أيامي القادمة
الترام
ينزلق الترام على السكة الحديدية مصدراً الضجيج نفسه الذي كنت قد سمعته يوم أمس خلف معمل صغير لإنتاج عيدان الثقاب في شارع ستاديرا. عددنا خمسة، لا أرى السائق، لأنني اخترت مكاناً في أقصى مؤخرة العربة. أراقب الأشخاص خفية واحداً تلو الآخر: بنغالي، صيني، عربي، إيطالي من الشمال، إيطالي من الجنوب. كلمة واحدة بلهجتهم تكفي لفضح انتمائهم. أستهل الحديث مع الجنوبي الذي يحمي أنفه وفمه بلفاع من الصوف: هل تعرف مكاناً يبيعون فيه الكمامات؟ وكيف لي أن أعرف ذلك؟ يجيب بحنق.
آسفة، ولكن لا يمكن العثور على الكمامات في الوقت الحاضر، حاول أن تصنع واحدة في البيت، ثمة فيديوهات كثيرة يمكنها أن تساعدك في هذا الشأن، ثم علينا أن نبدع، أن نتدبّر أمورنا، إنه الوقت المناسب لذلك، ألا تراني مصيبة؟ تبادرني السيدة بلطف. لا يساورني الشكّ في أنها واحدة من أولئك اللاتي يقرأن بشغف أغاثا كريستي وسفيفا كازاتي موديلياني، ملكة الروايات الأرستقراطية.
أعرّج على البنغالي أيضاً: كيف حالك يا أخي، أثناء المطر تبيعون المظلات، وأحسبكم الآن تبيعون الكمامات، أليس كذلك؟ البنغالي لا يرد، ولكنه يبتسم بوداعة. هؤلاء غالباً لا يتحدثون، ولا تعرف ما إذا كانوا يتكلمون الإيطالية أم لا. أتراجع إلى مكاني في الخلف وأفكّر: لو كان بإمكاني الاختيار، لسافرت في الحال إلى إحدى جزر بحر الكارايبي، لأبحث عن عزلة تناسب بؤس هذه الأيام، غير أنه، لسبب غريب، تخطر ببالي حكمة مُرَابٍ عجوز كنت قد التقيته أكثر من مرة في ساحة دي أنجيليس. ففي كل مرة، كما لو أنه يختبر جلادتي، كان يبدأ حديثه بتلك النغمة المعهودة لرأسمالي عتيق: ها قد وجدتم الخبز والزبدة، تعملون وتلبسون جيداً، وعذراً لوقاحتي، تنعمون بالحرية أيضاً، تلك التي لم تتذوقوها في حياتكم. لا عليك، كنت أجيب، ليس من ثمّة وقاحة، مجرد صفاقة تأنس لها نفسي لما تتكرمون عليّ بنصائح ثمينة. كان العاهر يضحك عندها من كل قلبه: وتعلمتم البراغماتية أيضا! يضيف بخبث.
يتوقف الترام، أنزل وأتجه مباشرة نحو السوبر ماركت، ساعات ويبدأ الحجر الصحي، خطوة عملية لتطويق هذا الكائن اللامرئي، ولا أدري من يطوّق الآخر في هذه الحالة، هو أم نحن؟ في الطريق، تشدّ انتباهي شجرة زمزريق أثيبي ((Cercis siliquastum تضج بالألوان البراقة، فأتوقف والتقط صورة لها، وكأنني بهذا أودع العالم الخارجي. واسم هذه الشجرة، حسب المصادر المتعددة، مشتق من المصطلح اليوناني”Kerkis”، للإشارة إلى شكلها الانسيابي ومن اللاتينية “Siliqua”، أو بالأحرى “البدن المحدب”، وكلاهما يتعلق بشكل ثمارها.
إلا أن الاسم الشائع لهذه الشجرة هنا هو “شجرة يهودا”، في إشارة إلى منطقة ما يسمى “يهودا والسامرة”، أي الضفة الغربية في فلسطين، حيث منشأها، والتي انتشرت منها في جميع أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط. ولأنها تزهر تقريباً قبل عيد الفصح بمدة قصيرة، ولدت حولها بعض الأساطير القديمة المرتبطة بالمسيحية المبكرة كتمثيل رمزي لبعض أحداث الأيام الأخيرة للمسيح في الأناجيل.
