إشكاليّة هويّة وسيمياء الشّخصية العراقية
يسلك أبطال الرواية مأساة من عاشوا في بلاد الرافدين، منذ أكثر من أربعة عقود، تعددت خلالها أنماط القهر والمعاناة والصراعات الدموية، ففي الستينات والسبعينات من القرن العشرين تلوّن العنف بين مكونات الأمة العراقية بسبب الانتماء السياسي، لليسار أو للأحزاب القومية، والدينية خلال صراعها على السلطة. وفي التسعينات من القرن الماضي عانى العراقيون من حروب عبثية، بدأت بحرب الخليج الأولى، والثانية، وتضاعفت فيها التضحيات، وازدادت معاناة الناس في هذا البلد، وتحول العنف إلى عنف مزدوج، القتل في جبهات الحرب، والموت في المنافي المختلفة حسرة على الوطن، الذي ما أن يخرج من حرب حتى يقع ضحية لحرب جديدة، وفقدت البلاد خلالها خيرة أبنائها.
رسالة خاصة
يقول الكاتب عواد علي عن روايته في رسالة خاصة وصلتني منه «رغم أن ما جرى للعراقيين المسيحيين والمندائيين الصابئة والإيزيديين، بعد الاحتلال الأميركي للعراق، من اضطهاد واقتلاع لوجودهم، وانتمائهم الوطني على أساس الهوية الدينية، على يد الجماعات التكفيرية الإرهابية، هو أشد هولاً مما صورّته الرواية، وأفضع مما يستطيع أي عمل سردي أو فني مقاربته، فإن المبدع يجب ألاّ يقفز على هذا الواقع المأساوي، أو يبعده عن التجربة الأدبية».
ويضيف علي «لو راجعنا التجارب الروائية في العالم لوجدنا أن الكثير من الروائيين كتبوا عن الأحداث الكبرى والمآسي التي عاشتها شعوبهم، جماعاتٍ وأفراداً، في الحروب والثورات والانقلابات والصراعات الداخلية الإثنية والدينية والسياسية، من خلال نماذج محدودة من الشخصيات، التي وقعت عليها أشكال مختلفة من القهر والظلم وانتهاك الكرامة. وهي نماذج تختزل فئات كبيرة من الشعب تعرضت إلى الاضطهاد والقمع والتطهير العرقي الفاشي. ولنا في روايات «الساعة الخامسة والعشرون» لكونستنتان جورجيو، و»للحب وقت وللموت وقت» لريمارك، و»دكتور زيفاغو» لباسترناك، و»عازف الكمان» لستيفن غالاوي، و»كوخ العم توم» لهيريت ستو، و»أنظر إلى الفرات» ليشار كمال، وغيرها من الروايات خير أمثلة على ذلك».
ويوضح في رسالته كيف ألحَّت عليه فكرة كتابة رواية عن الأقليات الدينية والعرقية في العراق والمَهاجر، التي عانت مرتين، مرةً كَوْنها تحمل الجنسيّة العراقيّة، ومرةً ثانيةً لأنَّها تحمل عقائد خاصةً بها، يوضح قائلاً «بالنسبة إليّ حاولت في ‘أبناء الماء’ أن أركّز على مجموعة شخصيات من مكونات دينية وقومية تشير إلى التنوع أو الفسيفساء العراقي (مسيحية ومندائية وعربية وكردية) تعرضت عوائلها إلى التصفية الجسدية أو التهديد أو الملاحقة أو الاغتصاب، في ظروف معقدة بعضها قبل الاحتلال وبعضها الآخر عقب الاحتلال، حينما سادت الفوضى وانتعشت النزعات المتطرفة والتكفيرية في عموم العراق، ما اضطرها إلى ترك البلد بحثاً عن ملاذات آمنة في بلدان اللجوء لتحفظ حيواتها وكرامتها. وقد عمدتُ إلى جعل هذه الشخصيات تسرد فجائعها بنفسها دون تدخل من الراوي. وهذا التعدد الصوتي (البوليفوني) يعكس التعدد والتنوع الديني والإثني في النسيج العراقي».
ويمضي علي قائلاً «إن الاحتلال أراد في مخططه البعيد، وبمشاركة دول إقليمية تحمل أحقاداً تاريخيةً تجاه العراق، تمزيق هذا النسيج وتفتيته بشتى الوسائل. كما حاولتُ أن أجعل هذه الشخصيات محمّلةً بحس وطني تاريخي وانتماء عميق لبلدها، رغم المحن والكوارث التي عاشتها فيه. ولذلك ظلت مرتبطةً بعضها ببعض بعلاقات نبيلة صادقة في العالم الذي لجأت إليه، وتحلم بالعودة حين ينقشع الكابوس».
التوظيف المعرفي
حمّل الكاتب روايته إضافاتٍ معرفيةً، فيما له علاقة بالعقائد والأديان، والطوائف في العراق، كالصابئة والإيزيديين واليهود والشبك والمسيحيين، وكذلك الزرادشتية خارج العراق. وحوّل بمهارة معرفته بالعقائد والعادات إلى «معرفة جمالية روائية»، وبذلك فقد صارت الرواية مصدراً للمعرفة. وأضاف إليها تفصيلاتٍ شائقةً لتقاليد، وطرائق عيش حامليها، مما جعل الرواية تسجيلاً سوسيولوجياً ذكياً لفئات مجتمعية عرقية مختلفة.
