إشكاليات الاتصال والانفصال
تظل العلاقة بين الفلسفة والأدب من أوثق العلاقات وأكثرها إشكالية وبحثًا واحتمالًا لكثير من وجهات النظر المتباينة أحيانًا. في كتاب “نزهة فلسفية في غابة الأدب” الصادر حديثًا عن دار المدى، والذي ترجمته الروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي، ثمة بحث وحوار مشترك ما بين الروائية والفيلسوفة البريطانية آيريس مردوخ والفيلسوف بريان ماغي عن هذه العلاقة ما بين الأدب والفلسفة وإشكاليات الحدود بينهما.
يعتبر الكتاب بمثابة تقديم لحوارية بثها التلفزيون البريطاني عام 1978 في قناته الثقافية ما بين آيريس مردوخ وهي روائية وفيلسوفة بريطانية، لها روايات سيكولوجية بها عناصر فلسفية، واختيرت روايتها “تحت الشبكة” كواحدة من أفضل مئة رواية إنكليزية في القرن العشرين، وصنفتها مجلة التايمز كواحدة من أعظم الكاتبات البريطانيات منذ عام 1945، والفيلسوف بريان ماغي الذي ألّف العديد من الكتب في الشعر والفلسفة والتاريخ والسياسة ومنها “أن تعيش في خطر”، “الفلسفة البريطانية الحديثة”، “رجال الأفكار: بعض صناع الفلسفة المعاصرة”، “اعترافات فيلسوف”” ونشر سيرته بعنوان “سحائب المجد” عام 2004.
حجم التمايز
يوضح بريان ماغي في بداية الحوار أن بعض عظماء الفلاسفة كانوا كتابا عظاما مثل أفلاطون، وشوبنهاور، ونيتشه، وهناك كتاب على قدر كبير من الصنعة الجيدة مثل ديكارت وهيوم وروسو. وهناك أيضا فلاسفة عظام لكنهم كتاب سيئون مثل كانت وأرسطو فقد كانا فيلسوفين عظيمين ولكنهما غير مجيدين للكتابة الأدبية، ومن ثم فمثل هذه الأمثلة توضح أن الفلسفة ليست فرعا من الأدب، فنوعية الكتابة الفلسفية تكمن في اعتبارات أبعد من القيمتين الأدبية والجمالية، والكتابة الفاتنة لن تجعل من الفيلسوف فيلسوفًا أفضل.
بدأ الحوار بسؤال ماغي لمردوخ عن حجم التمايز بين الحقلين؛ الأدبي والفلسفي. تجيب مردوخ بأن الفلسفة تهدف إلى الكشف عن الدقائق الجوهرية للأمور وحل المعضلات الإشكالية، فالكتابة الفلسفية السيئة لن تكون فلسفة على الإطلاق بينما العمل الفني السيء يمكن التسامح معه. فالأدب يوفر المتعة ويفعل الكثير من الأمور أما الفلسفة فتفعل أمرا واحدا فقط.
تحدثت مردوخ عن الإبهام في الأعمال الروائية بما يتضمنه من دلالات تضمينية في مقابل الوضوح والغايات الصريحة في كتاباتها الفلسفية. فاللغة في الرواية تستخدم بطريقة مراوغة وليس هناك أسلوب أدبي وحيد أو مثالي بينما هي مقتنعة بوجود أسلوب فلسفي مثالي له خصائصه المعلومة في الوضوح والصرامة بعيدا عن السمات الأنوية والملاعبات اللغوية، وهذا من أبرز الاختلافات ما بين الأدب والفلسفة.
تستطرد مردوخ في توضيح الفروق بين الكتابة الأدبية والفلسفية بقولها إن الكتابة الفلسفية ليست شكلا من أشكال التعبير الذاتي، وتمتاز بصوتها الصلب والواضح، بينما الأدب ينطوي على شيء من ضبط الصوت الذاتي وتحولاته خلال العمل الأدبي ولكن يبقى هناك نوع من التعبير الذاتي في الأدب بينما هذا غير ممكن في الفلسفة، فضلًا عن أن الفلسفة لا تسعى إلى بلوغ أي نوع من الكمال الشكلي كغاية في ذاته بينما الأدب يكافح وسط لجة المعضلات المعقدة للشكل الجمالي. قد يحدث في أحايين قليلة أن يكون هناك عمل فلسفي وفني في الوقت ذاته مثل الندوة الأفلاطونية، ولكنها حالات استثنائية بينما الفلسفة هي مادة كثيرة التفريعات وعديمة الشكل تختص ببحث معضلة فلسفية ومساءلتها.
ترى مردوخ أن الفلسفة محاولة لإدراك ونبش مفاهيمنا الأكثر عمومية وعمقا ورسوخا، فهي تدور في نطاق الأسئلة التي لا نعرف كيف نجيب عنها، بينما الفنان ينبغي أن يخترع معضلاته الخاصة ويسعى لحلها كيفما يريد، وهذا عمل يتقاطع مع مسعى الفيلسوف.