فالظهور المفاجئ لزهور ذات لون أرجواني بنفسجي مكثف على اللحاء المجرد، حتى قبل الأوراق، سيمثل بشكل رمزي آلام المسيح، ويقال إن يهوذا الإسخريوطي منح “قبلة الخيانة” للمسيح تحت هذه الشجرة، وبعد ذلك، لم يصمد أمام وخز الضمير، فشنق نفسه. أقارن في ذهني بين قبلة يهوذا وقبلة كورونا، وأتساءل: هل تعتبر اليوم القبلة، أو حتى المصافحة، خيانة بحق الآخر؟
السوبر ماركت
تتوالى غمزات الشمس من خلف أشجار كستناء الجبل وزهرة العنقود السنطية (كنا نأكل عناقيد أزهارها البيضاء في صغرنا!)، ثم إطلالة خاطفة قبل أن تحجبها حانة إزولا أنيتا. حالما آخذ مكاني في الرتل الطويل أمام السوبرماركت، أبدأ في تأمل الأشخاص الذين ينتظرون دورهم في الأمام وفي الخلف. نظرة بانورامية مع إمعان في تفاصيل الأزياء والملامح والأحذية. يتناثر الفرح هنا على وجنات فتاة شابة ترتدي جينز ضيق وسترة جلدية تبرز ماركتها المشهورة على ظهر الياقة. أصابعها الرقيقة تلمس بخفة شاشة الخليوي. ثم بصوت دافئ: ثقي يا أمي.. اطمئني يا أمي.. طبعاً، طبعاً، لن أتأخر. وتلقي نظرة على الأشخاص الذين يسبقونها: لا يزال أمامي عشرون شخصاً أو ربما أقل، ثقي يا أمي لن أتأخر يا أمي. تنهي المكالمة وتبتسم. حتى أنها للحظة تكاد تضحك من أدائها الفجّ، لكنّ حياءها يخنق الضحكة فتعضّ شفتيها وتخفض نظرها نحو عربة التسوق.
ينتبه شاب إلى الأمام قليلاً، يقيس المسافة ويرجع خطوة إلى الوراء. يحملق فيه الرجل الذي يليه، يهز رأسه ويرسل إليّ نظرة ذات مغزى، أحدق بدوري في الشاب، والآخرون معي، ونصل جميعاً إلى تبادل نظرات لا نعرف كنهها. حتى أن أحدهم يوشك أن يتكلم معي، ولكنه يكتشف أن المسافة لا تساعده، فيحوّل نظره نحو الحارس الأفريقي على الباب.
البعض منهم يشعر بضيق عندما “يأمرهم” بالدخول: “تفضلوا”. ولكنه أمر في النهاية. ألا يكفي كورونا ليأتي أفريقي ويأمرنا، اسمع صوت سيدة في المقدمة، حيث تبحث حالاً عمّن يعاضدها. أبتسم لها بقوة، لعلها بادلتني الابتسامة، فقد تحرك قناعها الواقي قليلاً وتقلص فكاها ثم صدرت عنها زفرة طويلة.
خطوة أخرى، ويصعد الضباب من النفق. خطوتان، وها أنت أمام العملاق الغاني. كلا أنا من ساحل العاج. بدلة سوداء، قميص أبيض وربطة عنق كحلية. هندام يفرض الرهبة، بالإضافة إلى القامة الطويلة والمنكبين العريضين. في النهاية، أفضل من لا شيء، الدكتاتوريات واحدة سواء في أفريقيا أو في آسيا، والمصير واحد. أنت مثلاً ماذا تعمل؟ لا تدّعي بأنك وجدت عملاً أفضل من عملي. تصوّر أنني لا أعمل. كيف تعيش إذن؟ ألمّح له بأنني من “أولئك”. آه، يعبّر عن دهشته، ولم لا، إذا سنحت لك الفرصة! هيا، تفضلوا… واحد… اثنان… ثلاثة… أربعة… كفى.
