إناث تقود الغزلان في الصحراء

نساء "أنطاكية" للينا هويان الحسن محركات العرائس على مسرح الحياة
الخميس 2021/07/01
لوحة سعد يكن

اتخذت الحركات النِّسوية في العالم منذ نشأتها من قضايا المرأة شاغلها الأساسي، فانبرى جهدها للدفاع عن قضاياها الأساسية التي تهمُّ المرأة في المجال السياسي والاقتصادي والجنسي، كنوعٍ من ردّ الاعتبار لوضعية المرأة بالحصول على بعض المكتسبات التي فقدتها بسبب البطرياركيّة، وثانيًا كنوعٍ من الانتصاف من الذكوريّة التي تعاملت مع نقيضها على مستوى الجندر باستعلاء واضطهاد وإقصاء.

وقد أدرك المهتمون بهذا الشأن أن هذه الغاية لن تتحقّق إلا بتغيير النظرة الجندريّة للمرأة والسعي إلى إعطائها الكثير من حقوقها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة المغتصبة من قبل الذكوريّة في مرحلة، ثمّ تواصلت الطموحات مع الموجات التالية بإدراج حريّة الرِّجال ضمن أهدافها؛ لأنّهم يعتقدون أنّ الرجال أيضًا متضررون من الأدوار الجندرية التقليديّة، وصولاً إلى الدفاع عن النسويّة العرقية وحق الإجهاض وغيرهما.

في المقابل عُدّت الحقوق الاجتماعية كالتعليم وعدم التمييز في العمل والمناصب القيادية على أساس جندري، من أهم المطالب التي دعا إليها روّاد الحركات النِّسويّة في المجتمعات العربيّة، ومع انتشار مدّ هذه الحركات في بقاع مختلفة من العالم العربيّ، وتنامي الأصوات المطالبة بإعلاء صوت المرأة بالحصول على حقوقها، إلاّ أنّه غاب عنهم أن كثيرًا من النساء في مناطق عربيّة حظيت بحقوقها مثل الرجل، بل حظي البعض منهن بفرص أكثر من الرجال في التعليم والثقافة، وهو ما تكشف عنه المدونة التاريخيّة، والنتاجات الأولى للرواية العربيّة.

الحقيقة أن المرأة بوعيها بالكتابة سعت إلى تأسيس خطاب ثقافي بعيد أو في معزل عن الهيمنة الذكوريّة وتنميطاتها الإقصائيّة؛ خطاب يتأسَّس من وعي المرأة بذاتها كامرأة تختلف بيولوجيًّا وثقافيًّا وفكريًّا عن الرجل نقيضها، وإذا كانت صورة المرأة تردّدت في كتابات الرجل كتابعة وعاشقة وغانية، وغيرها من تمثيلات نمطية تحطُّ من قدر المرأة ومكانتها على المستوى المجتمعيّ والقيميّ والثقافيّ، وإن كانت – في المقابل – أعلت من صورة الرجل، وجعلته في مركز الدائرة التي تستقطب النِّساء إليها، فإن كتابات المرأة – في معظمها – قدمت صورة للرجل مماثلة لصورته في الواقع على عكس ما يدعي؛ صورة أقرب إلى الرجل الانتهازي المستبدّ القاهر الخائن، الضعيف الشخصية، الرجل غير الداعم للمرأة، بل هو المُحْبِط لها والمثبّط للهمم.

لا أظن أن امرأة/كاتبة دخلت مجال الكتابة، وهي تحمل جرثومة الانتقام من البطرياركيّة/الذكورية، وممارساتها الإقصائية، أو حتى كانت مشغولة بالرجل بوصفه النقيض البيولوجي لها، بقدر ما هي مشغولة بذاتها/هويتها الخاصة، وتحرّرها من قيود الذكورية أيًّا كانت صفتها عليها (أب/أخ/زوج/حبيب/ابن/.. إلخ)، وتحقيق مكاسب – على الأقل معنوية – متعدِّدة، لا تقف عند استقلالها وتحرّرها من العوز المادي الذي يمثّل القيد الذي يضغط به عليها، ويجعلها تخضع لشروط الحياة المجحفة، بأن تظل تابعة أو خاضعة أو حتى – في أقل الدرجات – مهادنة/مسالمة، مرورًا بتحسين وضعيتها في المجتمع (الذي هي جزء منه) غير تلك الصُّورة المنمّطة التي حصرتها في إطارها الجندري أو البيولوحي (أمّ/زوجة) وإنما في وضعية جديدة، تتواءم مع تأثيرات الثقافة والتعليم، باعتبارهما أدوات تغيير، كمكوّن وفاعل داخل حركية المجتمع ونهضته، وإحدى أدوات إنتاجه التي تتشاطر مع الرجل ثمرة نجاحه ونهضتها، وصولاً إلى تحرّرها من الاستلاب، واسترداد ذاتها.

