إنها‭ ‬والله‭ ‬مقامة

الأربعاء 2017/03/01
تخطيط: حسين جمعان

‬كم من‭ ‬الشعر‭ ‬مدفون‭ ‬تحت‭ ‬ركام‭ ‬اللغات؟‭ ‬العطش‭ ‬قدر‭ ‬الكائن‭ ‬الجمالي،‭ ‬كأن‭ ‬عليه‭ ‬لكي‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬الجوهر‭ ‬الشعري‭ ‬أن‭ ‬يتقن‭ ‬لغات‭ ‬العالم‭ .‬في‭ ‬كل‭ ‬لغة‭ ‬يختبئ‭ ‬جوهر‭ ‬شعري،‭ ‬المهمة‭ ‬الأساسية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬اكتشافه‭ .‬عمل‭ ‬هايدغر‭ ‬على‭ ‬استدعاء‭ ‬الشعرية‭ ‬الإغريقية‭ ‬لتدشين‭ ‬فلسفة‭ ‬حديثة‭ .‬الإغريق‭ ‬هم‭ ‬الأسلاف‭ ‬الطبيعيون‭ ‬للفلسفة‭ ‬المعاصرة‭ .‬التراث‭ ‬الإغريقي‭ ‬هو‭ ‬تراث‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬نهوضه‭ ‬من‭ ‬سباته‭ ‬الطويل‭ .‬من‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬العربي؟‭ ‬من‭ ‬يتجشم‭ ‬عناء‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬الشاقة‭ ‬التي‭ ‬تراوح‭ ‬مكانها‭ ‬مشكّلة‭ ‬صداعا‭ ‬ثقافيا‭ ‬مزمنا؟‭ ‬سؤال‭ ‬إشكالي‭ ‬له‭ ‬مذاق‭ ‬الهزيمة‭ ‬وتبجح‭ ‬الآخر،‭ ‬فتراثنا‭ ‬ليس‭ ‬لنا‭ .‬لم‭ ‬نحسن‭ ‬القراءة‭ .‬مهمة‭ ‬اكتشاف‭ ‬الذات‭ ‬لم‭ ‬تستكمل‭ .‬تشوّه‭ ‬التراث‭ ‬باختزال‭ ‬مزدوج‭: ‬اختزال‭ ‬الذات‭ ‬واختزال‭ ‬المركزية‭ ‬الغربية‭ .‬استبطنت‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭ ‬الصورة‭ ‬الدونية‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬المركزية‭ ‬الغربية‭ ‬فصارت‭ ‬تمتهن‭ ‬ذاتها‭ ‬التراثية‭ .‬ينبغي‭ ‬هنا‭ ‬استحضار‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ .‬كل‭ ‬صيحة‭ ‬تحديثية‭ ‬موشومة‭ ‬بالغرب‭ .‬أصبحت‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الموسيقى‭ ‬والشعر‭ ‬وحرية‭ ‬القول‭ ‬والفلسفة‭ ‬وفن‭ ‬الحياة‭ ‬دعوة‭ ‬تغريبية‭ .‬قصائد‭ ‬النثر‭ ‬والسرد‭ ‬منتجات‭ ‬غربية،‭ ‬الغرب‭ ‬علمنا‭ ‬ذلك‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بتفوّقه‭ ‬أو‭ ‬باغترابنا‭ .‬الغرب‭! ‬ذلك‭ ‬النعت‭ ‬الذي‭ ‬يمنح‭ ‬الشرعية‭.‬

ثمة‭ ‬استعادة‭ ‬للتراث‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أحادي‭ ‬وبنكهة‭ ‬دينية،‭ ‬أصبح‭ ‬التراث‭ ‬رديفا‭ ‬للتراث‭ ‬الديني،‭ ‬ابتلع‭ ‬الجزء‭ ‬الكل‭ .‬تم‭ ‬شطب‭ ‬مكوّنه‭ ‬الشعري‭ ‬الأعم‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬وأغراض‭ ‬المديح‭ ‬أو‭ ‬الهجاء‭ ‬أو‭ ‬المهاترات‭ ‬القبلية،‭ ‬اختفت‭ ‬هرطقات‭ ‬الفلسفة‭ ‬وضلالاتها،‭ ‬وسُحق‭ ‬وجه‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبي‭ ‬ليظل‭ ‬الوجه‭ ‬الرسمي‭ ‬المعتمد‭ ‬كجوهر‭ ‬أزلي‭ ‬أو‭ ‬شاهدة‭ ‬قبر‭ .‬إنه‭ ‬تراث‭ ‬ممزّق‭ ‬عانى‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬خطايا‭ ‬أبنائه،‭ ‬تراث‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬تراثا‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع‭ .‬من‭ ‬يجرؤ‭ ‬إذن‭ ‬على‭ ‬الحديث‭ ‬حول‭ ‬تعددية،‭ ‬حول‭ ‬كثرة،‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تراثات‮»‬؟