نمشي بوقار، الواحد خلف الآخر، ونحافظ بدقة على المسافة التي حددها المرسوم الوزاري: متر واحد. ثم تبدأ لعبة من نوع آخر بين أقسام المواد الغذائية والخضراوات. فإذا ظهر أحد ما من أقصى طرف القسم، كنا نتراجع بسرعة، كما لو أننا بوغتنا بحيوان مفترس.
ومما لا شك فيه أن القلق من لقاء محفوف بالمخاطر، كان له تأثير حاسم في نسيان شراء نصف الأغراض. حتى أن كلماتنا، بعد أن أصبحنا في الخارج، كانت متشابهة تقريباً: يا مريم يا يسوع، نسيت السكر وسلق كتالونيا. يا الله، نسيت العدس والبطاطا. وهكذا، كلما تقدمت في الطريق، كانت تتتالى في ذهني الأغراض التي نسيتها، ومنها الخبز.. نعم الخبز. وأين كان عقلك؟ صاحت الزوجة، كالعادة شدهتك إحدى الفتيات الجميلات! نَفَسٌ عميقٌ، من الأفضل عدم الردّ، فالعزلة طويلة، ومن الأفضل التزام الصمت، وإلا سيكون مصيري مثل مصير العجوز الإيطالي الذي لجأ إلى الشرطة وأعلن بكل هدوء أن كورونا أفضل من البقاء مع زوجته طيلة اليوم!
اليوم الأول
في اليوم الأول انتابني حنين جارف إلى تناول فطور الصباح بجانب المدفأة، كما كنا نفعل في زمن يبدو لي الآن سحيقاً. الخبز الطازج بالسمسم والجبن والزيتون اللذان تغرق نكهتهما أرجاء الدار. ثم تلاشى ذلك الحنين مع وصول طلائع الكتّاب، وهم يحملون مؤلفاتهم بأيديهم ويدورون تائهين بين الجدران. أستعيد الكتب منهم، وأضعها على الرفّ. لا أسمع أحاديثهم، أشعر وكأنها موجودة في ذهني منذ أمد بعيد.
شذرات من هنا، وحِكَمٌ من هناك، وفي كل هذا، موسيقى أوبرا إيطالية قديمة، لعلها “لا ترافياتا”، تتناهى من الشقة المجاورة. أبتهج، فها أنا ذا أشهد التغيير الأول بعد فرض الحجر الصحي، فحتى يوم أمس كنا لا نسمع سوى أغان أميركية صاخبة، أو في أفضل الأحوال أغاني كلاوديو فيللا العاطفية التي كان يسمعها الجدّ أو الجدّة، آهات وتأوهات أين منها مطربونا في الستينات!
ثم فجأة شيء ما في عقلي الباطني، أخذ يذكرني بالمساحات التي يجب أن نكتفي بها طيلة هذه المدة. والأدهى من ذلك بدأت أراها حالاً وهي تتقلص أمام عينيّ: هنا لا.. هناك لا.. البلكون بارد، الحمام ليس مكاناً للمطالعة، فأعود إلى نفس الزاوية التي كنت أشغلها بضع ساعات في اليوم، وأستغرب كيف كنت معتاداً على ذلك الحيز الصغير، ولا أذكر بأنني اشتكيت منه أبداً.
أتجول قليلاً بين الأريكة وطاولة الوسط، أربع خطوات ونصف، أكتشف ألوان السجادة، وأنحني لأفحص خيوطها. ماذا تفعل بحق السماء؟ أنهض كمن أصيب بلسعة أليمة، وأعود إلى مكاني وراء طاولة الكمبيوتر. أكتب بداية قصة قصيرة “إذا كنت تريد أن تعيش في بيت وسط غابة من أشجار الغار، يكفي أن تنزل في محطة ‘واغنر’ من قطار الأنفاق وتنتظر بجانب كابين الهاتف. سيمرّ وقت طويل قبل أن تحضر فتاة سمراء، ذات شعر طويل وعيون حالمة مثل أمسية صيفية”. ألاحظ بأن أفكاري تلتمس شيئاً لم يعد في متناول اليد، وأتوقف طويلاً أمام هيئة الفتاة السمراء والأمسية الصيفية. هل كانت تلك الأمسية حقيقة أم خيالا، أرجّح في النهاية، أنها كانت حقيقة، إلا أنني لا أستطيع أن أتذكر لا المكان ولا أيّ تفصيل من ملامحها.
