إشراقات

سالار عبده
تخطيط: سارة عوض

1

“كم سعر هذه الفأس الدنماركية؟”.

حاولت ربيعة أن تهمس بكلماتها للتاجر، لكن المدينة المتضوّرة جوعا كانت كلها آذانا صاغية، وكان على ربيعة أن تعرف ذلك بشكل أفضل. رجال مدينة عكا المحاصرة أحاطوا بمرورها. رجال بعيون جائعة كانوا قد قدموا إلى السوق المهجورة أملا في أكثر من مجرد نفحة بعيدة من اللحم البشري المشوي؛ إنهم كانوا يريدون اللحمَ نفسه.

أصرّت ربيعة على موقفها “حسنا”، مخاطبة الرجل الذي كان قد جلس القرفصاء، وأخذ يرمقها بنظرات محبطة كما لو أن شخصا اكتشف أنه وضع الرهان على الحصان الخطأ. في ذلك الوقت كانت ربيعة تحدثت بصوت عال بما فيه الكفاية، ما جعل الكلّ يعرف أن سؤالها عن الفأس لم يكن سخيفا كما ظنوا. “قيل إن ریتشارد قلب الأسد كان يحمل فأسا تشبهها تماما. أريد أن أعرف وزن هذه الفأس″.

ردّ البائع المفجوع “آنستي، أتريدين أن تزني السلاح أم تريدين أن تشتري؟”.

“أريد أن…”.

لم يتسنّ لربيعة أن تكمل حديثها. “تريدين ماذا؟” في أوقات الهزال هذه، شقت امرأةٌ ببعض اللحم الغريب في جسدها، طريقَها بين الرجال، ووقفت رامقة ربيعة. كانت تتحدث بلهجة دمشقية، وكأنها ارتدت الكراهية كسلاح.

قالت “كل يوم يقتلنا النصارى بالمئات. وأنتِ تريدين فأسا تشبه ما يستخدمه ريتشارد، ملك إنكلترا، لتدميرنا؟” ثم استدارت نحو الحشد الكثيف “يا رجال عكا، هذه المرأة، جاسوسة”.

تناولتْ ربيعة الفأس، وحملتْها. كانت أثقل ممّا ظنّت. لم يكن أي نوع من الأسلحة غريبا على ربيعة، إلا أن هذه… كانت كما لو أنها تحاول أن تؤرجح رجلا محكم الجسد بذراعين ممتدّتين.

قالت المرأة محذّرة “هذه الفأس لا تخيفنا”.

“أنا لا أحتاج فأسا كي أخيفكم”.

وتصاعدت همهمة. من أجل حدس غامض ليس إلا، تسللت ربيعة سالكة الطريق من بين ثلاثة جيوش متهورة لتبلغ عكا. والآن، وهي أصبحت هنا، تجد نفسها مكشوفة في مواجهة حمقاء مع امرأة أخرى، بينما رجال المدينة واقفون هناك مثل أشباح منتظرين الفرنكيين ليخترقوا الأسوار في النهاية، ويسجّلوا نهايتهم.

وما لبث أن تحوّل رذاذ من كرات النفتا الهاطل من معسكر غي دي لوزينيان على سوق البهارات إلى عاصفة من البرَد، وأحاطت بما تبقى من المنطقة المشتعلة بالنيران.

لم يعِرْ أحد اهتماما للعاصفة، بل كانوا أكثر رغبة في متابعة ربيعة وخصمها. كما أن رجلا بنظرات مريضة أخذ في وضع الرهانات.

“دعوا الامرأتين تتصارعان. الخاسرة منهما، سوف نأخذها لنشويها!”.

وضعتْ ربيعة الفأس أرضا. هل جاءت إلى عكا لتكون محل الانتباه؟

قالت “أعتذر؛ لينعم الله السلطان صلاح الدين، وليعينه على هزيمة النصارى. أنتم على حق. ولعنة الله على ريتشارد، ملك إنكلترا”. وأخذت تتراجع بخطواتها.

“دعونا نفترس هذه العاهرة!”.