والسبب الأساسي الذي يجعل من الانتقام غير وارد في مخيلة المرأة/الكاتبة، يعود – أولاً – إلى يقينها بأن مشكلة المرأة التي صنعها الرجل، وساوم بها، لا تخصُّ المرأة وحدها وإنما – كما تقول سيمون دي بفوار “دائما كانت مشكلة الرجل”، وهو الأمر الذي توضحه مي زيادة – في كتاب كلمات وإشارات – في نداء استجدائي للرجل، بغية تحرّر الطرفين بقولها “أيها الرجل لقد أذللتني فكنت ذليلاً ـ حرّرني لتكن حرًّا”، وهو ما أعلنته صراحة الكاتبة نعمات البحيري، بل وجعلته أشبه بصيحة هكذا “أكتبُ من أجل تحرير الرجل أيضًا”، وثانيا، أن غاية الكتابة النسائية – كما تصرح إيلين شوالتر هو “إبراز الأنوثة بشقيها الخفيّ والصارخ أو المعلن”، وإرادة المرأة في التعبير عن ذاتها يكشف بشكل لاإرادي كافة الممارسات التي عرقلت هذه الذّات في سبيل تحرّرها واستقلالها الفردي. بصفة عامة المرأة لا تكتب عن ضدّها بمقدار ما تكتب عن الهيمنة السّائدة التي جسّدت التقليد والتجديد والجمود والتطوُّر والحرمان والاكتفاء؛ لأجل تفكيك سلطة السائد في المجتمع باعتباره مجموعة قيم ثقافية سائدة وثابتة، علاوة على ثوراتها ضدّ كل تدمير لإنسانيتها، وحقّها في الحرية والحياة.

أطماع آل منجوك وأطماع السياسةصورة

تتخذ لينا هويان الحسن في روايتها “أنطاكية: وملوك الخفاء” (دار التنوير، 2021)، من هذه الأطروحات المتعلقة بحرية المرأة واستلابها من قبل الذكورية؛ نموذجًا كاشفًا لماهية الصراع [القدري] بين الرجل والمرأة، وفي المقابل مواجهة المرأة لكافة التحديات التي خضعت لها كابتزاز من عالم الذكورة، كما تعكس قدرة هؤلاء النساء على التمرُّد والتصدِّي لمثل هذه الإكراهات، وكيفية ترويض المرأة للرجل.

تدور أحداث الرواية في شمال سوريا؛ في تلك المنطقة التي شكَّل عصيان نهر العاصي أساطيرها وحكاياتها، وتحكي – على نحو ما جاء في كلمة الغلاف الخلفي – “سيرة مجموعة من النساء عشنَ في مرحلة تحولات كبرى جرى فيها الانتقال من الإقطاعية إلى بدايات الدولة الحديثة، وما تركه ذلك من تأثير على حيواتهن”. اللافت أن عالم النساء لا يأتي منفصلاً عمّا حوله، بل متداخلاً وعاكسًا لطبيعة العلاقات المتشابكة التي رسمت مصائر الشخصيات، بحكم قربها من الآخر وبعدها عنه.

تبدأ الرواية بتوأم آل منجوك؛ صادق باشا، وممتاز بيك، على الرغم من الاختلاف الظاهر بينهما إلا أنهما مرتبطان قدريًّا ببعض في الزواج والموت؛ فصادق باشا الذي لم يُكمل تعليمه، اهتم برعاية شؤون أرض والده، يعشق النساء والخمر والقمار والصيد، أما ممتاز بيك الذي أتمّ دراسة الطب، ثمّ التحق بالكلية العسكرية، فهو جدّي ومتدين زاهد متمسك بالفضيلة. وقد تزوجا من أختين توأمين؛ مجيدة تزوجها صادق باشا، وفريدة تزوجها ممتاز بيك، وقد أنجبت ذكرين توأم هما: كيوان وعوني، وأنجبت فريدة خانم لممتاز بيك بنتين توأم من الإناث هما: فهرية ومجيدة. ومع الجيل الثاني من الأبناء تأخذ الرواية شكلاً آخر إذ تنفتح على شكل من أشكال الصِّراع المعلن تارة والمستتر تارة ثانية داخل أروقة القصر، كاشفة عن تأثير التحولات التي جرت على سكان القصر، بسبب التحولات السياسيّة التي حدثت في الإقليم، وصولاً إلى قدوم دادا (عدوية) التي ينطبق عليها وصفه الهدهدية “إن هنالك نساءً يحرّكن الريح بخطواتهن” فتهدم سكونية القصر، وتُحدث تأثيرات عديدة سواء على شخصيات القصر (فريدة خانم/وفهرية/وعوني) أو على شخصيات من خارجه، على نحو ما يحدث مع فجر التي تدين لها بما حدث لها فيما بعد، وقد صارت نجمة من نجوم المجتمع على نحو ما كانت تحلم وهي تقرأ الكتب في عتمة الكنيسة، فحملت لقب مدام أرشدان منجوك، ومُحي الماضي بعد أن صار اسمها الجديدة فايزة.

يسعى الخطاب الروائي – في أحد جوانبه – إلى إعادة كتابة التاريخ القديم، ومقاومة الهيمنة الإمبريالية التي مورست ضد الأراضي السورية، فتسرد الرواية وقائع المحو والفصل اللذين مارستهما حكومة أنقرة في توسّعاتها بضم الكثير من الأراضي السورية، على نحو ما حدث مع لواءي أورفة وغازي عينتاب، ثم ما يحدث في الإسكندرون. كما تتطرق إلى ما تتعرّض له الأراضي العربيّة من استلاب واحتلال على نحو ما يحدث من احتلال إيطالي لليبيا، ودور المقاومة في دحر الاحتلال، وفي المقابل ترصد كافة أشكال الظلم الذي تمارسه هذه الإمبريالية على الأراضي الخاضعة لسيادتها.

