إنسان ما بعد كورونا
برأيي أن الأبطال الحقيقيين في مواجهة جائحة كورونا، والذين نغضّ الطّرف عنهم، ونتعمّد إهمالهم عن قصد، هم أولئك الذين ارتضوا «الخنوع»، وعوّدوا أنفسهم على الطّاعة دون مُساءلة، أولئك الذين التزموا بيوتهم، وتمنّعوا عن ترف المغامرة، أولئك الذين تسمّروا في الأسابيع الماضية خلف شاشات موبايلاتهم، يتلصّصون على أرقام الإصابات والوفيات، ولم يطّلوا على الشّمس في الخارج، حكموا على أنفسهم أن فقه جغرافيات الجائحة ومتابعة الأخبار المتناثرة القادمة من الصّين وما جاورها ومن إيطاليا وما حام حولها أهمّ من فقه الشّوارع التي يعيشون فيها.
أفرزت الأسابيع الأخيرة التي عمّت فيها الجائحة إنساناً جديداً، مثلما تطوّر الفايروس، ونوّع في وظائفه فقد تطوّر إنسان ما بعد كورونا أيضاً، صار أكثر قابلية للطّاعة، أكثر إذعاناً ورضوخاً، يتذلّل من أجل خبر سار، ولا بأس أن يكون شائعة، يوحي بأن الجائحة في تناقص وأن عدد الذين نجوا من الفايروس في تزايد، فإنسان ما بعد كورونا لا يحلم سوى بالشّيء الضّئيل، ليس يمنّي نفسه التوصّل إلى لقاح أو إلى دواء حاسم، فكلّ المحاولات التي بشّر بها الأطباء انتهى أمرها إلى الفشل، واقتنع الإنسان الجديد أن المأساة جماعية، بينما الخلاص منها لن يكون إلا فردياً، لا يهمّه أن يُصاب جار له ولا قريب منه، بل يهمّه أن يستيقظ صباحاً خاليا من أعراض المرض، أن يقيس نبضات قلبه، ويداوم على شهيق وزفير، دون حرج، أن يقيس حرارة جسمه، ولا تتعدى الرّقم المتّفق عليه، هكذا بات الإنسان في هذا العام منزاحاً إلى خلوته، ومدافعاً عنها، وفي نظره أن نجاته هي انتصار له، وكلّما شعر أنه راوغ الفايروس فكّر في الخروج قليلاً، أحياناً ليُحس بأنه لا يزال حياً وأحيانا أخرى كي يثبت للآخرين أنه أفضل حالا منهم، وأنه قد حقّق ما عجز عنه الآلاف من غيره، أن المرض لم يصبه، وينفي عن نفسه تهمة الخنوع، أنّه يخرج في تحدّ للمرض وللأوامر الحكومية التي حدّت من حركة النّاس.
أقيم في مدينة رفع عنها الحجر المنزلي، قبل فترة وجيزة، ولم يكن اليوم الأوّل من خروج النّاس إلى الشّارع سهلاً، بدا المشهد كما لو أنها بروفة من يتدرّب على فيلم عبثي. الخوف طغى على وجوه المارّة. يرتدي النّاس كمامات، ويخفضون رؤوسهم وهم يمشون. هل نتفق أن الأفواه التي تغطيها كمامة أكثر شعرية من الأفواه المكشوفة؟ وصلت إلى مكتبة عامّة، قصد إعادة كتب استلفتها قبل أن تصل الجائحة، فوجدت الموظّفة قد عزلت نفسها خلف زجاج، وتجنّبت أن تمسك الكتب التي ينوي القراء إعادتها، بل اكتفت بالإشارة إليهم أن يتركوها على طاولة، في زاوية معزولة، وهي تستعجلهم الانصراف.
لقد نجحت الجائحة في هدم كثير من القيم المثالية التي آمن بها، كهدم فرضية عيش مشترك بين البشر، بات اليوم كلّ واحد لا يتمسّك سوى بعيشه المنفرد. استسلمنا إلى الخوف وشيئاً فشيئاً سوف نستسلم إلى عدم الثّقة في بعضنا بعضاً. وقد نصل عما قريب إلى ما حذّر منه فيليب روث، فالخوف سيحوّلنا إلى جبناء، والجبناء يشيخون قبل الأوان. بتنا فعلاً نتصرّف مثل من تقدّم به الزّمن ويشعر بأن أجله سوف يدنو منه في أيّ لحظة.