أليس‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬أن‭ ‬تحقيق‭ ‬النصوص‭ ‬الأكثر‭ ‬نبوغا‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الاستشراق‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬أدانه‭ ‬محقا‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد؟‭ ‬غيبوبة‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والتثبيت‭ ‬الغربي‭ ‬لشرق‭ ‬رومانسي‭ ‬حالم‭ ‬حينا،‭ ‬وديني‭ ‬أصولي‭ ‬حينا‭ ‬آخر‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الحي‭ ‬جثة‭ ‬هامدة‭ .‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬‭-‬مع‭ ‬ذلك‭-‬‭ ‬التصوف‭ ‬و‮»‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬وكل‭ ‬النصوص‭ ‬المهمشة‭ ‬لو‭ ‬لا‭ ‬هذا‭ ‬الاستشراق‭ .‬كان‭ ‬يحفر‭ ‬ويستخرج‭ ‬الكنوز‭ ‬فيما‭ ‬نحن‭ ‬غارقون‭ ‬في‭ ‬تفاهات‭ ‬الماضي‭ ‬وتمثلاته‭ ‬التيولوجية،‭ ‬في‭ ‬سذاجات‭ ‬الحقيقة‭ ‬الأحادية‭ ‬ونرجسية‭ ‬الطائفة‭ .‬اتضح‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬الأحياء‭ ‬أكثر‭ ‬موتا‭ ‬من‭ ‬الموتى‭ .‬هذا‭ ‬الانشغال‭ ‬أجهز‭ ‬على‭ ‬تعددية‭ ‬التراث‭ .‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تشكل‭ ‬واستقر‭ ‬قرونا‭ ‬هو‭ ‬نص‭ ‬محرّم‭ ‬ومحكوم‭ ‬بالإدانة‭ .‬تخدش‭ ‬الليالي‭ ‬نقاء‭ ‬الصورة‭ ‬المتخيلة‭ ‬للذات‭ .‬الليالي‭ ‬محض‭ ‬هراء‭ ‬وتفاهة‭ .‬تحاط‭ ‬الليالي‭ ‬بنظرة‭ ‬ازدرائية‭ .‬كل‭ ‬نتاج‭ ‬ذاتي‭ ‬محتقر‭ .‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بنا‭ ‬الليالي،‭ ‬شغلتنا‭ ‬عنها‭ ‬مماحكات‭ ‬الملل‭ ‬والنحل‭ .‬ليس‭ ‬بمقدورنا‭ ‬اكتشاف‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ .‬هي‭ ‬غريبة‭ ‬في‭ ‬بيتها،‭ ‬عليها‭ ‬انتظار‭ ‬عبقرية‭ ‬أجنبية‭ ‬لكي‭ ‬تعود‭ .‬قرأ‭ ‬ماركيز‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬فكانت‭ ‬قراءة‭ ‬العمر‭ .‬اكتشف‭ ‬حكايات‭ ‬شهرزاد‭ ‬فاكتشف‭ ‬ذاته‭ .‬القراءة‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬‮«‬قوة‭ ‬الحدث‮»‬‭ .‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكتاب‭ ‬ليس‭ ‬كما‭ ‬قبله‭ .‬يقال‭ ‬إن‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬بروست‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود‮»‬‭ .‬الليالي‭ ‬ألهمت‭ ‬الكثيرين‭ ‬قبل‭ ‬عودتها،‭ ‬بالمناسبة‭ ‬هل‭ ‬لازالت‭ ‬مدانة‭ ‬في‭ ‬محاكم‭ ‬مصر؟‭ ‬كم‭ ‬ماركيز‭ ‬وكم‭ ‬بروست‭ ‬نحتاج‭ ‬لكي‭ ‬تكرم‭ ‬الليالي‭ ‬في‭ ‬بيتها‭ ‬ويعود‭ ‬السندباد‭ ‬البحري‭ ‬من‭ ‬سفره‭ ‬الطويل؟