بطلات من التاريخ

المتأمّل في كتابات الكاتبة السورية لينا هويان الحسن، يُدرك مدى ولعها الشديد إلى حّد الوله بالانحياز للمرأة، ويتأتى هذا الانحياز أوّل ما يتأتى باختيار بطلاتها – في الغالب – من النساء، على الرغم من أن أحداث الروايات قد تدور في عالم الذكور، إلا أن للمرأة دورًا محوريًّا لا يمكن التغاضي عنه؛ فهؤلاء النساء/البطلات – في أعمالها الروائيّة – يتمتعن بالقوة والمبادرة والاستقلال، والشغف بالحب والتحريض عليه أيضًا، فمفتتح الهدهدية للرواية القائل “إما حياة يلهمها الشغف ويضيئُها العشق، وإما حياة مظلمة كئيبةٌ مهدورة؟ هما خياران للعيش”، يبدو كشعار تحرص النساء عليه وتنشده، مهما عرّضهن الامتثال له لتبعات خرقهن للنسق.

ومن ثمّ تستخرج النساء من نسغ التاريخ، الذي يكشف عن قيمة هذه المرأة ومعدنها، وأيضًا صلابتها في تحدي كافة الصعوبات التي تواجهها؛ لذا نراها تعمد إلى المواجهة فتضع المرأة أمام نقيضها الرجل، كندّ له تنافسه في عناده، وتمرده وإليها تعود سُلْطة الحكي، كما أن إدارة أحداث الرواية وحركتها ومصائر الشخصيات مُعلّقة بيد النِّساء، وكأنَّ الشخصيات الذكوريّة أشبه بعرائس الماريونت، فالمرأة حسب حكمة الزنبق لابنتها هي “محرك العرائس على مسرح الحياة”.

وهذا لا يعني أنها تُهمِّش الرجل مقابل الانتصار للمرأة، فهي غير معنيّة – بالمرة – بتبنّي ما تطرحه النِّسْوية في صورتها الغربية أو نسختها العربيّة من آراء ومواقف تدافع بها عن المرأة ضدّ استلاب الرجل لها. وإنما يأتي اطّراد حضور تمثيلات للمرأة بهذه الكثافة في أعمالها، كتأكيد لحقيقة شاهدة عليها وقائع التاريخ ومدوناته؛ مفادها أن المرأة العربية بقدر ما نالها من إجحاف في تصورات الذكوريّة الذهنيّة وكتاباتهم، لكن كواقع معيش وتاريخي وسياق ثقافي حظيت بمكانة متميّزة وحقّقت مكاسب على مستوى التعليم والاستقلال المادي، لم تحظ به قريناتها في الغرب في هذا التوقيت المبكّر، وإبراز هذا الجانب هو ما تسعى الرواية في أحد أهدافها إلى تأكيده عبر استحضار تمثيلات لمرويّات عن النساء وحكايتهن التي لا تنضب، وتثري العوالم حبًّا وشبقًا وانتقامًا.

بصفة عامة المرأة التي تُقدِّمها هويان الحسن، وبمعنى أدق المشغولة بها في كتاباتها (الأدبيّة والتاريخيّة)؛ هي امرأة من لحم ودم، وليست كائنًا من ورق (رولان بارت)، حتى ولو كان لها امتداد في أفعالها من حكايات الأساطير والخرافات، إلا أنها امرأة تنبض بحب الحياة والانغماس فيها حدّ الثمالة، تهوى المغامرة والمجازفة ضد التيار دون أن يحدّها أو يردعها قانون أو عرف أو دين؛ فتصبح الطريدة والصياد في آنٍ واحد، امرأة تحيا بشغف التمرد والاستقلال، تجنح إلى النهل والاغتراف من كؤوس اللّذة حتى لو كان فيها هلاكها.

يتعامل الخطاب الروائي مع المرأة على أنها ليست عبئًا على الرجل أو مجرد تابع له، تحتمي بظله من أجل اكتساب المزيد من تقدير الذات وتحسين أوضاعها المعيشيّة، فهذا المفهوم غير وارد على عقلية نساء هويان الحسن البتة، فالمرأة عندها – على اختلاف وضعيتها الاجتماعية (فقيرة/غنية) والهوياتية (مسلمة/مسيحية/يهودية/صابئة…) – مستقلة متحرّرة ومتحققة، لها هويتها الخاصّة، وثقافتها التي تحتمي بها، وتجعل منها نموذجا يسعى الرجل لاستقطابها، ويتودّد إليها، بل يصنع المستحيل من أجل الظفر بها، على نحو ما فعل الضابط مظفر مهتيار مع عدوية/دادا، التي كانت زوجة خاله الأميرالاي، فوقع في غرامها، وعلى الرغم من إبعاده لمدة خمس سنوات؛ ليخدم على البارجة ياووز سليم التي تجوب البحر، إلا أنه عاد إليها بعد طلاقها من عوني باشا، وعاشت معه. وهو نفس ما فعله جرجس والد سيزار الذي تخلّى عن الرهبنة كي يتزوج من مقبولة أفندي التي أحبها.

يؤسّس الخطاب الروائي لمفاهيم متعلقة بالمرأة وعلاقتها بذاتها وجسدها من ناحية أخرى، وهي نظرة تؤكد أولاً احترام ذات المرأة لطبيعتها على أساس بيولوجي، وثانيا تصدير نظرة الاحترام للآخر/الرجل في تعامله مع معطيات الجسد – ومن ثم – فلا يأتي تعامل المرأة مع جسدها على أنه خطيئة تستحق التكفير، وإنما تتعامل باعتبار أن “اللذة [هي] دواء الروح عبر الجسد، [فـ] حين يلتحم الجسدان تتوهج الروح”، هذا ما حدث بين كيوان ودادا، وسيزار وفهرية، وفجر وكيوان، ودادا مع الضابط مهتيار. ومن قبل توحّد جسد الملك شام مع جسد الملكة عشيرة، فانبثقت من أوج العشق بينهما، التلّة التي بُني عليها قصر منجوك، ودارت أحداث الرواية حول شخصياته، وفي محيطه.

