ابن المنسى
ترتفع سراية المنسي في مدخل القرية شامخة في وجه الريح، تحتل مرتفعاً من الأرض يبدو للأعين الرائحة والغادية علم على الطريق السريع، ذلك الطريق الذى يصل العاصمة بقريتنا مباشرة ماراً على بقية القرى والكفور، نراها من مكاننا في الأراضي الواطئة حولها فنضطر دائما الى رفع الرؤوس لرؤيتها، ومتابعة أنوارها التي تصنع غيمة من ضياء مبهر حولها، يصنع مزيداً من الهيبة لها والرهبة في صدورنا، خاصة حينما نرى بأم أعيننا العربات الفارهة قادمة في وضح النهار، حاملة وجوهاً ليست كوجوهنا ونساء مختلفات عن نسائنا، مما يضطرنا الى التحديق بأعين مغسولة بماء الدهشة إلى ما نرى، وقلوبنا تغوص وتغوص في سراديب الخيال والوهم باحثة عن ماهية هذه الكائنات، وهل هي حقا مصنوعة من ذات الطين الذي صنعنا، ولأننا أحيانا نسمع كلمة من إحداهن أو أحدهم فقد كان يقيننا أنهم من عجينة أخرى غير عجينتنا، فالمرأة منهن تفيض برقة وأنوثة وبهاء يختلف كلياً عما ألفناه في بيوتنا، والرجل منهم يبدو عليه وقار وهيبة تضيع معها هيبة محمد محمود عمدة قريتنا ذاته، وقد اعتاد صغارنا رؤية الكبار في القرية يتحدثون عن المنسي وسرايته بتقدير صارم، ورغم أن البعض خاصة في السنوات الأخيرة بدأ يهاجم المنسي نفسه، ويهاجم تصرفاته وغلوه في تكبره ونظرته لمن حوله من أهل القرية إلا أن الهجوم لم يتطرق يوماً إلى التقليل من مكانته ووضعه أبداً، إلى أن ابتليت قريتنا بوباء لم نعرف له مسمى، انقض على البيوت كالفيضان غامراً الصغار قابضاً على أجسادهم الهشة بمخالب قاسية لا ترحم، قاطفاً أرواحهم، متنقلاً من بيت إلى آخر في سرعة وقوة داهمتين، ناشراً الرعب والخوف والفزع أينما حل.
جأر الخلق بالشكوى مطالبين العمدة محمد محمود أن يبذل مزيدا من الجهد لمواجهة هذا البلاء ومحاربته والانتصار عليه بدلاً من ذلك التراخي الذي يبديه، وأن يطلب أصحاب الطب والحكماء لمعالجة المرض وإيجاد مصل واق يكون سياجاً يحمى البقية الباقية من الصغار من الإصابة بهذا المرض العضال، غير أن الشكوى ظلت تدور من فم إلى آخر دون أن تتخطى الدور والحوانيت والأسواق والمقاهي شبه الخالية في القرية، إلى أن حدث ما ليس في الحسبان، ذلك أنه في صبيحة يوم فوجئ الفلاحون بأهل الرعاية من أصحاب الطب والحكماء يهبطون إلى القرية، يدورون في الحارات، يدقون أبواب الدور، يقدمون الأمصال والأدوية للوجوه المحملة بغبار الدهشة والعجب لهذه الرحمة المفاجئة، والعطف الذي لم يكن على بال، الأكثر من هذا أن الوجوه القادمة بالدواء والأمصال كانت تحمل بسمات رقيقة تواجه بها وجوه العامة لدينا، وتطالبهم بسرعة الذهاب إلى المستشفيات لاستكمال العلاج، ويعدونهم بمزيد الرعاية، ليس هذا فقط بل يطالبون الأصحاء أيضا بمداومة الكشف على أنفسهم دورياً للاطمئنان على صحتهم وتناول الأمصال للوقاية من المرض، وفور حدوث هذا ورغم الفرح الغامر والارتياح الشديد لهذا الاهتمام الذي فاجأ الجميع، ومظاهر الامتنان التي بدت على وجوه الخلق، إلا أن بعض الألسنة كان لها رأي آخر، إذ لاكت كلمات شامتة تقول إن المنسي رغماً عنه قام باستدعاء أهل الطب والحكمة إلى القرية، وإنه لم يكن لديه الخيار للرفض أو القبول.
