أين يكون الشاعر عندما يكتب الشعر
من ضمن ما تتعرض له حنة أرندت في كتابها “حياة العقل” خلاص الفيلسوف عبر الموت للتفرغ بدون أعباء الجسد لنشاط الذهن واستعمال الحواس لغايات أسمى أو أبعد من مجرد السمع أو النظر بطريقة متوحشة/بدائية، بدون انعكاسات على عملية التفكير والتحليل.
الموت كفاصل بين الجسد، المتطلب للعناية وذي الحاجات البيولوجية، والذات المفكرة يتيح أيضا الغياب عن الموجودين المستهلكين للجُهْدِ في منأى عن الانخراط معهم في واجبات والتزامات.
الحاجة للتفكير والفهم والاستيعاب ملحّة عند الفيلسوف. ومن سقراط الذي واجه الآخرين بالسؤال تلو الآخر وحرّك زوابع انتقادات وفوضى في الرؤوس مرورًا بمن دفعوا بعده بأجيالٍ عمرهم ثمنا لثمار فكرهم إلى الآن فإنّ استغراق الفيلسوف في نشاطه الذهنيّ وابتعاده عن مظاهر وممارسات اجتماعية، قد تكون من الأولويات عند غيره، لم يتغير.
حنّة أرندت طبعا من أفضل من يمكنهم الحديث عن موضوع كهذا فهي صديقة هايدغر الحميمة وكارل ياسبرس. وهي التي اقتربت بعين الدارسة من والتر بنيامين، ودأبت على التفكير والتحليل والشرح حتى آخر أيام حياتها الحافلة بالعطاء.
لا أقصد أن أتوه في الحديث عن بطلة من أبطال الفكر، لأنّ نيّتي كانت الخوض في علاقة الشاعر بعالم الموتى، أو لأكن أكثر قربا ممّا يجول في نفسي ولأقول “كون الموتى”. الشاعر حتّى وإن لم يتوحد في الفيلسوف، فإنّه غير بعيد عنه في حاجته إلى التحرّر ممّا يعيق حركته نحو ما يناديه.
إنّ الشاعر ذو مزاج آخر، خاصٍّ ورفيع، إذْ تذهب حوّاسه أيضا أبعد، وتتجاوز مهامها الأولى. إنّه يرى ويؤطر الصورة، يدخل فيها، يستكشفها ويجمعها في حقيبته الذهنية، يسمع وتتجاذبه الأصوات، وقد تكون في رفقها به لا تقلّ شراسة عن أغاني الحوريات لأوديسوس المعلق على سارية السفينة، قد يلمس كالأعمى يرى ببصيرته أو تشعل حنينه رائحة أو مذاق حفظ تركيبته فأفاض عليه التخيلات والذكريات.
أين يكون الشاعر عندما يكتب الشّعر؟ من الأسئلة المبتذلة التي نصادفها مرارًا أن يسأل الشّعراء، الكُتّاب بصفة عامة، عن طقوس الكتابة عندهم؛ باعتبار الكتابة ربّما انتقالاً إلى جوٍّ خاصّ فيه استحضار لشخصيات وظروف أخرى أو لتشابه محسوس وغير مُعْلَنٍ عنه بين الشاعر/الكاتب، وبين السّاحر المُدْهِش أو الغامض.
والحقيقة أن قراءة الشعر تحديدا تدفعنا للتساؤل عن مكان الشاعر أثناء كتابته لقصيدته، وعن وعيه بالمكان الذي كان فيه. قد يبدو التعبير غريبا ويتطلب توضيحا ربّما. أستعين بقصيدة لسيزار باييخو، على سبيل المثال، يقول مطلعها “الآن، بيننا، هنا/ تعال معي، أمسك بِيَدِكَ جسدك/وهيّا نتعشّى معًا/نمنح الحياة لحظة/لحياتين ونمنح قِسْمًا لموتنا/ الآن، تعال معك/قدّم لي معروفا/لأتعاطف معك باسمي/وفي ضوء الليلة الضبابية الداكنة/التي تمسك فيها بِيَدِكَ روحك/ونهرب على رؤوس أصابعنا من أنفسنا/ تعال إليّ، أَجَلْ وإليك، أجل/بخطوة ثنائية، لنرى كيف نحدد نحن الاثنين الوداع/بخطوة مفردة/حتى نعود! حتى المرّة القادمة!
