع الخالص‭.‬ وجهاً أذابه وذاب معه؟

ومن أجل ذلك صار ما من همٍّ له سوى ابتداع سيناريوهات للقائهما الجديد‭.‬ السيناريو تِلْوَ السيناريو‭.‬ وقد جَهَّز روحه لاستقبال الحقيقة، حقيقتِهِ الصادمة! وسيجعل الصدفة المحضة والجميلة تجمعهما من جديد‭.‬ ومن جديد، وبعد كل تلك السنين هل تتذكر؟ سيراها، وسيهمسُ في أذنها، كما همس في مِرارٍ كثيرة:

- لم تتغيري، فما تزالين كما كنتِ؟

– وأنتَ أيضاً! وأنت أيضاً ما تزال كما أنت‭.‬ ولكن أين كنت طوال هذه السنين؟ ما الذي ذكّرك بي؟

وكان يرى أن لا وقت الآن لمزيدٍ من الأسئلة‭.‬ فيما بعد سينبشان الماضي‭.‬ سينبشانه سويّةً‭.‬ إن كان ثمة ماضٍ بينهما فسيتركه للمستقبل‭.‬ الحاضرُ بدايةٌ جديدة‭.‬ وسيبدأ منذ الآن‭.‬ لا من حيث انتهيا بل من نقطةٍ مجهولةٍ‭.‬ أفضلُ البدايات ما ابتدأ من الضباب!

وسيأتي الوقت الذي يستعجلُها فيه كي تفضفض ما امتلأ في صدرها‭.‬ لا يريد حديثاً عن حبهما الجديد، فقد قرّر أن يعرفه جيداً‭.‬ هذه المرة ستكون المعرفة من نصيبه‭.‬ فقد بلغ من العمر حدّاً ما عاد في الأسرار أيّ أسرار‭.‬ كل ما هنالك قد بات ساطعاً سطوع الشمس‭.‬

وكان يريد، ليس الآن بالطبع، بل على راحتها، أن يعرف‭.‬ لقد قررّ أن يعرف الكثير‭.‬ وسيأتي وقته بعد أن تكون قد أخذت وقتها، ليجعلها تفضفض كل ما في قلبها‭.‬ يريد كلامها عن حُبٍّ بعينه‭.‬ حبهما العتيق‭.‬ وسيسمع منها الكلام‭.‬ سيصغي له ولن ينساه‭.‬

”أجل، لقد كان حبنا أقلَّ مما توقَعَتْ‭.‬ لقد فاجأها أنه لم يكن كما ظنّت‭.‬ ويومها كنتُ قد خيّبتُ أملها‭.‬ كانت تبحثُ فِيّ عن إنسانٍ آخر‭.‬ وقطعت العلاقة بيننا على نحوٍ مفاجئ كي لا يتحول حبنا إلى بغضاء‭.‬ وذلك ما لا تريده‭.‬ كلانا لم يرِد ذلك‭.‬ هل أردتَ ذلك؟”‭.‬

يعرفُ‭.‬ يعرفُ كل هذا الذي ستقوله‭.‬ لقد صاغه بنفسه نيابةً عنها‭.‬ كان يريد كلاماً آخر‭.‬ كلامَها هي، لا كلامَهُ الملفقَ‭.‬ يريد أن يعرف ما لا يعرفه‭.‬ يرغب لوجعٍ رافقه طويلاً أن يغادر إلى غير رجعة‭.‬

…‭..‬

وحاول أن ينبش الماضي، وكانت تحاول أن تبقي الماضي خلف ظهريهما‭.‬ كان حُبُّهما القديم بلا سببٍ واضحٍ‭.‬ مثل دخانٍ هجم، ثم تبدّدَ‭.‬ أتى وذهَبَ‭.‬ وظلاّ كما هما‭.‬ يبحثان ويبحثان، ولا يجدان ما يبحثان عنه‭.‬

وفجأةً وجد نفسه وقد نسي كل وجع‭.‬ هي حتى لا تتذكر أي شيء، ولا ترغب بتذكر أيّ شيء‭.‬ وكان وهو يستدرجها بأسئلته مثل مَنْ يحكي عن مبهمات‭.‬ كل ما قاله تلقّته بابتسامة شمعية، كما لو كانت دميةً من الدُمى‭.‬ مَنْ ذا الذي يريد الماضي إن كان أول الهزائم؟

وكانت ما تنفك تنتظر، وهي تستمع منه إلى ماضيه الذي لا تجد سبباً لنبشه معها، هي بالذات، كانت تنتظر أن تأتي المبادرة هذه المرة منه‭.‬ أن يكون المغوارَ الذي كانه ذات يوم عندما كان ما يزال غِرّاً في شؤون النساء‭.‬ وأن يُمْسِكَ بذراعها ويقفزان نحو المجهول‭.‬ يضعان الماضي خلف ظهريهما، وتكونُ الذكريات حكاياتٍ تروى، وماضيهما بخاراً يتبدّد في الساعات الأولى من صباحهما الجديد!.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.