إحالة البشرية على التقاعد

الثلاثاء 2015/12/01

يبدو العالم اليوم بحاجة ماسة إلى فلسفة اقتصادية جديدة، توازي أو تزيد على ظهور الفلسفتين الرأسمالية والاشتراكية، لأن الآلات ستحيل “جميع سكان العالم” إلى البطالة في وقت قريب.

المصنع الذي كان ينتج ألف سيارة بتشغيل ألف عامل، أصبح ينتج 10 آلاف سيارة بتشغيل 100 عامل، وقد ينتج أكثر من ذلك قريبا باستخدام الروبوتات فقط.

تلك مجرد أرقام افتراضية لها مرادفات كثيرة في جميع أنواع النشاطات الصناعية والخدمية والزراعية، وهو إيقاع عالمي يفرضه التطور التكنولوجي والمنافسة الشرسة بين الشركات. وستتمكن الروبوتات من إنتاج روبوتات جديدة.

قد ينجو قطاع الترفيه نسبيا، لكن الروبوتات ستتسلل لبيع التذاكر وخدمة المطاعم والمقاهي والحانات والمسارح.

وقد تتحول الأفلام والبرامج التلفزيونية إلى شخصيات افتراضية يحركها الكومبيوتر بعد أخذ صور ثلاثية الأبعاد للممثل، وقد يتم الاستغناء عن ذلك بتشكيل كائنات افتراضية لاحقا لخفض التكاليف.

الأسواق تستبدل البائعين بالآلات والقطارات تسير بلا سائق والروبوتات تزرع وتحصد المحاصيل وترعى الماشية، والصحف والمجلات والكتب تباع بشكل متزايد إلكترونيا والمصارف تجري معظم تعاملاتها عن طريق الإنترنت.

أما الطباعة ثلاثية الأبعاد فأصبح باستطاعتها طباعة أيّ جسم مادي، وقد بدأت بطباعة البيوت والعمارات، أي أن الشركة تصمّم البيت وتبدأ بطباعة آلاف النسخ منه، دون حاجة إلى الأيدي العاملة.

الأمثلة كثيرة، والقاسم المشترك هو شطب المزيد من الوظائف، في وقت تتزايد فيه مطالب الشعوب وغضبها وثوراتها.

وإذ تجد الدول نفسها في حفرة عميقة، فإنها تبدو مضطرة لمواصلة الحفر! فهي تتنافس في خفض الضرائب لاستقطاب الاستثمارات، ما يؤدي لتراجع عوائد الضرائب والموازنة المتاحة للإنفاق على العاطلين وبرامج الرعاية الاجتماعية.

انفجار معدلات البطالة يبدو حتميا مع تطور التكنولوجيا وحلول الآلات محل البشر، والفجوة بين الأثرياء والفقراء في اتساع متزايد حتما، وستنخفض نسبة الأشخاص الذين تحتاجهم عجلة الإنتاج يوما بعد يوم.

لا يبدو أن أيّا من حكومات العالم تدرك اليوم أن المشكلة في تفاقم حتمي ومتواصل، وأن السياسات الاقتصادية الحالية لن تتمكن من إيجاد حلول قابلة للتطبيق، وأن جميع الفلسفات والأفكار الاقتصادية لم تعد تجدي نفعا مع هذا الواقع.

الاستثناء الوحيد هو زعيم المعارضة الإيطالي بيبي غريللو، الذي قال قبل أسابيع بجدية ساخرة، في عرضه لبرنامج حزبه للحكم، إنه ينبغي أن يحصل المواطنون على دخل أساسي من الدولة وألا يضطروا للعمل من أجل المعيشة إطلاقا.

تصريح الممثل الكوميدي الايطالي، الذي اكتسح الساحة السياسية الايطالية، يمكن اعتباره رؤيا مستقبلية ستثبت الأيام دقتها، رغم أن البعض يصفه بالمهرّج.