الوعي النسائي

لوحة سعد يكن
لوحة سعد يكن

يبدو أن الخطاب الروائي سواء على مستوى الصوت السردي والتمثيل والحكاية، ينحاز للمرأة، وهو ما يظهر عبر التمثيلات التي قدمتها المؤلفة للشخصيات النسائيّة، فتقدم صورة ناصعة للمرأة؛ فنماذج المرأة على اختلاف طبقتها (عليا ودنيا) وعرقها (عرب/تركمان/يهود/يونانية) ودينها (مسلمة/مسيحية/يهودية/صابئة) – وكأنها تنتصر لمقولة ابن عربي “لا يعوّل على شيء لا يؤنث”- امرأة مثقفة خريجة مدارس عُليا، وتجيد اللغات المتعدّدة، كما أنها مواكبة للمدنيّة الغربية في مسايرة الموضة وارتياد السينما، وقيادة السيارات. فنحن مع نماذج لنساء مدنيّات مفخرة في ظل سياق تاريخي موغل في القدم، كانت المرأة في بعض المناطق ما زالت تعيش في الخباء، والأمثلة على وعي المرأة وثقافتها كثيرة، فمثلاً مجيدة وفريدة ابنتا ممتاز بيك متخرجتان من مدرسة الراهبات الفرنسيسكانيات في حلب، وتقرآن باللغات العربية والتركية والفرنسية.

والزنبق التي اشتهرت كراقصة تخرجت من الأليانس، واشتهرت بالعزف على القانون وحفظها المعلقات السبع، وأشعار لامارتين ورابليه، عاشت أجواء صالون مريانا بكل ما فيه من ذائقة وفن وثقافة ولقاءات تخللها لعب الشطرنج والورق والمسابقات الشعرية والغناء والعزف ورقص السماح، كما لازمت الكاتبة التركية خالدة أديب التي كانت تعمل مراسلة وكاتبة لوكالة الأناضول، وعدوية ابنتها سجلتها لتدرس في المدارس الفرنسية في إسطنبول، وروزا ابنة المختار متعلّمة في مدارس أنطاكية وتتكلّم وتكتب التركية والفرنسية. وكذلك فجر ابنة يبرق والراعي كانت تقرأ بالفرنسية جيدًا والتركية بحكم عادة الناس كما تعلمت القراءة والكتابة بالعربية، وأخيرًا مجيدة ابنة فجر درست الطب في فرنسا وتخرجت طبيبة.

كما لا تكتفي المرأة بما تكتسبه من معرفة عن طريق المدرسة، وإنما أيضًا تنهل من مدرسة الحياة فنجد مثلا الزنبق أعدت ابنتها كي تكون متسقة مع حكمتها “أن تكون محركة العرائس”، فحرّرتها من التعصُّب لأيّ شيء، عوّدتها أن تكون حرة، وحريتها ثمرة معرفة حقيقية بالحياة، وألا تنتمي لأحد وألا يكون أحد سيدًا عليها، وعندما حرّضت الزنبق ابنتها على الزواج من رجل ستيني كان بغرض حماية جسدها بألا ينتهك. وبالمثل فجر تمنّعت عن الراهب، رغم كافة الإغراءات التي مارسها عليها، كما لم تستسلم لكيوان فيما بعد، وقاومته، ولم تمنحه جسدها إلا بعد أن اعترف بها كامرأة له.

يساوي الخطاب الروائي بين الرجل والمرأة في تعاملهما مع الخرافة والشعوذة، على الرغم ما يتمتعان به من ثقافة وعلم، كانا بمثابة الملاذ والحصن من الوقوع تحت سلطة الخرافة والنبوءة، إلا أن الظروف اضطرتهما أحيانًا للانصياع لهذه السُّلطة الغيبيّة؛ فالأختان مجيدة وفريدة خريجتا مدارس الراهبات، لا تقيمان وزنًا لحكايات عرَّافة المنطقة ودايتها الهدهدية، إلا أن مجيدة هرولت إليها، في محاولة لمساعدتها على إدرار اللبن، وبالفعل تنصحها بأن تذهب إلى مغارة تنبع فيها مياه تساعد المرضعات على إدرار المزيد من الحليب، لكن ما إن انصاعت للخرافة وخالفت ما تُمليه عليها ثقافتها حتى كانت نهايتها، فأثناء ذهابها إلى النبع هاجمها قُطّاع طرق، واستطاعوا أن يفتكوا بها وسلبها كل ما كانت تحمله من ذهب وأموال. وبالمثل تذهب بدرية إلى الهدهدية كي ترقّق قلب كيوان لها، وإن كانت تعلم الهدهدية أن مثل هذه الأعمال لا تُجدي في العشق. وبالمثل صادق باشا ينصاع وهو جالس في أحد ملاهي حلب، لغجرية رومانيّة، هربت من الحرب وكانت تعمل راقصة في الملهى، بأن تقرأ له ورق التاروت، فسمح لها بأن تقرأ حظه، وإن كانت حذرته عمّا ينتظر أخاه من خطر، وهو ما تحقّق فيما بعد.