وبدأ الصراع. انقضّت المرأة على حنجرة ربيعة. اتخذت ربيعةُ خطوة إلى جانب، وفي لحظة واحدة فقط، أمسكتْ بذراع غريمتها اليمنى الممدودة بقبضة عكسية خُراسانية، ثم باستخدام استدارة وركيْها أجّجت الزخم لدى مهاجمتها، فأرسلت الدمشقيةَ نحو الجدار الحارق بشقلبة هوائية. ضحك بضعة من الرجال. بينما الآخرون، وربما كانوا أتراكا يعرفون شيئا عن فن المصارعة، نظروا ببعض الرهبة إلى الدقة التي رافقت الحركة التي نفّذتها. آخر ما كانت تفكّر به ربيعة هو أن تقوم بعرض لهؤلاء القوم، ولكنها الآن كانت قد فعلت ذلك، فلعنتْ نفسها.

شرع الحشدُ بتشكيل دائرة حولها. كانت عكا تحترق؛ وتموت. ومع ذلك، كل ما كان يريده أهلها المعتوهون من الجوع، هو الترفيه وحسب.

فكّرت ربيعة لو كان جدار خلفها، لربما كان بإمكانها صدّهم لبعض الوقت، ولكن، لا أحد يستطيع صدّ عدد كبير من الرجال أيضا بعد مدّة معينة. لا أحد، نعم، سوى حيدر العظيم الذي علّمها حركات المصارعة الأساسية التسعَ والتسعين، دون طلب أي شيء في المقابل. فكرت ربيعة ماذا كان ليفعل حيدر العظيم الآن مقابل المهاجمين الاثنين والثلاثة والأربعة القادمين نحوها.

كان الرجال يحملون خناجر صغيرة، ويضحكون وهم قادمون. وربيعة كانت متأهبة تماما. سحبت خنجرها الثمين المرصع بالجواهر المهدى إليها من حيدر. أبطلتْ مفعول سكين في يد رجل هنا، ولوَت ودفعت يدا أخرى هناك، تراجعت واندفعت إلى الأمام، ودأبت مستمرّة في تدوير ذراعيها من أجل الحفاظ على دائرة دفاعية حول نفسها. ومع ذلك، سريعا ما تعبت. كانت تعرف ذلك. من بين كل الطرق الغبية للموت في العالم، لا بد أن تكون هذه الأكثر غباء على الإطلاق؛ لا شيء أكثر من معركة فأس دنماركية، سلاح كان غريبا بالنسبة إليها بقدر ما كانت الجدائل الشّقراء للصليبيين.

ثم حدث شيء ما. اشتعلت نيران وسط الصراع تحديدا. تراجع الرجال، والقتال كان يتضاءل فجأة. أحد ما كان يصرخ أن الفرنكيين ارتكبوا خرقا في البرج الملعون. وقبل أن تعرف ربيعة ذلك، وجدت نفسها مندفعة جهة أسوار البحر والبرج.

نظرتْ إلى جانبها الأيسر ورأت رجلا راكضا بمحاذاتها. لم يكن أحد المهاجمين، رجل برداء بنّيّ، وجبهة طويلة بشكل غريب. لم يرفع الرجل عينيه عنها لحظة.

توقفت ربيعة لاهثة. وكذلك فعل الرجل.

“إذن، لقد وجدني شيخ الجبل، أليس كذلك؟”.

طأطأ الرجل رأسه مؤيدا.

“وأنت دايٌ بُعثتَ من قبله؟”.

طأطأ الرجل رأسه ثانية.

“ومن المؤكد أنك أشعلت النار في السوق لتنقذني، أليس كذلك؟”.

“كنا سمعنا أن ربيعة أكثر حكمة بكثير من أن تبدأ قتالا لا يمكنها الفوز فيه”.

لم ترَ داعيا لتوضح للداي صاحب اللهجة الفارسية أن الخطأ لم يكن خطأها. وعلى أي حال، لم تلتقِ قط دايا يتقبل التوضيحَ بسهولة. كان هناك رجال مدرّبون شتى، متنكّرين دائما، يعملون دائما تحت قيادة شيخ الجبل. أخذوا تعاليمه إلى مختلف الأرجاء، واستَقطبوا أشخاصا مستعدين للموت بمجرد كلمات ينبس بها.

قالت “يشرفني أن ألتقي بأحد رجال شيخ الجبل”. لم يعنِ الأمرُ ربيعةَ، إلا أنه قول كان لا بد منه. أشارت إلى حصون البحر قائلة “تلك الجهة. لدي مكان يمكِننا الحديث فيه بسلام”.

” لديّ بعض الخبز والزيتون”.

“هذه عناية نادرة في عكّا هذه الأيام”.