المطبخ
تُكدّس الوقت جزءا بعد جزء، بينما بيد تحرك الطعام في القدر، وباليد الأخرى تمسك بالنوطة الموسيقية لابتداع حركة أخرى. إنه الجنون بعينه، كلا، إنها تقريباً الحياة الاعتيادية لزوجة تريد أن تعيش بكلتا يديها. لكن هذا الهدوء الذي يكتنف الروح فجأة، هل مرده بداية نغمة جديدة، أم بحر الاخضرار الذي يلج من النوافذ، أو ربما لأنني ذهبت لمرة واحدة إلى لقاء أفكاري السوداوية ولم أطلب منها أن ترافقني؟
القطعة الموسيقية تجذبها الآن، والاثنتان تلتقيان في مكان بعيد لا يسمع فيه سوى صخب أنفاسها المضطربة، القطعة تصل إلى نهايتها مفسحة المجال للتأمل، ولكن هذه المرة من منظور مختلف، تتعمد اللغة أن تنساب بنفس إيقاع النغمة. يخامرني الشعور بأن النغمة المفردة تبدو جنوناً، نادراً ما يتمكن مؤلف مجهول من جذب جمهور متعدد الأذواق، يمكننا على الأقل طرح برنامج متكامل يضم أسماء مؤلفين مشهورين، نتعرف قبل كل شيء على أفكار هذا الموسيقيّ. لن نفعل أكثر من إضاعة الوقت. المعرفة ليست مضيعة للوقت أبداً. ها قد وصلنا إلى لبّ الموضوع! إذن، أنت تدّعي المعرفة ولا تعرف كيف تتذوق لحناً موسيقياً؟ أحاول إعادة السؤال بصيغة مختلفة: هل يخال لك أنني من أتباع الهائم المجنون؟ ومن يكون هذا؟ سأشرح لك كل شيء منذ البداية. أيّ بداية؟ يوم التقينا أم عندما ضبطتك معها في محطة القطارات؟ يحتدم النقاش، ولحسن الحظ لا تطير أطباق المعكرونة الساخنة في الهواء.
الشرفة والنباتات
يحاول الإنسان أن يفصل تنفّسه عن تنفّس الطبيعة، وهنا ينشأ عدم التناغم: الإنسان يبني نوعاً من الحضارة مصنوعة من الخيال والأوهام النمطية التي يحاول من خلالها أن يتجاوز الطارئ وحدود الطبيعة، ومن جهة أخرى، يعتقد بأن الطبيعة يجب أن تعتني به. في عصرنا هذا الذي يتميز بقمة التكنولوجيا، فايروس مجهري تمكن من تحجيمنا وإعادتنا تقريباً، مع مخاوفنا، إلى فجر التاريخ، عندما وقف الإنسان مشدوهاً أمام النار.
كيف نعيش في طبيعة فقدت طبيعتها، وفي هذا النطاق ينحصر المرض. فمن جهة علينا أن نعترف أن الأمراض تنتمي إلى الطبيعة، مخلوقات حية بين مخلوقات حية أخرى. ومن جهة إنها مسألة معرفة، لهذا لا يمكننا أن نستبعد إمكانية أن الإنسان، عبر العلم والخيال، يمكنه أن يساهم في بناء علاقات متميزة مع شيء من التوازن المنظور.