استلاب الأنوثة

يدين الخطاب الروائي – بدون خطابية زاعقة – ممارسات الذكورية ضدّ المرأة، وما تعرضت له المرأة (خاصة نساء الطبقات الدنيا) من ممارسات انتهاكيّة اجتماعيّا ونفسيًّا وجسديًّا، في إشارة إلى أن ما تتعرض له المرأة من انتهاكات وعنف، ليس جديدًا، بل هو ممارسات قديمة ومرتبطة بوجود الطرف الآخر المتسيّد/الرجل، ونظرته للمرأة كجسد أو سلعة يُشبع به رغباته الجنسيّة الشبقيّة تارة، واحتياجاته الماديّة بتقديمها للآخرين مقابل أجر تارة أخرى.

فتطرد داخل الخطاب السّردي تمثيلات متعدِّدة لكافة أشكال العُنف التي مورست ضدَّ المرأة سواء بالمضايقات اللفظيّة والمعايرة (دادا وزميلاتها في المدرسة ووصفها بابنة راقصة، وأن المال الذي تصرفه عليها ليس شريفًا، وفجر وصفت بابنة الزانية والمجنونة)، أو عبر أشكال العنف الجسدي المفرط على نحو ما فعل بكري ابن القصاب مع فجر، وكاد يقتلها إلا أنه أخطأها وقتل صديقتها روزا، ومنها قتل كيوان لفهرية لتمردها عليه، ومحاولتها الهروب مع سيزار. علاوة على ما مارسته الذكورية من محاولات استغلال حاجات العوز جنسيًّا كما فعل القصاب مع يبرق، ومن قبل ابن عم يبرق الذي كان متزوجًا من ثلاث نساء، كان كل يوم يجبر امرأة من زوجاته على مرافقته ليقدمها لعابري السبيل لقاء أجر. ونفس الشيء حدث مع الخوري نوفل الشعيرات مع فجر التي سعى لاستغلال عطشها للمعرفة فساومها على جسدها.

هذا الاطراد يشير إلى ضعف حيلة الرجل في ترويض المرأة، ومن ثم لا يلجأ إلا لخطاب العنف كتأكيد لذكوريته وسلطته، وهو ما مارسه أبناء عم يبرق الذين ضربوها وتناوبوا على اغتصابها فيما بينهم ثم ألقوها للذئاب، ومن جانب آخر تعكس واقع الرجل المنصرف كليّة لإشباع غريزته، وإثبات سلطويته، في مقابل واقع المرأة المنصرف إلى العلم والمعرفة والمدنية.

لا يخفى على القارئ ما يستلمحه من انحياز للمرأة يتأتى في شكل تواطؤ بين النساء، وهذا التواطؤ يدخل في باب الحماية؛ فالمرأة سر المرأة؛ فالأم فريدة خانو تعلم أن فهرية شريكة لأختها بدرية في كيوان، ولا تتحدث وتصمت دون عتاب أو لوم، ويبرق عندما شعرت بأن الخوري يستغل جسد ابنتها، قالت “لا بأس يبيح الفقر كل شيء، استغلّي هذا الخوري النتن، إنه عنين لن يؤذيك، اطلبي منه ليرة ذهبًا”، والهدهدية تتواطؤ مع فهرية عندما تحمل للمرة الثانية من كيوان، وتساعدها للتخلّص من جنينها، ومن قبل ساعدت يبرق بتزويجها من إسطفان، وبالمثل تتواطؤ فجر مع أمها عندما تراها تحت القصاب، ولا تصارحها بما رأت. كما توطأت دادا مع فجر، وكان من نتائج هذا التواطؤ هو زواج كيوان منها، وتبدُّل حياتها تمامًا، من فجر ابنة الراعي إلى فايزة حرم كيوان باشا.

تتسم كتابات هويان الحسن بصفة عامّة بأن التاريخ وعوالم البادية والمرأة يشكلِّون حَجر الرؤية ومدارات السّرد في تجربتها الروائيّة، فلا تخلو رواية من رواياتها من هذه التيمات وقد تحضر التيمات مجتمعة في بعض أعمالها كما هو ظاهر في روايتي “بنات نعش” و”سلطانات الرمل”، وهذه المراوحة بين هذه التيمات في عوالمها، جعلت من بنية الرواية تميل إلى رواية الأجيال، فخيط الحكاية ممتد لا يتوقف عند الجيل الأول ممن وقعت عليه الحكاية، أو أسهم بصناعتها، وإنما يتواصل سير الأحداث وتأثيراتها على الأجيال المتعاقبة كما هو ظاهر في رواية “ألماس ونساء”، وروايتها الجديدة “أنطاكية وملوك الخفاء” بالإضافة إلى تنوّع الأماكن التي تبدأ من موطنها الأصلي سوريا، ثم تُغرِّب وتُشرِّق وتعود إليه من جديد. فالرواية تحكي مسيرة ثلاثة أجيال، وتقاطعات هذه الأجيال مع بعضها البعض، وعلاقتها بالأسطورة المشكِّلة للمكان، وهو ما يشبه الدائرة.