2

تستطيع أن تسمع صوت تلاطم الأمواج خلف الأسوار الرطبة المخضرّة. يدخل الضوء من لحاءينِ رقيقين. وفي زاوية، فوق منصة من قطع خشبية، وُضعتْ متعلّقات ربيعة: كيس يحتوي على ثياب شحيحة وقناع، بالإضافة إلى عدة قصاصات ورقية بخطّ يدها.

أكلتْ بضع حبات من الزيتون، ومضغتْ الخبزَ المتصلب والمسطح في صمت، بينما تظاهر الداي أنه يفعل كذلك.

وأخيرا شخصت ببصرها نحو الفارسيِّ، وتحدّثت: ليس هنا بالمكان الممتاز. ألتمسُك العذر. فأنا لست إلا عابرة من هنا.

“السؤال هو لماذا اخترتِ أن تكوني هنا في المقام الأول؟”.

شرحتْ له كيف أُنقذت من حصار مماثل. ما لم تكن واحدا من القلائل المحظوظين الذين يستطيعون البقاء في قلعة المدينة، فليست فكرة سيئة أن تكون أقرب إلى المكان الذي قد يحدث فيه خرق ما من قبل العدوّ. دفعتُهم دائما ما تأخذهم إلى الأمام، وإن كنتَ واحدا من الذين يمكنهم التعامل مع السيف، فإنك قد جعلت طريقك ضد التيار. وهذا لا يبدو منطقيا، إلا أنه كان منطقها هي، وكان صحيحا من وجهة نظرها الخاصة.

عند منتصف حديثها، تباطأت ربيعة في الكلام، ونظرت بعناية نحو الداي. كان نصف مصغٍ إليها فقط. يحمل لها رسالة، وواضح أنه لم يبد سعيدا بوجوده في عكا. وقبل كل شيء كان يدور في ذهنه كيف يمكنه الخروج بحقّ السماء، بينما كان الفرنكيون يطوقون الأسوار، والشائعات تقول إن كلّا من ريتشارد ملك إنكلترا، وفيليب ملك فرنسا، على وشك الوصول إلى الشواطئ.

وبالطبع، ما كان يعنيه الدايُ حقا بسؤاله عن سبب اختيار ربيعة أن تكون في عكا، لكنها لم تستطع الإجابة دون ضرورة تقديم تقرير كامل لمبعوث شيخ الجبل هذا عمّا كانت عليه عند سقوط أورشليم قبل ما يقرب من أربع سنوات.

لم يكن الأمر يخصّ الشيخ. هذا ما كانت تود أن تقوله، لكن ذلك كان سيكون بمثابة توقيع الحُكم بموتها. لذلك وفي المقابل، سألت الرجلَ ما كان ينتظر منها أن تسأله

 “أنا هنا لأني امرأة طائشة تبحث عن المغامرات. ولكن، أنت، يا أخي…. هل يمكنك أن تتفضل وتشرح لي لماذا أنت هنا؟”.

“جرائم القتل”.

“ليس قتلا واحدا، بل كثير منه؟”.

“أكثر من أصابع يديك”.

“هل أي من الجثامين متاح؟”.

استغرب الداي. “متاح لفعل ماذا؟ هذا انتهاك، ولكن…” توقف برهة، وألقى نظرة فضولية نحو ربيعة.

كان ثمة شيء يوحي بضجرِه. وفي النهاية كلّ الدايات الذين قابلتهم حتى اليوم تقريبا منهكون بطريقة أو أخرى، ومعظمهم كانوا من الفُرس. من الأتراكِ تعلّمتْ فنونَ القتال. ومن الأكراد تعلّمت العزيمة، لكن الفُرس، وكما الحال لدى اليهود، كانوا رجالا مهووسين بالفلسفة، يزوّجون أفلاطون من أرسطو ومن الربّ معا، وفي اللحظة ذاتها. اللهم إلا أن اليهود كانوا يفتقرون إلى روح الدعابة في وَساطتهم، بينما الفُرس ببساطة باعوا أحدث أفكارهم في المزاد الأعلى. فكّرت: البغايا. لهذا السبب كانوا منهكين للغاية. فهم متعَبون من عملِهم.

بقي الدايُ محدقا بها. كان لا بدّ من أن تمنحه شيئا يبقى عالقا لديه.

“رفيق، صديق، أنا أسأل فقط لأشاهد أحد الجثامين كي أرى كيف تمّ قتلهم. في بعض الأحيان يساعد ذلك في أن نكتشف هوية الذي قام بالقتل”.

“هذا جديد علي”، قالها الداي وبدا مرتبكا أكثر.