علاقات مؤسسية حول الاعتراف بالألم الذي هو خاصية إنسانية، في ذلك الألم يكمن الفرد، والفرد الذي يتألم يستدعي العطف والتقرّب منه. ولكن كيف؟ التقرب ينقل العدوى، أليس كذلك؟ ربما كنت تعني اللمس، أو أنه تعبير مجازي. عليك أن تحدّد، فلن تنفعك الألغاز، منذ ساعة وأنت تتهرب من أيّ سؤال أطرحه عليك. هاك، لقد فكرت بالأمر، أنت تريد أن تستغني حتى عن تلك الأمور الصغيرة التي كانت تمنحني بعض السعادة، مثل إصلاح درف الخزانة، سقي النباتات وتنظيف رمل القطط. إنما الأمور تتغير بسرعة، هذا ما أحس به، ولا علاقة لكورونا بالأمر.
يمكننا دائماً أن نكون سعداء، حتى في اللحظات الحرجة، يكفي أن تنسى قليلاً، ولنفترض بأنك لا تستطيع أن تنسى الحروب وآلام الناس في بلدك، فمن الطبيعي أن يشعر المرء بآلام الآخرين، ولكن على شرط أن لا يجعل من ذلك مناحة تملأ القلوب بالغم وتجعل سهوب النفس أرضاً قاحلة. ها نحن، ها هي السماء تطفح بالنجوم، وبعد قليل، في الساعة التاسعة، سنغني مع الجميع “بيللا تشاو… تشاو… تشاو”، ثم نتفرج على فيلم السهرة، وبعد ذلك سنخلد إلى اليوم. كل ما هنالك، هو أن تعرف كيف تنظّم برنامجك اليومي، بلا تهويمات وأفكار لا نعرف بعد ذلك كيف نتخلص منها!
غرفة المعيشة
عندما يسري الزمن في شكله الاعتيادي والآلي، يتسلّل خطر العيش بلا فكر. في مجتمع مثل مجتمعنا المعاصر، المبرمج بالإيقاع، تبدو حياة الإنسان مرتهنة بإرادات خارجية، ليس من أشخاص آخرين، إنّما من آلية غير شخصية، الوسيلة نفسها التي نستعملها اليوم كإمكانية في التواصل الاستثنائي مع الآخرين. الإنسان نشط دائماً حتى في الثبات. إننا أمام ضربة مباغتة وكارثية، ليس فيما يخص الوقت فحسب، ولكن انهيار النظام الاجتماعي برمّته. أي خلل ينسف حياتنا من أساسها: العمل، الراتب، الفواتير، العائلة، المواد الغذائية. والمشكلة الأساس هي الريموت كونترول. من يجرؤ؟ فلنحاول.
أتكلّم بخفوت، مع إضفاء لمسة حنان على صوتي المزعزع: يا حبذا لو تنتقلي إلى القناة الثالثة، ثمة فيلم جميل. أي فيلم؟ ترد بحدّة، وهذا يعني الرفض. فيلم “الطريق” لفيلليني. وتريدني أن أشاهد فيلماً من عصر الكوكو؟ حسناً، نتابع الفيلم التلفزيوني الأميركي. عشرات القتلى خلال دقائق، كميات كبيرة من القهوة ووقفات طويلة أمام بائع الهوت دوك في شوارع نيويورك، هارلم بالضبط.
المشهد الأخير، نتابعه بصمت، حياكة الصوف وقراءة قصص قصيرة جمعها هيتشكوك في كتاب جيب، أشعر بارتياح كبير بعد قراءة القصة الأولى، الثلاثي الكلاسيكي: الزوج والزوجة وعشيقها. الزوج يفكر بحلّ مثالي، يأتي بثلاث زجاجات من النبيذ، إحداها مسمومة، ويطرح احتمالات البقاء: أنا وأنتِ، هو وأنتِ، أنا وهو. يوافقون بعد تردد، ينتقي كل واحد زجاجته، ويتفقان على موعد اللقاء في مقهى قريب. في اليوم التالي، تحضر الزوجة وهي تتلهف للقاء عشيقها، فتجد أن من ينتظرها كان زوجها. أرأيتِ؟ أبادرها، زجاجات النبيذ لم تكن مسمومة، والعشيق اختفى عن الأنظار، لأنه لم يجرؤ على شرب زجاجته.