وتفسيراً لهذا الأمر قيل إن ولده أصيب بأعراض المرض. اعترض بعض الخلق من قريتنا قائلين:
– وهل عائلة المنسي يصابون بالأمراض مثلنا؟
ضحك الكثيرون من السؤال وإن لم يبال أحدهم بالرد، أكملوا الهمس قائلين إن المنسي امتلأ وجهه برعب لم يره أحد يعتريه من قبل، واجتاحت أعضاءه رجفة لم تنتبه لها عين من قبل، وبعث في طلب الأطباء والحكماء إلى سرايته فوراً، طالبهم بسرعة علاج ولده الوحيد والسهر على راحته، وقد قاموا فوراً بكل ما يملكون من طاقة بعمل إجراءات الوقاية لمن في المكان من الأصحّاء، مع توجيه جل اهتمامهم للصغير المريض، غير أنهم في صبيحة اليوم التالي لحضورهم حينما دخلوا عليه حجرته كالعادة لم يجدوه، سألوا الحراس، لا جواب، بحثوا في أرجاء السراية الواسعة، فتشوا حجراتها، سراديبها، حديقتها، سطحها، لا شيء هناك كأنما قد خطفه طائر خرافي وفرّ به، أو انشقت الأرض وابتلعته ثم عادت إلى سيرتها، إذ لا يعقل ولا يخطر على بال إنسان أن كائنا من كائنات القرية يستطيع الدخول إلى السراية دون إذن الحرس والكلاب المدرية التي تطوف بالأرجاء صبح مساء مراقبة الأسوار ومهددة كل من يجرؤ على الاقتراب بالويل.
هنا يقول من رأى تلك اللحظات من الخدم الذين اصطفاهم المنسي من أهل القرية للقيام بخدمته، وكانوا دوماً يفخرون بأنهم خدمه، ويسيرون في الطرقات رافعي رؤوسهم تيها بنوالهم عطفه ورعايته، يقولون إنهم رأوا وجها قد تحول إلى جمرة نار، وعيوناً قد تجوفت واحترقت وتصاعدت منها ألسنة اللهيب، ولساناً قد تدلى ملقياً بأقذع السباب لكل من حوله، متهماً إياهم بالإهمال والتسيب، والتسبب في فقدانه لولده، مهدداً من فعل هذا بويلات لا يعلمها إلا الله، وهو يصرخ صراخاً يهز أرجاء القصر المنيف، ومضى يبحث بنفسه عنه، يفتح الغرف والقاعات، والكل يهرولون خلفه، يبحثون معه، ورغم طول البحث ودقته لم يصلوا إلى شيء.. طالب الحرس بالانتشار فوراً في الحارات والأزقة، في الحانات والمقاهي والخانات، يفتشون كل شبر في أرض القرية حتى يعثروا عليه، تحركوا بكلابهم لتنفيذ الأمر، عند باب السراية الكبير وهم يتدحرجون هابطين إلى الأراضي الواطئة حولهم، وقد ارتجفت منهم القلوب وزاغت العيون خوفاً من غضب المنسي وانتقامه إذا عادوا والفشل خائبين، لحظتها ألقى عليهم حجرا لم ير أحد مصدره، حجر صوّب ليكون في مرمى أبصارهم، يرونه جميعا، وتحت أشعة الضوء المترامية يرون حوله ورقة ملفوفة بعناية ومربوطة برباط قوى حتى لا تفلت منه، فضّوها فوراً، طاروا بها إلى المنسي، هرولت عيناه على الحروف:
– (ابنك وسط المرضى أمثاله في مكان آمن، لن تصل إليه مهما حاولت، إذا أردت علاجه عليك أن تأمر بعلاج كل المرضى في القرية)
اتسعت عيناه عجباً، يساوون ولده بأبنائهم
حاول استيعاب الأمر وهو يتساءل في نفسه:
– كيف يفعلون هذا؟
ابنه ابن المنسي وهذا معلوم للجميع، أما أبناؤهم فمهما كثروا لن يزيد أعظمهم عن كونه خادما في قصره. صرخ في حرسه وكلابه مطالباً بهدم القرية على من فيها فوراً. مقسماً برأس أجداده أن يعلّم هؤلاء المجرمين مالم يتعلموه طيلة حياتهم. غير أنه تذكر أن ولده الوحيد بين أيديهم.
يقول من رأى تلك الواقعة وشاهد أحداثها في قريتنا أنه لما أراد المنسي بعد عودة ولده إليه أن يطلق حرسه وكلابه لتأديب القرية الآثمة كما سماها لم يجد رؤوساً محنية تنتظر العقاب كما تعود أن يرى.