كما تتسم الرّواية على الجانب الفني بأنها رواية تكراريّة حيث الشخصيات تُكرِّر مسار الشخصيات السابقة في أخطائها ومصائرها أيضًا، فعوني يكرِّر سيرة والده صادق باشا في حبّ النساء والقوة والسيطرة، وحكاية شما وعشيرة وصراعهما بسبب العشق والغَيرة تتكرر مع فهرية وبدرية، فبدرية يصل بها الحقد إلى التآمّر على أختها، وتحريض عوني عليها وقتلها، وموت التوأم يتكرّر مثلما مات صادق باشا بعد موت ممتاز بيك، تموت بدرية بعد شهر من وفاة فهرية. التكرار يشمل إخفاء الماضي ففجر تخفي ماضيها عن ابنتها مجيدة، ولا تتعرف الأخيرة عليه إلا في مذكراتها، ومن قبل تعترف الزنبق لابنتها دادا (عدوية) عن ماضيها قبل وفاتها بقليل. وكلتاهما (مجيدة ودادا) تفتخر بهذا الماضي. وفي حالة مجيدة نراها تقول لها “لو تدركين كم أفتخر بك، انشريها إنها سيرة مدهشة، لا تتصوري كم تغيرت أنا”، وبالمثل تكرر بدرية حكاية مريم الهدهدية في تعلُّقها بقلب لا يُحبّها.

ومثلما تكررت الشخصيات تتكرّر – أيضًا – الحوادث فكيوان يواجه الدكتاتورية مرة ثانية، ففي أنطاكية فرّ من القوانين التركيّة المجحفة التي أقرتها الكماليّة، وباع كل أملاكه وفرّ إلى حلب، ويتكرّر الأمر مرة ثانية في ظل دكتاتورية جديدة، تتمثّل في عبدالناصر الذي زار حلب بعد دولة الوحدة العربية، وأذهله ثراؤها الفاحش ومعاملها.

لعبة السرد

يلعب الخطاب الروائي بالقارئ، فيأخذه في متاهات سردية، عن ماهية مؤلف الراوية؛ هل هو الذي اسمه/ها على الغلاف الأمامي للرواية، أم هو ذلك الذي يُفصح عنه الراوي داخل المتن، ومن ثم يكون المؤلف الخارجي بمثابة راوي رواية مكتوبة من قبل، ولا دور له إلا إعادة نشرها، أم أن الراوية هي الهدهدية، ولكن كيف وصلت الحكاية إلى المؤلف؟! هكذا تتم اللعبة التي أحد أهدافها التشويق والإثارة، خاصة مع حدوث جريمة مقتل فهرية التي لا ينكشف فاعلها إلا مع نهاية الرواية.

فمع الوحدة الأولى يخبرنا بأن ما سنقرأه هو في الأصل رواية كُتبت في الستينات بعنوان “صياد أنطاكية” صدرت في باريس، جرت أحداثها في شمال سوريا، ملخّصها قصة حب وحكاية عائلة وجريمة، ومع التوغل في الرواية، نكتشف أن عوني كتب رواية سعى من خلالها إلى إخفاء الوقائع، وقعها باسم مستعار “مراد أزدمير أوغلو”، لكن في مقابل حكاية عوني التي سعى إلى الإيهام لأن تكون رواية “لا أساس لها من الواقع”، كانت هناك مذكرات فجر التي أوصت بنتها مجيدة بنشرها، تفصح عن كل ما أراد إخفاءه، وتصحّح ما عبثت به حكاية عوني.

هكذا نحن مع حكايتيْن متعارضتيْن كما يبدو، علاوة على الرواية التي تحكيها الهدهدية عن المكان الذي ولدت تضاريسه من حكاية حب عنيف، فالجماعتان؛ الشمسية والقمرية يعتقدون بأن “هذه الجبال والوهاد والغابات تكوّنت في لحظات نشوة عنيفة” (ص 11)، حيث بني على تلة بين القريتين قصر لعائلة الباشوات الذين تحكموا في القريتين. هذا الصراع المحتدم داخل أروقة القصر، حيث الصراع بين عشيرة العاشقة وتيخا الكارهة للعاشقين، سببه الحكاية الأسطورية التي شكلّت المكان الذي نشأ فوقه القصر، ومنه تبدأ حكاية لعنة التوأم التي تحل على كل التوائم في عائلة منجوك باشا، والتي تبدأ مع ولادة صادق باشا وممتاز بيك، ولم تقف الأسطورة عند تشكيل المكان بل تغلغلت في وجدان السكان، الذين آمنوا بسطوة الأسطورة وتعاملوا معها على أنها حقائق، بل هي الموجهة لحياتهم.

فتستهل المؤلفة على لسان الراوي الغائب حكايتها، باستهلال معنون بملوك الخفاء “أنطاكية شمال سوريا” تعرّج فيه على أصل الحكاية وراويها “مريم الهدهدية” والأدوار الخفية التي يلعبها هؤلاء من أطلقت عليهم ملوك الخفاء “لأننا لا نستطيع أن نراهم فهم كائنات لا تموت” مصائرهم بأيديهم، “لذا تقدم لهم القرابين رجاء رضاهم، خشية غضبهم، لا أحد يستطيع خداعهم، وأشد ما يثير غضبهم هو النسيان”. فتوجد الملكة تيخا وهي عذراء قاسية دعست على عنق نهر العاصي فتغيّر مساره، وهناك الملك باخوس إله الخمر ذكر ماجن عاشق مغو موجود في كل الأمكنة، لا يستقر في مكان، والملكة عشيرة ربة السرور وبهجة الحب، هي عفريتة الحب والقبل والنشوة وحافظة أسرار الأنوثة المغوية، وأيضًا الملك شام الغامض الخفي الذي يطيل الغياب وعندما يحضر يبدّل المسارات.