لقد خدعونا بنفس الطريقة دائماً، منذ الثورة العربية الكبرى. ولا زالوا يخدعونكم، تجيب بتشفٍّ، ألا تذكر عندما باعوك نظارات يمكنك أن تشاهد من خلال عدساتها النساء عاريات! صحيح، ولكن الشركة البائعة أفحمتني عندما اعترضتُ. كيف؟ لقد أكّدت أنه يكفي أن أستخدم خيالي، فالنظارات مجرد حافز ليس إلّا!
غرفة النوم
ملجأ العواطف الرتيبة وهمسات الأيام الأولى التي تشرّبتها الجدران وطفحت هنا وهناك كبقع من الرطوبة لا يمكن إزالتها بأيّ منظف. تعود بنا الأيام إلى الوراء، ولكننا قلّما نتذكر أسعد اللحظات. بل نختلف فيما إذا كانت تلك التي شهدناها بعد احتفالنا بعيد زواجنا الأول، أو بعد تلك المشاجرة العنيفة التي انتهت بالتصاق أجسادنا في عناق طويل كتبت بعدها في دفتر يومياتي: إنها العاصفة البحرية الأولى التي تحدث على اليابسة. حتى أن هذه العبارة لا زالت تضحكني حتى الآن. الوسائد تتباعد تلقائياً، وأيّ كحة بسيطة تبعث على الشك. انهض واشرب جرعة من الماء. هل حرارتك مرتفعة؟ هل تشعر بالدوار؟ انتظر، لا تنم، سأجلب مقياس الحرارة. بعد كل غفوة، نستيقظ ونروي كوابيسنا لبعضنا البعض.
كانت بيوت داكنة، تقتات من الظلً، وفي ذروة الشجرة كان يقبع بوم كبير، ينادي الريح، فأتت العاصفة وجرفت خمسة بيوت وبقي القمر معلقا على غصن شجرة. نتناول كتاب تفسير الأحلام ونبحث عن مغزى البوم والريح والعاصفة، ولكننا لا نجد أثراً لمغزى القمر المعلق على غصن شجرة.
إنه الخوف الناشئ عن الفايروس، الذي سيبقى معلقاً دائماً في كل ركن من كوابيسنا، كما حدث معي عندما وجدت ذلك القزم الأخضر الذي يأكل قشور البطيخ في أرض البيدر. ثم أخذ يلاحق الناس بالمذراة، ووصلت صرخات النساء إلى السماء، فانهمر مطر غزير وتدفقت السيول في كل مكان. إنه هو بلا شك، أكدّتْ قبل أن نغفو ثانية.
التواصل الخارجي: نحن بخير، وأنتم؟
إن ألطف الاتصالات هي تلك التي تحدث بعد منتصف الليل، أو بالضبط ما بين الساعة الواحدة والثالثة. يأتيك الصوت بين الجدّ والهزل من الطرف الثاني: لقد أردنا أن نطمئن عليك، طالما أننا “سهرانين”! تعود بي الذاكرة إلى تلك العادة الخبيثة التي كنا نقابل بها أولاد الموظفين أو الشرطة القادمين من محافظات أخرى، عندما كنا نرافقهم في جولة إلى الأماكن التي حدثت فيها جرائم أو مشاجرات عنيفة أدت إلى جرح وكسر عظام العشرات، لإخافتهم فحسب.
أبدأ بقراءة النشرة حالاً: اليوم الـ21 من آذار 2020، عدد ضحايا فايروس كورونا في إيطاليا 793 شخصاً، ليزداد بعد النشرة الإخبارية التالية، بعد ثلاث ساعات تقريباً، إلى 810 أشخاص. 535 منهم في لومبارديا، المقاطعة التي أعيش فيها. أسمع من الطرف الآخر عبارات التعجّب وصفير طويل، يتبعه صوت نسائي: يا لطيييييييييييف! وما العمل؟ يلتقط المحادثة قريب آخر. لا شيء، ستبقى الأمور هكذا، وتقديرات الخبراء تقول بأن العدوى يمكن أن تقضي على حياة الملايين من الأشخاص. مرة أخرى يا لطيييف! بعد عشر دقائق تقريباً، أضيع بين الأصوات، ولا أعرف بالضبط مع من أتكلم، حتى أن أحدهم يصيح كما لو أنه يؤنبني: كيف لا تعرفني، أنا ابن الحاج محمد، بيتنا بجانب البازار!