تنهدت ربيعة. من المؤكد أن هؤلاء الدايات كانوا فعلا أكثر الأشخاص علما وتدريبا عاليا من بين الذين قدّمتهم الطائفة النزارية، وكانوا يعرفون الفلسفة واللاهوت، وغالبا ما كانوا يتمتعون بمعرفة عملية ببعض الأدوية، والتنجيم، والرياضيات. وقد أرسلهم شيخ الجبل خارجَ القلاع النزارية للهداية والتعليم، وليس العكس.

جرّبتْ ربيعة طريقة أخرى للحديث “أيها الرفيق، هل قال لك السيد سنان لماذا اختارني لهذه المهمة؟”.

فجأة تحوّلتْ نظرةُ الداي الغريبة إلى الاشمئزاز أكثر فأكثر. فهمت ربيعة تلك النظرة. أحيانا تنسى أنها امرأة. وتعاملها مع الرجال عادة ما يجلب لها نوعين من ردود الفعل؛ مفاجأة غير مريحة، أو غضبا تامّا.

لفظ الكلمات كما لو أنه كان يملي “شيخنا، سنان الجليل، لم يكشف هذه المعلومة لي. وأنا لا أسأل أي شيء. لا أريد أن أعرف لماذا اختُرتِ أنت كي أحلّ هذا اللغز″.

“إذن عليك أن تحمل كلمتي إليه. الأجساد تتكلم، لا سيما الأجساد الميتة”.

“قد تكون هذه هي المسألة، لكني لا أستطيع أن أحمل معي جثمانا إلى عكا كي ترينه، هل أستطيع ذلك؟ لذلك، عليك أن تذهبي إلى الشيخ نفسه. فربما هو يُريك”.

“أين هو الآن؟”.

لم يقل الدايُ شيئا.

“حسنا، هل هو في قلعة الكهف، هذه الأيام،أم هو في مصياف؟”.

“المكان الذي يوجد فيه هو الذي سآخذك إليه، إن شئت”.

“هل كلهم قُتلوا بنفس الطريقة؟”.

صرّح الداي “نعم؛ كلّهم خُنقوا”.

بَقيا صامتيْن للحظة. سألتْ “كيف خُنقوا؟” وبالكاد كانت تسمع صوت تنفسها.

تنحنح الدايُ وقال “بطريقة لا تختلف عمّا كان يستخدمه الخانقون في الكوفة. بحبل المشنقة”.

عادت إلى التحديق في الداي. في الأسبوع الماضي، وفي يومها الأول في عكا، حاول مرتزق بدوي أن يعتدي عليها. كان الرجل ذا صوت جيد، وطوال الوقت كان يغني لها عن النهود البيضاء وعيون المها. وكان مازال يغني عندما تمكّنت أخيرا من إطلاق نفسها من قبضته القوية، لتطرحَه أرضا وتجعله يغمى عليه إثر طعنة بمقبض خنجرها.

أخذتْ تتحدث “خانقو الكوفة، هذا يعود إلى زمن طويل، ومن جهة أخرى…”.

فجأة انتبهت أن يدَ الداي اليمنى قد ذهبت تحت عباءته البُنّية، لكنه كان محدّقا بها بنظرة مليئة بالمباغتة والخوف.

استدارت ربيعة.

“مروان!”.

الرجل الذي كان واقفا عند العتبة بدا منكمشا؛ كل عضلة في جسمه بدت منتفخة من تحت دِرعِه وأكثر من أي شيء آخر، يداه هما اللتان كانتا تبدوان خطِرتين؛ وكما بقية أعضائه كانتا محكمتيْن ومكتنزتيْن وتبدو عليهما آثارُ الجروح. كما أن سيفا عريضا يتدلى من جانبه. أومأ مروان نحو ربيعة، ووقف أمام الباب وقفة غامضة، نصف ناظر نحو الداي.

قالت له “صديقٌ”، وطأطأ مروان رأسه. سألت “هل عثرتَ على شيء ما؟”.

قال مروان “سأنتظرك في الخارج”، ثم تقهقر خلفا، وأغلق الباب.

كان الدايُ واقفا حتى تلك اللحظة. “نحن نعرف هذا الرجل، مروان. أحد الذين تدرّبوا تحت قيادة حيدر، ومن يسمّون بالشرفاء. هل أنا على حق؟”.

“صحيحة معلوماتك”.

“ما شأنُكِ معه؟”.

“أمر شخصي. هو يساعدني في إيجاد مكان شيء أضعتُه”.