تخالف مروية “أنطاكية وملوك الخفاء” توقعات القارئ العادي، فلا يجد فيها حكاية واحدة متسلسلة الأحداث ومتعاقبة الزمان فثمة تقاطعات زمانية تعود إلى أزمنة سابقة للروي، أو حتى يمكن تلخيص أحداثها؛ على الرغم من تعدّد أحداثها وصراعاتها، وإنما نحن مع مروية أشبه بحكايات متعدّدة، تتداخل فيما بينها وتكون شبكة من العلاقات التي تتراوح ما بين الحبّ والكره على نحو علاقة بدرية وكيوان من جانب، وعوني وفهرية من جانب آخر، وبين علاقة شبقيّة قائمة على المدنَّس والمحرّم كما في علاقة كيوان وفهرية وبدرية معًا، وهي العلاقة الشائنة التي ترقبها الأم بصمت، وثالثة تقوم على الصدود والانتقام على نحو علاقة بكري ابن القصّاب بفجر ابنة يبرق والراعي إسطفان، وبالمثل كيوان مع سيزار بسبب فهرية، فبلّغ عنه وقضى في الاعتقال خمس سنوات من عمره.

جراح الحب

لوحة سعد يكن
لوحة سعد يكن

ينهض البناء الروائي وهو ينظم الأحداث، على تقنية التعاقب والتوازي والتقاطع؛ فينتقل السّرد من حكاية إلى حكاية مع الاحتفاظ بالتقاطعات بين الحكايات ككل، حتى لا تبدو الحكايات منفصلة والشخصيات متباعدة، فلا المكان هو الموحّد للشخصيات وفقط، وإنما لارتباطهم بعلاقات تأخذ مناحي وأشكال متعدّدة، فيرتبط أهل القصر من عائلة منجوك بالخارج، (فريدة هانم، وابنتاها بدرية وفهرية) وكيوان وعوني، تربطهم علاقات متعِّددة مع أفراد من خارج القصر، تتراوح هي الأخرى بين الحب والكرة والمصلحة، ومن النوع الأول: عوني ودادا، وفهرية وسيزار، ومن النوع الثاني: علاقة كيوان بروزا التي تُدرِّس لأبنائه اللغة الفرنسيّة، وفريدة وبدرية بالهدهدية. ثم كيوان بفهرية.

        لئن كانت الرواية تسرد جانبًا من علاقات الحب المجهض ولوعات وآهات العاشقين (سيزار/مهتيار) والعاشقات (مريم الهدهدية/وبدرية/ فهرية/وروزا) فإن آلهة العشق لم تساو بين العاشقين على مستوى الذكور والإناث، فحسب نصيحة فجر لابنتها مجيدة “لا مكان للقديسين في قصص الحب، فهو مخاض وشهوات ورغبات… إن فُقدت فُقد الحب” (ص 252)، فهناك مَن قتلها الحب كفهرية، وهناك من أوصلها إلى الهلاك فنجت بالحب على نحو ما حدث مع يبرق التي ولهت بالطبيب الإفرنجي الذي كان يرافق بعثة أجنبية تنقُّب عن الآثار، وما إن ألقى ثمرته فيها حتى ولّى، فكانت من نصيب الراعي إسطفان الذي وقع في غرامها. والحب أيضًا أودى بروزا، ومن قبل كان سببًا في معاناة الهدهدية التي كانت مغرمة بصادق باشا، دون أن يلتفت إليها، وهو ما تكرّر مع بدرية وكيوان فقهرها هذا الحب فارتضت أن تقبل بجسده لكن قلبه كان مع فهرية، وهو ما أوغر صدرها وحرضها على التآمر عليها مع كيوان، والحب أحزن سيزار وفجعه وفي المقابل أسعد دادا، وأنقذ فجر بنت الراعي إسطفان. وهو ما يعني بقدر ما يجرح الحب البعض، فإنه يضمد جراح الآخرين.

التمثيل الجمالي للحياة

وتكشف الرواية عن التمثيل الجمالي للحياة في البيئة العربيّة وما تتمتع به من ثراءٍ معرفيّ ومدنيّة متقدمة؛ حيث النساء يرتدن المدارس والندوات، ويعزفن الموسيقى، ويواكبن خيوط الموضة، ومتابعة الفنانات وموضات الشعر واللبس وغيرها. كما أن البيئة الحاضنة عامرة بالرفاهيات كالسينما والملاهي والنوادي الثقافية والليلية. كما تعنى الرواية برصد التحولات السياسية وما تبعها من تحولات اقتصادية واجتماعية على بنية المجتمع، وتأثير الإيديولوجية السياسية التركية على المنطقة، بما فرضته من قوانين وضرائب، كان لهما تأثيرهما الكبير في الكثير من الهجرات وحالات النزوح إلى أماكن أخرى، بسبب الاضطهاد الديني والقومي أحيانًا، ومن هذا ما حدث لسيزار الفايز بعد أن أصدر البرلمان التركي عام 1944 قانونًا ترفع بموجه الضريبة الجائرة على أبناء الأقليات، فرفض سيزار الانصياع لهذه العقوبات الجائرة، فأُلقي به في معتقلات التعذيب في محاجر مدينة أسكيشهر.