يؤلمني كل هذا التلهف، أشعل الضوء وأتناول أول كتاب تصله يدي، وأبدأ بالقراءة. يبدأ ذهني بتحليل هذا الشغف البريء تجاه الموت والحياة. لعلّي أخطأت، فهم ينظرون إلى الشمال بقدسية ترسبت في قلوبهم منذ اكتشاف الراديو والتلفزيون وظهور أول طائرة حربية في سماء بلدتنا. حتى جموع بحالها، ما بين الكبار والصغار، كانوا يهرولون نحو ساحة انطلاق الباصات لرؤية سائح أوربي أو أميركي، ليتفرجوا على “الحضارة” ويعاينوه هو وألبسته من رأسه إلى أخمص قدميه. بينما هو ينظر إليهم كإنديانا جونز قبل أن يتلقّف سوطه ويأتي بتلك الحركة التي تخيف البشر والحيوانات.
تتواصل الاتصالات، ويبزغ الفجر محمولاً على أكتاف الضباب، وشعاع طفيف يلمس قلبي فأرتعش وأحنّ إلى سريري، لكن الضوضاء لا تلبث أن تغطي على السكينة المبللة بالندى، إنهم يتبادلون تحية الصباح، وآخرون يحملون ماكينة القهوة بيد ويلوّحون باليد الأخرى للجيران الذين خرجوا لفسحة الكلاب. عواء وضحكات وعبارات تأنيب من أولئك المتزمتين الذين يجدون في هذا الخرق لقانون العزل، بداية النهاية للبشرية.
موكب الشاحنات العسكرية
أمد أصابعي لأتلقف تلك الصورة. ما زلنا نصعد. شاحنات الزيل الروسية تئن وإحداها تتوقف عند بعلشمية، قبل عدة كيلومترات من بحمدون. حرّك.. حرّك، يصيح الضابط من الأمام. ينزل السائق، يرفع بنطاله، ويهمهم ببعض الكلمات. يدي تصل إلى الشرفة، تمسك بمزهرية الفخار وتلقيها في الشارع. شخص ما يدخل الصالة، يناديني. أقف باستعداد وأعلن عن رتبتي ورقمي العسكري. يسألني عن الحمولة: ستة عشر صندوقا، والبقية في الشاحنات الأخرى، يا سيدي. سجّل أسماءهم، أريدهم أن يتحركوا فوراً. لكن الشاحنة التي في المقدمة تعطلت. دعهم يمشون، ليس لدينا وقت. يشتم ويلعن، ثم يختفي في الفرن الذي صادرناه قبل أيام.
الجنود ينزلون الصناديق على الأرض، يفتحونها، وأحدهم يصيح: قوموا ولاك، أمر عسكري، بدنا نروح مشي عالشام. عالشام وإلا على بيرغامو؟ يسأل جندي ضئيل البنية. يضحك الآخرون. أضع الصورة على حافة الطاولة، وأحرك بالملعقة الخشبية صلصة البندورة. أسمع صوت زوجتي من غرفة المعيشة: لا تشرد مع ذكرياتك، وإلا ستحترق الصلصة! ينطلق الموكب من بيرغامو في صمت الليل، ونحن نتبعهم. لاجئون سوريون؟ ربما! يرتفع صوت شرطي من الحاجز الذي يفصل ما بين بيرغامو العليا وبيرغامو السفلى. نحن قادمون من لبنان، يجيب الضابط، نحمل “البضاعة” نفسها لكننا فقدنا الطريق.