أين كان سيزار باييخو هنا، بل أيّ هُنَا سبقه إلى قصيدته المعنونة بـ”تصفيقِ يد وقيثار”؟ إنّنا نُوَاجَهُ في الكثير من القصائد بعوالم مختلفة المنطق، غير متوقعة، تشدّنا وكأنّنا نريد الوصول إليها، أو على الأقل استيعاب أجوائها وحالة الشاعر فيها. يبدو وكأنّنا نندهش أو نحتار بما يفعله الشاعر بمفردات متداولة أو لغة مألوفة يُدْخِلُهَا في أنساق غير معهودة.
هناك مقولة قد تعود لهايدغر أو لزمن قديم سبقه مفادها أن ”مَا لاَ يَتْرُكُ نَفْسَهُ يُقَالُ يَظْهَرُ ” ندخل بها إلى إمكانية أن يكون ما قاله الشاعر هو ما ظهر له، وبعد أن كان قوله عصّيا ومتعذرا تحوّل شِعْرًا. كما يتحوّل حزن لدمع أو انفعال قاهر آخر لحركة عنيفة أو امتنان لاحتضان.
لكن ما هذا العصيّ عن القول الذي يتحول لشعر غامض، يختلط فيه المستقبل بالماضي والحاضر ومع ذلك يظل قريبا من نفس القارئ وما الذي يجعله غريبا قريبا؟
الرغبة في الخلاص، أو تلك الحاجة الملحّة إلى الحرية، التي تشبه في إلحاحها الحاجة للتفكير عند الفيلسوف، أوّل ما يعيقها، في نظري، هو محور الزمان والمكان الذي قد يُثَبِّتُ الشاعر بما يشبه الإحداثيات في عالم يشتهيه هو بلا حدود أو قيود، أو على الأقل يستهويه هو بما لا ينطفئ فيه من طفولة نبيلة استكشافه دون أن يُفْرَض عليه المسار، إلى المُستقبل كما يحكم الزمن؛ ومن خلال مكانه المرتبط بظروف حياته والتزاماتها، والذي قد يكون مغايرًا تماما أو بعيدا جدًّا عن أمكنته الأولى، أو أمكنته الأحبّ التي يتمناها في أجمل حالٍ.
من قصيدة المنفي للشاعر المغربي محمد أنوار نقرأ “لأنِّي لم أجدْ كهفاً/أميلُ على مَداخلهِ/ولا بئراً/أُنزَّلُ خِلْسةً/في لَيلها/أو هُدهداً نَبِهاً/يُزوِّدُني بأنْباءِ الخُلودِ/… لأنَّ في قَلقي دَم الموْتى/أظلُّ الوقتَ منفيًّا/وراءَ الضَّوءِ”.
الشاعر من موقعه في كتابة الشعر خارجٌ إلى كون جديد يشبه كون الموتى غير المعترف بحواجز الزمن والمكان. إنه متحرر في رحلته ويتملّك اللغة. لا يزعجها معه أن تتكسّر علاقات المفردات ببعضها في قصيدته، وأن تلبس هذه الأخيرة معاني ودلالات أخرى تحتملها.
لا يضيع الشاعر بوصلته داخل القصيدة ولا يتجاوز المنطق إلاّ وهو يخلق للقصيدة منطقها الذي نجد القارئ يقبله ويُقْبِلُ عليه. مزودا بذكرياته وعاطفته وتجاربه، إن خرج عن الواقع فإنه يحافظ على التناغم فيحفظ الجمال ولا يتطرف للجنون.
في مختلف المواقف الشّديدة التي تبدو في وقتها قُصوية مُرْبِكَة للعاطفة تظهر اللغة كأنها تخذل وتخون أو بتعبير متداول عاجزة، لكن انتقال الشاعر إلى مجال أبعد يسمح له بالتّكلم كالرّائي أو التساؤل كالأرواح التي مرّت بتجاربها؛ حرًّا يأخذ الشاعر فرصته في جعل الشّعر صوته الذي يتحدث به ويفتحُ له باب المرور إلى الآخرين من كينونته وآلامه أو معاناته أو حتى نشوته التي قد تتوحد مع آلام آخرين ونشوتهم.