ولكن هل للخوف تبعات أخرى؟ ألن يعزّز هذا الخوف مشاعر كراهية النّاس تجاه بعضهم؟ لقد جاءت الجائحة في الوقت المناسب كي ترفع من مقام اليمين المتطرّف، ولنا في حالة هنغاريا نموذجاً، لقد عزّزت هذه الحالة المرضية من معاداة الأجانب، لاسيما الآسيويين منهم، صار كلّ غريب حاملاً لشرّ مضمر في ناظر ساكنة البلد الأصليين، وعندما سوف يعلن عن نهاية الفايروس فلا يجب أن نندهش أن اليمين المعادي للأجانب قد تقدّم خطوات للأمام، كان سيعجز عليها في حالات طبيعية وصحيّة.
منذ الأيّام الأولى لهذه الجائحة، انطلقت خصومة كلامية بين بعض الفلاسفة، سارع سلافوي جيجك إلى التّبشير بعودة الشّيوعية، وأن شيوعية أممية ستنقذ البشر، من جهته هلّل ميشال أونفري بنهاية الحضارة المسيحية – اليهودية، يا لها من أصوليّة فلسفية! الاثنان استغلاّ الظّرف كي يروّجا لما ورد في كتب سابقة لهما، كسبا لعبة التّشهير والتّرويج ولكن لا واحدة من نبوءاتهما وقعت، فالغرب لم يتخلّ عن تقاليده، وليس يبدو عليه أنه سيفعل ذلك، تفرّق فلاسفة آخرون، كلّ واحد منهم يريد أن يثبت أنه الأكثر نضجاً مقارنة بزملائه، وتناسينا تفسير الوضع بحكمة، فجائحة كورونا يتحمّل مسؤوليتها، بالدرجة الأولى، نمط عيشنا المعاصر، تتحمّل مسؤوليته مجازفتنا في تحويل العالم إلى عالم تكنولوجي.
لن نختلف إذا قلنا أن كورونا «استعمرنا» بفضل الطّيران، فحركة النّقل الجوّي كانت سبباً في تسارع انتشارها، وسوف يدفع هذا القطاع الضّريبة الأعلى. منذ أكثر من شهرين خفّت حركة الطّيران، ولسنا نعلم متى سوف تعود إلى سابق عهدها، ويليها قطاع السّياحة الذي سيكون ثاني أكبر المتضرّرين. في السّابق كان الإنسان يخطّط لأسفاره ووجهاته، بحسب ما يتوفّر عليه حسابه البنكي، لم يكن يبالي بالواجهة، بل يسأل فقط عن التّكلفة، أما الآن وغداً، فسوف يخطّط خرجاته بالاتّكاء على «جغرافيات الجائحة»، فقد سلبت منه نزعة المغامرة، بات خانعاً مثلما أسلفنا الذّكر، خائفاً ومستسلماً للشّائعات، لن تكون إيطاليا وجهة محبّبة، كما كانت في السّابق، ولن تكون الصّين قبلة تجار الشّنطة وأصحاب شركات الاستيراد والتّصدير، ستنخفض حركة الطّيران الخارجية لصالح نظيرتها الدّاخلية، هكذا سيلتزم الإنسان بمحليته أكثر، سوف يراجع نفسه، لا خيار آخر له سوى الانطواء على ذاته، وبدل السّفر خارج الحدود سوف يكتفي بترحال داخل الحدود لا أكثر.
جائحة كورونا لم تكن وباءً على الجميع، بل هناك من استفاد منها، لاسيما بعض الأنظمة السّياسية، في كوسوفو استغلوا الوضع فأسقطوا حكومة ونابت عنها أخرى، في البرازيل بعدما سخر جايير بولسونارو من الفايروس، دفع البلد فاتورة عالية، بمئات الضّحايا والآلاف من المصابين، أقال وزير صحّة أول ثم ثانٍ وعيّن عسكرياً وزيراً في ذات المنصب، أما في الجزائر فقد اكتظت السّجون، في الفترة الأخيرة، بشباب الحراك، ومما يصلنا من أنباء في أكثر من مكان فإن الغضب سوف ينوب عن الخوف، ولو لحظياً، في الأسابيع القادمة، غضب شعبي ضدّ فشل بعض الحكومات في تسيير الأزمة. لكن إلى ذلك الحين سيظلّ إنسان ما بعد كورونا مستكيناً إلى عزلته، وكرهه للآخرين، مطوّراً فوبيا تجاه الجماعات، وليس من باب التشاؤم أن نقول إنها سوف تطول.