من شخصيّات الرواية ذات البعد التراجيدي: «ميران» المندائي، أخته «سولاف»، أخوه «سبهان»، وعمه «منادي». وقد سرد الكاتب طقوسهم في عيد الخليقة (البرونايا)، وهو ذكرى الخلق وتكوين عوالم النور والأرواح الأثيرية الأولى، حيث تُفتح فيه بوابات النور، وتنزل الملائكة والأرواح الطاهرة فيعمّ نورها الأرض. كما قدّم سرداً شيّقاً لطبيعة الديانة المندائية وأصولها، يقول الترميذا (كاهن مندائي مكرّس) عن الخالق تعالى، عندما تسأله مجندة أميركية، في إحدى السيطرات، عن ماهية عقيدتهم، ومن هو معبودهم، يقول إنها «ديانة موحِّدة توحيداً باطنيّاً تؤمن بإله واحد معبود مستقل ومبعوث بذاته، غير محدود الأسماء والصفات والقوة والإرادة، منتشر في جميع الفضائل ويسكن الشمال القاصي، وذلك عن طريق العرفان، وهو الـمندا، أي أن الوصول إلى التوحيد ينكشف في القلب مثل ومض نوراني ينتج عن تعرّف الروح في الجسد الإنساني إلى أصلها النوراني الهابط من عالم النور. وللمندائية لاهوت وأساطير وطقوس، كلّها ذات طبيعة غنوصية ونضال ضد الشر، وتوجّهٌ إلى الخير والنور وخلاص النفس البشرية من عالم الظلام قبل الموت وبعده» (ص 63 من الرواية)
لوحة: فادي يازجي
.
ويتحدّث ميران عن طرقهم في تهيئة موتاهم للدفن، خلال دفن أبيه وأخيه، بعد اغتيالهما من قبل متطرفين إسلاميين في السنة الثانية للاحتلال، «أجرينا لهما مراسيم المسخثة (تطهير الروح)، وهي طقوس تقام على روح الميت الذي يموت غيلةً، وجهّزنا لهما ملابس بيضاء (رستة) لبسهما شخصان يحملان نفس الاسم الديني، ثم ثبّتنا إكليلين من الآس على رأسيهما ووضعناهما في نعشيهما، وقرأنا الفاتحة على روحيهما.. نطق الحي العظيم، وألقى بأفواهكم النور والضياء، الوقار لأنفسكم، وسبحان الحي» (ص 60 من الرواية).
ويضيف ميران «في البدء تقدَّم أربعة حلاليين (رجال دين بمنزلة الشمامسة عند المسيحيّين) وعملوا «مندِلتة»، من قصب يغرزونه في الأرض على رزدق واحد، وقسموها إلى ثلاثة أقسام وربطوا كل قسم بخيط من الخوص دون أن يقطعوه. كانت المندِلتة بعيدة عن النعشين بعداً كافياً يمكِّنهم من أن يجولوا حولها. ثمّ حملوا نعش والدي أولاً ورفعوه فوق رؤوسهم وعبروا به فوق تلك المندِلتة. حين اجتازوها عاد الرابع ووقف وراءها ووضع عليها طيناً وقطّعه بسكين قطعاً مستديرةً وختمها بخاتم منقوش عليها صور أربعة حيوانات: حيَّة وأسد وعقرب ودبور، وطلب الصفح والغفران لنفس والدي، ثم لحق بحاملي نعشه، وسار معهم حتى وصلوا إلى مكان الدفن وأنزلوا النعش من على رؤوسهم، وتقدّم صاحب الختم وأخذ مسحاةً وراح يملأها بالتراب، وهو يكرر ما قاله عند ختمه المندِلتة، ويُلقي به إلى الخلف من فوق كتفه الأيسر، وبذلك حدّد مكان القبر ليقوم الحفّارون بعملهم، والترميذا يقرأُ من بعيد في ‘السدرا ربّا’ وأمامه الدرفش. بعد أن أتمّوا حفر القبر أنزلوا الجثة في الحفرة بحيث يكون الرأس متجهاً إلى الشمال حيث بيت الرب (بيت أواثر)، والرِجلان متَّجهتين إلى الجنوب» (ص 64 من الرواية).
ويستطرد في توضيح الطقوس المندائية في الدفن، وكأنه يعيد لهما اعتبارهما كبشرين لم ينالا ما يستحقان في حياتهما، لكن الموت سيعيد ذلك الاعتبار المفقود في الحياة الأخرى «ولمّا انتهى الترميذا من صلاته ألقى عليها بعض التراب وعاد إلى القراءة. عندئذ أكمل الحاضرون دفنه، ودنا صاحب الختم وختم تراب القبر من جهة الرأس. وتكرر طقس الدفن نفسه لأخي سبهان». (ص 65 من الرواية).