العودة‭ ‬تعني‭ ‬الاحتفاء‭ ‬مجددا‭ ‬وإعادة‭ ‬الاكتشاف‭ .‬العودة‭ ‬ليست‭ ‬نيستولوجيا‭ ‬وإنما‭ ‬خروج‭ ‬من‭ ‬وضعية‭ ‬الاغتراب‭ .‬ليست‭ ‬المسألة‭ ‬حنينا‭ ‬لهوية‭ ‬مفقودة‭ .‬تكمن‭ ‬المسألة‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الذات‭ ‬بضرورة‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الكوني،‭ ‬يبنى‭ ‬الكوني‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تتقوّم‭ ‬فيه‭ ‬الخصوصيات‭ .‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بقطيعة‭ ‬مع‭ ‬الكوني‭ ‬أو‭ ‬الدخيل‭ ‬أو‭ ‬الآخر‭ .‬على‭ ‬العكس،‭ ‬يتعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬بحوار‭ ‬داخل‭ ‬الكوني‭ ‬ومعه‭ .‬ينبغي‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬نفسها‭.‬‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬ماضيها‭ ‬عبر‭ ‬إعادة‭ ‬الاكتشاف‭ ‬الدائم‭ ‬لعبقريتها‭ ‬الماثلة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ .‬تبيت‭ ‬الكينونة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ .‬والشعر‭ ‬هو‭ ‬الكنز‭ ‬المنثور‭ ‬والمخبوء‭ ‬في‭ ‬التراث‭.‬ينبغي‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭ ‬واكتشافة‭ ‬عبر‭ ‬إقامة‭ ‬الحوار‭ ‬ليس‭ ‬مع‭ ‬الثقافة‭ ‬الرسمية‭ ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬المقموع‭ ‬فيها‭ .‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬المهمش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة،‭ ‬مع‭ ‬الشعبي،‭ ‬الضاحك،‭ ‬الخرافي،‭ ‬مع‭ ‬المقامة‭ ‬التي‭ ‬احتقرها‭ ‬محمد‭ ‬عبدة‭ ‬وشطبها‭ ‬وهو‭ ‬الإصلاحي‭ ‬الكبير‭ .‬المطلوب‭ ‬إعادة‭ ‬استنطاق‭ ‬هذا‭ ‬الموروث،‭ ‬استنطاقا‭ ‬أبديا‭ ‬ودائما‭ ‬ومستمرا‭ .‬تتحول‭ ‬الذات‭ ‬ويتحول‭ ‬معها‭ ‬الموروث‭ .‬تعريف‭ ‬المرورث‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬عمل‭ ‬متحول‭ ‬ومفتوح‭ .‬تهرب‭ ‬التعريفات‭ ‬وتنسحب،‭ ‬وليس‭ ‬النقد‭ ‬بصفته‭ ‬فنا‭ ‬ضد‭ ‬الفن‭ ‬أو‭ ‬معه‭ ‬إلا‭ ‬محاولة‭ ‬دائبة‭ ‬للإمساك‭ ‬بالتعريفات‭ ‬الهاربة‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬يوما‭ ‬كونديرا‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬تُفهم‭ ‬أعمال‭ ‬عبد‭ ‬الفتاح‭ ‬كيليطو‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والقارئ‭ ‬الحداثي‭ ‬للتراث،‭ ‬وهو‭ ‬المقتفي‭ ‬خطى‭ ‬باختين‭ ‬وتدودورف،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬النص‭ ‬المهمش،‭ ‬لا‭ ‬ننس‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬المنحدر‭ ‬منها‭ ‬باختين‭ ‬كانت‭ ‬مهجوسة‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬بهويتها‭ ‬السلافية،‭ ‬كانت‭ ‬مسكونة‭ ‬برعب‭ ‬الآخر‭ ‬الغربي‭ .‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬عبد‭ ‬الفتاح‭ ‬كيليطو‭ ‬مشغول‭ ‬بردم‭ ‬الهوة،‭ ‬تسكنه‭ ‬هواجس‭ ‬التجسير،‭ ‬ضرورة‭ ‬الحوار‭ ‬ليس‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬بل‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬نفسها‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬والتراثية‭ .‬يلح‭ ‬كيليطو‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬التراث‭ ‬والحوار‭ ‬معه‭ ‬وترجمته‭ ‬ليكون‭ ‬معاصرا‭ ‬وحديثا‭ .‬المطلوب‭ ‬قراءة‭ ‬معاصرة‭ ‬للتراث‭ ‬لإنجاز‭ ‬وعد‭ ‬مصالحته‭ ‬مع‭ ‬الحداثة‭ ..‬والحداثة‭ ‬هي‭ ‬هكذا‭ ‬‮«‬مادة‭ ‬تقليدية‭ ‬مستعملة‭ ‬في‭ ‬منظور‭ ‬جديد‮»‬‭ .‬لكن‭ ‬جهده‭ ‬النقدي‭ ‬تركز‭ ‬حول‭ ‬فن‭ ‬المقامة‭ .‬اعتبر‭ ‬المقامة‭ ‬سلف‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬والأب‭ ‬الشرعي‭ ‬للسرد‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬تماما‭ ‬مثلما‭ ‬اعتبر‭ ‬أدونيس‭ ‬نصوص‭ ‬النفّري‭ ‬قصائد‭ ‬نثر‭ ‬مبكرة‭.‬