“شيء ما أو شخص ما؟”.

وقفت ربيعة أمام مبعوثِ سنان. إذن لقد عرفوا. عرفوا ماذا أضاعت، ومَن أضاعت. كما أنهم على الأرجح عرفوا أيضا كلّ مسار الموت الذي سلكتْه خلال السنوات الأربع الماضية، وكلّ مطاردة للأوز البرّي من عسقلان إلى دمشق، مرورا بالبراري، ودخولا إلى جيوش صلاح الدين هنا وهناك، متسائلة أكثر من مرة ما إذا كان عليها الإبحار في البحر الكبير فقط أم الاتجاه نحو… أين؟ غرناطة؟ أو ربما امتداد الطريق نحو الأراضي المظلمة للملك الإنكليزي حيث ربما تكون قادرة على بدء حياة جديدة من دون أن يعرف أحد شيئا عن هويتها.

“سأعود قريبا. أرجوك اعذرْني على القطيعة في حديثنا. هذا أمر مهم”.

ماذا يمكن للدايِ أن يفعله في هذا المكان الحارّ أثناء غيابها؟ كان قد عُرض عليها ثقب جرذان على سطح البحر عند الطرف الخارجي من شرق المدينة، حيث مات الحُرّاس من الجوع والإرهاق مباشرة فوق رأسها بينما كانوا محدّقين في البحر الغادر. كانوا قد حرسوا عكا لمدة عامين. أسبوع من الزمن هنا كان يكفي لإخبارها بأنها في حاجة إلى الخروج.

“لحظة، قبل أن تذهبي”. نهض الدايُ أيضا، وسار في اتجاهها، فغدَيا واقفيْن وجها لوجه.

انتظرت ربيعة.

“أصحيح أنك ولدتِ خلال عام إعلان القيامة في قلعة الَموت؟”.

“كان الشيخ سنان مازال قائدا في سوريا عندما أعلنت القيامة في بلاد فارس. هو يعرف أننا جميعَنا ولدنا في تلك الحقبة”.

ابتسامة متحفظة علتْ وجه الداي “ولكن، بالطبع، ورغم كل شيء، فإن شيخ الجبل وضع حدا للقيامة السورية”.

“صحيح جدا”.

“وأنتِ لم تولدي في عام القيامة وحسب، بل في نفس الشهر الذي تمّ إعلانها، الشهر الأخير من صيف عام 559 للهجرة”.

“أنت رجل ذو معرفة، لكني لا أعرف ما مدى فائدة هذه المعرفة”.

ناولها الدايُ نظرة اهتمام للحظة أخرى، ثم سحب لفة من تحت عباءته وسلّمها إياها.

 بيعوا الشرعَ إلى الرُّضّع والمكفوفين

بيعوا الشرعَ إلى المجانين والزائِفين

أبناء القيامة ليسوا منكم

قرأتْ ربيعة مرتين، ثم لفّت المخطوطَ بإحكام، وخبّأته تحت ردائها. فجأة شعرت بنفسها عارية.

قالت “أفترض أن هذه المذكرةَ وُجدت إلى جانب الجثث”.

“لم توجَد إلا جنب جُثثِ الـ…” بلع الدايُ ريقَه، غير سعيد بما كان عليه أن يقول “دايات الذين اغتيلوا. رجالٌ مثلي”.

“هل تقصد أنهم اغتالوا آخرينَ أيضا؟”.

“عدد قليل من رجال صلاح الدين أيضا. رجال مهمّون”.

“هذا، وكما أفهم، يخلق مشكلة مع صلاح الدين، أليس كذلك؟”.

ساد صمت مربك، ثم قال الداي “ربيعة، أنتِ أحد أبناء وقتِ القيامة”.

لم تكن ملاحظة اتهامية بالضرورة، إلا أن شيئا كان حاضرا بينهما وكان لا بدّ أن يعالَج في نقطة ما.

“لم يرسلك الشيخ سنان إلى هنا لأنني واحدة من أبناء وقت القيامة. هو أرسلك لأنني أثبتُّ ذات مرة كيف يمكن حلّ جريمة القتل”.

“كيف؟”.

“ابحثْ عن الشغف”.

غادرتْ ربيعة الغرفةَ كما فعل مروان، خطت إلى الوراء، ورأسُها مثقلٌ بالمذكّرة التي كانت تحملها في صدرها، والمعلومات التي كان ينتظر مروان أن يخبرها عنها.

ترجمة: مريم حيدري

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.