وترصد الرواية التطورات التي حدثت في المنطقة مع قدوم الحركة الكمالية، وما أحدثته الحركة من تغريب وطمس للهوية الإسلامية، ومساعيها إلى تغيير الهوية التركية، بسياسة التتريك التي فرضتها، وما أتبعها من سياسات اغتيال للمعارضين وإبادة للمخالفين. فعملت على فرض قانون القبعات واعتبار الطربوش رمزًا للرجعيّة والتخلُّف، وفي نفس الوقت ترصد المطامع بتوسّعة نفوذ الدولة التركية باحتلال المزيد من الأراضي العربيّة، وتبعات هذه السياسة بما أحدثته من تشجيع للهجرات إلى شمال سوريا خاصة من المتدينين رفضًا للقبعات وتمسُّكًا بالطربوش رمزًا لهويتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكذلك ما مورس من سياسات التهجير للأقليات كالأرمن بعد سياسة الإبادة التي مورست ضدهم، وللمسيحيين وهو ما نتجت عنه مغادرة أكثر من مليوني مسيحي إلى اليونان.

لوحة فنية

تتجاوزُ الرِّواية علاقات الحبِّ والانتقام بين شخصيات الرواية إلى تقديم لوحة فنيّة يبرز من خلالها السياق الثقافي الثرّ للمجتمع العربي حيث تتردد أغاني منيرة المهدية وأم كلثوم، وروزا أشكنازي وماريكا نينو، وهي الأغاني التي منع أتاتورك إنشادها، وشاركه الدكتاتور اليوناني متاكيس، كما ترصد الإرهاصات الأولى والدعوات إلى تحرر المرأة التي سمعت عنها فجر وهي تتردد على النوادي في حلب، وحقّ المرأة في الاقتراع والتعليم والمساواة بالرجل. وبذلك تكون الرواية في أحد جوانبها لوحة إثنوغرافية عن المجتمعات العربية بسماحة أديانها وطقوسها وقدسية أساطيرها، وعادات شعوبها.

تنهض الرواية على جملة من الموروثات الشعبية التي تمتح من الأسطورة والخرافة، إضافة إلى التاريخ وحوادثه القديمة، فالأساطير هي المشكِّلة للمكان وللشخصيات، فالقصص في أنطاكية تنتمي إلى المياه، أي إلى أساطير ذلك النهر العاصي الذي يشق وجه الأرض صانعًا المدن والضياع والتاريخ، معيدًا رسم التضاريس والعالم مع كل فيضان. فالمكان يتشكل من فعل هذه الأساطير، فصخور المكان – كما تقول الأسطورة – “هي نساء متباهيات ببطونهن رمتهن تيخا العذراء القاسية التي لم تحبل قط بسهام قاتلة، ورأفة بهن حولتهن إلى صخور” (ص 219).

وتأثير سطوة الأسطورة كبير، انعكس على الشخصيات بصورة لافتة، فصارت تمتثل لأنساق المكان المتشكِّل بروح الأسطورة؛ فسيزار مثلاً كان قمريًّا “لا يفطم عِجْلةً إلا يوم يكون القمر بدرًا لتكون بقرة حلوبًا، ولا يزرع خضراوات إلا موسم الربيع وقت نقصان القمر، ويغرس بذور الأزهار مع ولادة كل قمر جديد. كان على قناعة بأن القمر يغيّر ألوان الزهور” (ص 39)، وبالمثل تمتثل فهرية لسطوة الأسطورة فتجمع الزهر وقت الفجر لأنه “هو الوقت الذي رأى فيه الملك شام الملكة عشيرة” (ص 46). كما أن اللعنة التي طاردت التوأم، وكانت بسبب غضب تيخا وغيرتها من شقيقتها عشيرة التي ضاجعت شام على التلة التي بني عليها قصر منجوك، تحل على الشخصيات. فيرتبط مصير الشخصيات ببعض، فتحب الأختان فهرية وبدرية رجلاً واحدًا، بل وترضى فهرية بأن تشارك أختها الرجل في السرير، وتجهض منه مرتين. ويمتد تأثير اللعنة في تقاسم التوأم المصير نفسه؛ فصادق باشا يموت بعد وفاة ممتاز بيك وبنفس الطريقة وعلى نفس الأعداء، وتموت بدرية بعد شهر واحد من موت أختها فهرية وإن صح قتلها.

في الأخير، جاء النص – كعادة كتابات هويان الحسن – بلغة شاعرية مترعة بالمجاز غير المتكلِّف، مطرزًا وموشى بمقولات واقتباسات من كتاب مختلفين، تأتي كتأكيد وتعضيد لفكرة ما أو تنتصر لوجهة نظر الراوي الضمني المنحاز للمرأة. كما اعتمدت في أجزاء عديدة من النص على اللغة الإخبارية، فقصرت مهمتها على التبليغ، وهو ما كان ظاهرًا في الاستهلالات المبدئية للنص، وأيضًا في تقديم الشخصيات، ومصائرها، فاللغة خالية من أيّ بلاغية، وتعتمد على الإيجاز، فهي تستهدف الإبلاغ وفقط. كما مالت اللُّغة إلى تقديم بعض الأحكام المناصرة للمرأة، عبر مقولات ترددت على ألسنة الشخصيات على سبيل المثال ما ذكرته غلوريا عن النساء كقولها “نحن النساء قطع من الجنان إذا أردنا” أو “نحن النساء فردوس هذه الأرض”، وبالمثل ما قالته الهدهديّة “إن هنالك نساء يحرّكن الريح بخطواتهن”.

وفي المجمل سعى النص إلى إبراز مكامن القوة عند المرأة، وشدّد على أن استلاب حريتها وجسدها ليس مسؤوليتها وإنما هو بفعل سطوة البطرياركية، فالمرأة قادرة على «أنْ تُخرج القط الذي يسكنها» كما حدث في “نازك خانم”، وأيضًا قادرة على أن تقود الغزلان في دروب الصحراء الموحشة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.