إنها‭ ‬والله‭ ‬مقامة‭! ..‬المقامة‭ ‬خطاب‭ ‬في‭ ‬مجلس،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬وفرة‭ ‬الأصوات‭ ‬وتشابكها‭ ‬وتداخلها‭ ‬وتقاطعها،‭ ‬المقامة‭ ‬خطاب‭ ‬روائي‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬عناه‭ ‬باختين،‭ ‬هناك‭ ‬إذن‭ ‬تعددية‭ ‬في‭ ‬الأصوات‭: ‬صوت‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬صوت‭ ‬الجنون‭ ..‬لكن‭ ‬في‭ ‬المقامة‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬الشكل‭ ‬تحديدا‭ ‬تحتشد‭ ‬وفرة‭ ‬من‭ ‬الأنواع‭ ‬أيضا،‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬النثر‭ ‬المسجوع‭ ‬غالبا،‭ ‬المديح‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الهجاء‭ .‬هي‭ ‬مثل‭ ‬الرواية‭ ‬شكل‭ ‬هجين‭ ‬بلا‭ ‬أب،‭ ‬كتابة‭ ‬حديثة‭ ‬تائهة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري‭.‬

غير‭ ‬أنها‭ ‬شكل‭ ‬يقبل‭ ‬المحتوى‭ ‬ونقيضه‭ .‬ففي‭ ‬المقامة‭ ‬يوجد‭ ‬الرسمي‭ ‬والشعبي،‭ ‬المعتمد‭ ‬والمهمش،‭ ‬الهزلي‭ ‬والجاد،‭ ‬القاعدة‭ ‬وانتهاكها‭ .‬الجهد‭ ‬الشكلاني‭ ‬والبنيوي‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬كيليطو‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يستكمله‭ ‬بترجمة‭ ‬معاصرة‭ ‬لمنطوق‭ ‬المقامة‭ ‬وجملتها‭ ‬التأويلية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تختزل‭ ‬بحسب‭ ‬تعبير‭ ‬بول‭ ‬ريكور‭ .‬المقامة‭ ‬كالتراث‭ ‬متعددة،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬المقامات‭ ‬تختصر‭ ‬التراث‭ ‬وأن‭ ‬الأخير‭ ‬كله‭ ‬مقامة‭.‬

تتنازع‭ ‬الكلمة‭ ‬استعمالات‭ ‬متشابكة،‭ ‬المقامة‭ ‬شكل‭ ‬أدبي‭ ‬لبنية‭ ‬سردية،‭ ‬لكننا‭ ‬نلحظ‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬مفردات‭ ‬كالقيامة‭ ‬والمقام‭ ‬تستمد‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الجذر،‭ ‬المقام‭ ‬عند‭ ‬المتصوفة‭ ‬رتبة‭ ‬وجودية‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬المقامة‭ ‬فسحة‭ ‬وجودية‭ ‬أو‭ ‬كرنفال،‭ ‬أما‭ ‬القيامة‭ ‬بمفهومها‭ ‬الخلاصي‭ ‬فتمثل‭ ‬أمامنا‭ ‬بمعنى‭ ‬العودة‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬حلة‭ ‬جديدة‭ .‬تعني‭ ‬قيامة‭ ‬المخلص‭ ‬عودته‭ ‬المكللة‭ ‬بالمجد‭ .‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يمكننا‭ ‬استعادة‭ ‬التراث‭: ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬مجددا،‭ ‬أن‭ ‬يخضع‭ ‬للنقد،‭ ‬والنقد‭ ‬تعليم‭ ‬فن‭ ‬القراءة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الاستطيقي‭ ‬الإيطالي‭ ‬كروشته‭.‬

كان‭ ‬أبوالفتح‭ ‬الإسكندري‭ ‬يتنكر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مقامة‭ ‬تحت‭ ‬قناع،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬الراوي‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬هشام‭ ‬بفضحه‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الدهشة‭ ‬والمرح‭ .‬مع‭ ‬كل‭ ‬مقامة‭ ‬–وأنا‭ ‬هنا‭ ‬أخص‭ ‬مقامات‭ ‬الهمذاني‭-‬‭ ‬يتكرر‭ ‬هذا‭ ‬الاكتشاف‭ ‬المدهش‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬لازمة‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬والله‭ ‬أبو‭ ‬الفتح‭ ‬الإسكندري‮»‬‭ .‬الفضيحة‭ ‬تختتم‭ ‬المقامة‭ ‬أما‭ ‬قراءة‭ ‬التراث‭ ‬فتبدأ‭ ‬بها‭ .‬ثمة‭ ‬من‭ ‬ينتظر‭ ‬خلع‭ ‬أقنعته‭ ‬العديدة‭ ‬ليدهشنا‭ ‬نحن‭ ‬أيضا‭ ‬بلازمة‭ ‬تتكرر‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬والله‭ ‬تراث،‭ ‬إنها‭ ‬والله‭ ‬مقامة‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.