الشخصية الأدبية
ردا على سؤال ماغي لمردوخ عن الشخصية الأدبية التي يسعى كل كاتب لامتلاكها إلى حد الهوس واقتناع كل كاتب بأنه ما لم يمتلك شخصية أدبية مميزة فإن أحدا لن يقرأ له، قالت مردوخ إن الكاتب يختلف عما نقرأه من أعماله، قد يكون الكاتب شخصًا مُملاً بينما أعماله ليست كذلك والعكس أيضًا. إذ يجب التفريق بين الأسلوب المميز للكاتب وبين حضوره الشخصي في أعماله. فالحضور المفرط للكاتب خاصة إن كان تسلطياً يمكن أن يكون مدمرًا، والكتابة الرديئة تحفل بكثير من التلميحات التي تشي بكاتبها ورغم أنه من الصعب وضع قواعد حاكمة في هذا الشأن خصوصا وأن الرغبة في التعبير عن الذات دافع قوي في كل الأعمال ولكن ينبغي تطويع تلك الرغبة والتعامل معها بروح نقدية صارمة.
وتضيف في معرض حديثها عن الفن: هو ملاعبة قريبة وخطيرة مع قوى اللاوعي الكامنة فينا، ونحن نستمتع بالفن حتى بأكثر أشكاله بساطة لأنه يزعزع كوامن روحنا بطرق عميقة وغير مفهومة لنا في الغالب. يمكن النظر إلى الأدب باعتباره وسيلة منضبطة ومدربة لرفع منسوب المشاعر لدى القارئ. كلّ من الفلسفة والأدب يبغي الكشف عن الحقيقة ولكن الفلسفة تعمد إلى التجريد والمباشرة فيما تعمد اللغة الأدبية إلى الغموض والتخييل، فاختبار الحقيقة في الفلسفة مسألة صعبة لصعوبة الموضوعات الفلسفية، بينما اختبار الحقيقة في الأدب قد يكون صعبًا بسبب سهولة التعاطي مع الموضوعات الأدبية بشكل ما.
أهمية الفن
ينقل ماغي في حواره الحديث إلى آراء بعض الفلاسفة في الفن ومنهم أفلاطون الذي أطلق روحاً عدائياً تجاه الفن رغم استخدامه لكثير من الأشكال الفنية في أعماله واعتماده الكثير من التخييل، وهنا تبين مردوخ أن أفلاطون كان يخشى سطوة المشاعر غير العقلانية التي تثيرها الفنون، وقد شعر أن الفن معاد لكل نزوع ديني مثلما هو معاد للفلسفة رغم أن الفلسفة في زمن أفلاطون انبثقت من رحم التأملات الشعرية واللاهوتية، فقد ظن أفلاطون أن الفن محاكاة سيئة وأنه احتفاء بأشياء لا قيمة لها وهذا الفهم الأفلاطوني كما ترى مردوخ لا يتقاطع مع الرؤية الفرويدية التي ترى الفن تعويضًا عن امتلاك السلطة ونوعا من السلوى الشخصية وعزاء فردانيّا.
يوضح ماغي أن شوبنهاور على العكس من الآراء الفلسفية الداحضة لقيمة الفن وأهميته قد رأى أن الفن قيمة جوهرية أساسية في الحياة الإنسانية ويمكنه قول أشياء أساسية بالغة الأصالة بشأن تلك الحياة، وهنا تشير مردوخ إلى أن شوبنهاور قد أطاح بالرؤية الأفلاطونية فقد رأى أن الفن يسعى وراء الأفكار ويمكنه حملها ونقلها إلى الآخرين وأنه يزيح قناع الذاتية ويجعلنا نمسك بفيض الحياة في تيارها الهادر، ونرى العالم الحقيقي من خلال الصدمة المقترنة بأي تجربة جمالية.
المدى التدميري
يتجه ماغي للحديث عما أسماه “المدى التدميري” للفلسفة في ميدان الفن مستشهدا بالنظرية الماركسية التي حددت أدوارا معينة للفن تحصره في أن يكون أداة للثورة الاجتماعية، ويرى ماغي أن معظم تلك الأعمال الفنية “نفايات عقيمة” وتتفق ماغي معه في الرأي إلا أنها ترى أن ثمة رؤية ماركسية أكثر ذكاء ترى الأدب كتحليل عميق للمجتمع وهي الرؤية التي اتخذها جورج لوكاتش إذ يميز بين النزعة الواقعية التي هي استكشاف تخييلي للهيكل الاجتماعي والنزعة الطبيعية التي هي استنساخ ساذج أو انطباعي، ولكن في الوقت ذاته، فإنه حينما يخاطب الكاتب نفسه ويقول علي أن أُغير المجتمع من خلال كتابتي يكون قد غامر بتدمير القيمة الإبداعية لعمله.
ترى مردوخ أن العمل الأدبي ينطوي على جانب محاكاتي وصوري في الوقت ذاته، وقد يحدث تصارع بين الجانبين، وقد يتمظهر الصراع في الرواية بهيئة حالة تصارعية بين الشخصيات والحبكة الحكائية. والكاتب السيئ يرضخ تحت سطوة الاستحواذ الشخصي ويصبح رهينة له عندما يقوم بتمجيد بعض شخصياته الروائية وازدراء بعضها الآخر دون تقديم مسوغ جمالي مناسب بينما الكاتب الجيد مثل القاضي العادل الذي يسوغ موضعته للشخصيات الروائية في الأعمال التي يكتبها.