بكاء الممرضات
في الجناح الأقصى للمستشفى، يتردّد صدى نحيب خافت. هالات سوداء تركتها الكمامات والنظارات الواقية حول العينين والأنف والفم. نتفرج على الصور والفيديوهات، ونتقاسمها مع الأصدقاء. جمالهن الشاحب والعيون التي تخبئ الألم، تتراءى لنا مثل جيش من المحاربات اللاتي فقدن المعركة وهنّ الآن في طريقهن للبحث عن جواب لكل هذه المعاناة. إنه جمال من نوع آخر، الوجوه الشاحبة وتلك النظرة التائهة نحو اللاشيء، تلتمس أيّ موضع لتلقي فيه جسدها المنهك، وربما تنتظر ما هو أكثر من ذلك.
نتبادل أكثر من نظرة عبر شاشات الخليوي، نتحدث عنهم، نمدح بطولاتهم، وفوق كل شيء، نقارن بينهم وبين الجلادين الذين، ربما بدورهم، يضعون الآن الكمامات أثناء تعذيب المعتقلين. هم أيضاً يخافون من فايروس كورونا، نقول وكأنما نعزّي أنفسنا، على الرغم من يقيننا أن الشي الوحيد الذي يمكن أن يخيفهم وبقوة، هو قاعة المحكمة.
انحلال الصمت
هذا ليس لقائي الأول بالصمت، فأنا أعرف كل أسراره، وعبثاً يحاول الآن تضليلي بهمساته الكئيبة، وبحركاته التي لا يسمع منها سوى صدى بعيد لا ينتمي إلى هذا العالم. كلما استنبطت معانيه، يزداد غموضاً، ليست له ذاكرة، فهو ولد هكذا، بلا ضجيج، ولم يشعر حتى بألم المخاض. نحن الآن نعيش على ضفافه، نغدو جيئة وذهاباً بين ظلاله الوارفة، ولا أحد منا يشعر بالآخر. تلتف أطيافه الرصاصية على الردهة، وتتسلل ببطء إلى أركان البيت، ليحجب أدق الأصوات.
للحظة لا أسمع ولا أرى، أتوكأ على ما تبقى من قوتي، وأذهب إلى الشرفة. الريح والطيور والسحب، كلها تتجمع هناك، على المرج الأخضر، ولا تجد طفلاً في حديقة الألعاب. لقد مرّ من هناك أيضاً، وطغى على كل قطعة من الطبيعة بوطأته الثقيلة. المباني والأشجار والطرقات والحقول. إنه يثير فيّ شعوراً قوياً بالرهبة، وكل ما أسمعه الآن هو تدفق الأفكار التي تسكنني.
تنغلق نافذة البصر وتنفتح نافذة الرؤية الداخلية. لقد تمكن الصمت من أن يثبتني في مكان لم يعد بوسعي الخروج منه. إلا أنه في لحظة خارقة، من تلك التي تعشش في القلب لمدة طويلة، تخرج صرخة لا يتحملها حتى الجسد المرتخي على كرسي الخيزران بعد وجبة دسمة، وتنسف السكون من أساسه. لا أعرف كيف تذكرت ذلك، ثمة دندنة أو ربما كلمة بقيت مهملة في ركن قصيّ من نفسي هي التي جعلتني أنهض بتلك القوة وأبحث بين الكاسيتات التي احتفظ بها منذ سنين طويلة. في الحقيقة، ما أبحث عنه، كان هناك في علبة القصدير المستطيلة، ولكن أيّ واحد منها. في النهاية، وقع نظري على كاسيت عتيق، ربما الوحيد الذي لا يحمل أيّ اسم. وضعته بتلهف في المسجلّة وضغطت على زر التسجيل. مرت ثوان دون أن يُسمع أيّ صوت، ما عدا بعض الخشخشات وتمتمات غامضة. كدت أفقد صبري عندما هدر صوت دافئ، كأنه قادم من أماكن طفولتي. في تلك اللحظة، بدأت أعي نفسي وجلست أنظر إلى الجدران ببهجة لا مثيل لها، بينما الصمت ينحلّ إلى ذرّات من البخار الفضي، وينسل بهدوء من شقوق باب الشرفة.