ذلك المهرّج قفز في وقت أوروبي وعالمي حرج ليؤسس “حزب الخمس نجوم” ويصبح صاحب الكتلة البرلمانية الثانية في البرلمان الإيطالي، والذي تتزايد شعبيته، وترشّحه استطلاعات الرأي للحصول على الأغلبية وتشكيل الحكومة.

لا يبدو لي برنامج غريللو، الذي يرتكز على تقديم ضمان بوجود دخل أساسي لكل مواطن، ضربا من التهريج، بل هو نبوءة لما سيؤول إليه العالم في العقود المقبلة.

العالم اليوم بحاجة ماسة إلى فلسفة اقتصادية جديدة، توازي ظهور الفلسفتين الرأسمالية والاشتراكية. لكن ظهور تلك الفلسفة قد لا يكون كافيا، إلى أن تبادر دولة مغامرة بتطبيقها، مع ما قد يصاحب ذلك من مخاض عسير ومكلف في المرحلة التجريبية.

كيف إذن ستتمكن الحكومات في المستقبل من إعالة معظم سكّانها العاطلين وكبار السن، دون فرض ضرائب قاتلة قد تدفع جميع المستثمرين والشركات للهروب إلى دول أخرى؟

في بريطانيا أثار قبل أشهر قرار مترو أنفاق لندن تشغيل قطارات جديدة دون سائق والاستغناء عن جميع موظفي بيع التذاكر، جدلا واسعا، لأنه سيعني تسريح أعداد كبيرة من العاملين في وقت تشد فيه الحكومة أحزمة التقشف وتقوم بتقليص الإعانات الاجتماعية.

كيف إذن سيتم توزيع الدخل والثروة لإنعاش الطلب الذي دونه يدخل الاقتصاد في دوامة الركود؟

حتى الآن لا يبدو أن هناك ما يمكن مناقشته في أيّ بلد في العالم لتغيير الاتجاه المستقبلي لارتفاع البطالة على المدى البعيد، والتي ستسير حتما في اتجاه واحد.

الحل الوحيد الذي اعتمدته الدول على مدى عقود هو الاقتراض لتقديم الإعانات الاجتماعية لجيوش العاطلين. وكان ذلك أحد أسباب أزمة الديون التي فجّرت الأزمة المالية العالمية عام 2008.

واليوم تتجه الحكومات في الاتجاه المعاكس أي لخفض الإنفاق وتقليل الإعانات وتسريح موظفي القطاع العام وشد أحزمة التقشف، الأمر الذي سيزيد جيوش العاطلين، التي تنذر بحدوث اضطرابات كبيرة.

كرة الثلج تتدحرج وهي تكبر يوما بعد يوم، لكن جميع حكومات العالم تبدو مجبرة على التسابق إلى الهاوية في ذات اللعبة وبقوانينها العتيقة، التي لم تعد صالحة في واقع جديد تتناسل فيه جيوش العاطلين وتتعطل فيه الدورة الدموية للاقتصاد.

لن تتمكن دولة بمفردها من زيادة الضرائب على الأقلية العاملة إلى مستويات فلكية، لإعالة الأغلبية العاطلة، إلا إذا تزايد تقارب وتوحيد السياسات والضوابط العالمية الموحدة، لتسمح بظهور فلسفة اقتصادية جديدة تطبّق على مستوى العالم.

مهما كانت الحكومات سخية مع العاطلين فإنها لن تتمكن من إطفاء سخطهم وثوراتهم المحتملة، إلا إذا عثرت على قطاعات جديدة لتشغيلهم، حتى لو تطلّب ذلك خداعهم بوظائف غير مجدية اقتصاديا، مثل نقل الرمال من مكان إلى آخر ثم إعادتها وتكرار العملية باستمرار. مجرد مثال ساخر بانتظار فلسفة جديدة توقف كرة البطالة المتدحرجة، التي تكبر يوما بعد يوم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.