التشظي الأسري
يروي ميران ما حدث في العيد الكبير (دهنا إدهنينا)، وما عانوه بعد الاحتلال في العام 2004 من قتل وترويع على أيدي متطرفين إسلاميين، فاضطر هو وعائلته للهجرة إلى كندا من خلال المفوضية العليا للاجئين في العاصمة الأردنية. وهو ما فعلته «تيريزا صليبا» المسيحية، وخطيبها «أفرام» وأمها «سارة»، وأخواها الأصغر منها «بهنام» و»فاديا»، الذين اغتيل أفراد منهم أيضاً في الموصل لإرغامهم على مغادرة البلد.
ويبدأ التشظي الأسري في علاقات المهجَّرين بأهلهم وتأريخهم، ويحاولون نسيان كل شيء عن ذلك الماضي، والاندماج بعلاقات جديدة ترفضها أسرهم، لكنهم يشعرون أنهم بمغادرة بلدهم الأصلي عليهم مغادرة عقائدهم أيضاً.
ميران أورثته ولادته في المعتقل ببغداد حزناً دائماً، فقد كان والده، صائغ الذهب، شيوعيّاً رفض تسليم نفسه للسلطات خلال الحرب العراقية الإيرانية، فاعتقلوا زوجته، التي كانت حاملاً بميران، ولم يطلقوا سراحها ووليدها إلاّ بعد أربع سنوات عندما سلّم نفسه، فخرجت الأم بميران من المعتقل وعمره أربع سنوات. ويتزوج ميران بـ»أيجون» الأذربيجانية الأصل، ذات الديانة الزرادشتية، ويخفي أمر زواجه عن أمه وأخته، بسبب رفض الأم المطلق أن يقترن ولدها بغير مندائية مثله.
لوحة: فادي يازجي
أما «يوسف البكري»، الصحفي العربي المسلم، الذي عاش طفولته وشبابه في عدن وجيبوتي ودمشق رفقة أبيه الشيوعي المنفي، فيتزوج «أيهان» التي كان أبوها يهودياً من أسرة «ساسون» الدمشقية، فأسلم حين أحبّ وتزوج أمها التركمانية السورية الأصل، وكانت تعمل راقصة ستربتيز سابقاً لتعيل أسرتها بعد وفاة أبيها في سجن «غوانتانامو».
مواقف صعبة
وعمل «يوسف» محرراً ومترجماً في جريدة «طريق الشعب» في بغداد بعد عودة أسرته من الشام عام 2003، وقد ظنّ أن الحياة يمكن أن تعاش في العراق عقب زوال النظام السابق، لكنه يتعرض إلى التهديد من شخص ينتمي إلى أحد الأحزاب الدينية إثر كتابته مقالاً حول استيلاء حزبه على أملاك عامة في بغداد بعد الاحتلال، فيقرر الهجرة حفاظاً على حياته. ويحصل على اللجوء إلى كندا اعتماداً على تأييد مختوم من رئيس تحرير الجريدة يؤكّد صحة التهديد.
الحب لا دين له
أراد الروائي عواد علي أن يقول على ألسنة الساردين، وخاصةً «ميران» في نهاية الرواية «إن الحب لا دين له»، وهي القولة الشهيرة المأخوذة عن الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي «قد تجد الحب في كل الأديان، لكن الحبّ نفسه لا دين له»، وذلك عندما عقد «ميران» وحبيبته المسلمة «لورين»، شقيقة «أيهان» العزم على أن يكونا أكثر تبصّراً، ويصنعا سعادتهما باتباع إرادة الحياة، كما يريدانها، حياةً يصقلها الهوى وشغف أحدهما بالآخر، ولا تكدّر صفاءها عثرات المعتقدات وتقاطعاتها.
الرواية كُتبت بلغة شاعرية، وجرت أحداثها في فضاءات عديدة داخل العراق وبلدان اللجوء، وضمّت عشرات الشخصيات غير الشخصيات السبع الرئيسية التي تتولى عملية السرد، وقد حملت كل شخصيّة إشكاليّةً نصيّةً معقدةً، ركز فيها الكاتب على قراءة سيمياء الشخصيّة العراقيّة بعد تقشيرها، ليضع أمام القارئ موروثاتٍ سومريةً وآراميةً وآشوريةً وكلدانيةً، وعربيةً، ودياناتٍ وثنيةً قديمةً، وإيزيديةً وشبكيةً ومندائيةً، ومفرداتٍ لغويةً مختلفةً تحيل على التنوع والعمق الحضاري لبلاد الرافدين.
لقد وضع عواد علي شخصيّاته في مواقف مأساوية واجتماعية ونفسية صعبة جداً ليصوغ من ردود أفعالهم وأزماتهم وأفكارهم ومشاعرهم إجاباتٍ لسؤال طالما أرّق جميع العراقيين، إنه سؤال الهوية والمواطنة، هل من الحكمة أن نبقى هكذا ضائعين في المَهاجر أم علينا أن نتناسى اختلافاتنا المذهبية والإثنية لكي يلتئم شملنا في وطننا، كما كنا نعيش منذ آلاف السنين؟