احتفاء بالموسيقى

ليس انكسارا بل إجهاز على شرط مسبق الصنع
الخميس 2019/05/30
لوحة نهاد الترك

قصيدة النثر، مالئة الدنيا وشاغلة النقاد العرب، تمثل في هذه الإضاءة جزءاً مركزياً من عملية مثاقفة حضارية (acculturation) قصدية شاملة. هذا تحصيل حاصل. والمقصود بالمثاقفة الاستحواذ على خصائص حداثية من خلال الاتصال الثقافي المباشر والتفاعل الذي يعقبه. وأما عناصرها فتشتمل على القيم والتقنيات النصية والتعديلات التي تطرأ عليها عندما توضع في سياق تجربة شعرية مختلفة أو ربما مغايرة. فهل يصح بعد قراءة الدرس النقدي المتضمن في اعترافات أنسي الحاج (العدد 49 من الجديد)، القول إن خصائص قصيدة النثر ممثلة بهذا الشاعر المؤسس وصاحب الكتابة الشعرية الحديثة، هي حصيلة مثاقفة قصدية واعية لذاتها؟ وماذا عن المؤثرات التكوينية الأخرى التي يشير إليها الشاعر وأعني بها دراسته وقراءته الخاصة للشعر العربي؟

يدشن أنسي الحاج تجربة تؤكد (بلا هوادة) مغايرتها لنقد شعبوي سائد لقصيدة النثر، نقد يحتفي بالإجهاز على دور الإيقاع (لحمة وسداة) موسيقى الأوزان المعتمدة في شعر القدامى. يقول “أنا أحب الإيقاع ولم أكتب قصيدة نثر واحدة إلا وفيها إيقاع. بل أكثر من ذلك يمكنني القول إن قصائدي تتوافر على الوزن… وأنا أتحدث عن أوزان غير تقليدية كما هو الحال مع بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي..”.

ويستدرك “وهذه يمكن أن نسميها ‘أوزان شخصية’ غير أنها تبقى أوزاناً في النهاية”.

هذه الأوزان الشخصية يستقصي أبعادها بالقول إنه إذا ما عدنا إلى الأوزان العربية التقليدية لوجدنا أنها وضعت استناداً إلى قصائد كانت موجودة قبل الوصول إلى تقنين الأوزان المعروفة. فكان لكل شاعر عربي إيقاعاته الخاصة التي يكتب قصيدته على أساس منها.

وبعبارة أخرى فإن هذه الإيقاعات ليست إيقاعات فحسب، بل هي أوزان يرى الشاعر أن قصائده تنطوي عليها. فالإيقاع كما يقول، ماثل في أيّ كلام نثري.. إنه “إيقاع الدورة الدموية لصاحبها”. ولكي لا تصير الأوزان مقياساً للاقتداء يشير أنسي إلى أنها غير صالحة للقياس عليها.. ولكن كتابته لهذا الضرب من الشعر ليست “خارج الإيقاع الموسيقي تماماً ولا هي عزوف نهائي عن الموسيقى، ولا هي ثورة تجهز على الموسيقى، وإنما هي موسيقى أخرى أسميناها في ذلك الوقت الموسيقى الداخلية”.

II

هذا الاحتفاء بالموسيقى يجده الشاعر كقارئ ومعجب، في كتابات كتّاب لبنانيين كتبوا شيئاً من النثر الشعري الذي كان محط إعجابه، خصوصاً أولئك الكتاب الذين جمعوا بين الغنائية والتوتر.

كما أنه، وهو الذي يصف نفسه بأنه شخص ملول جداً، كان يميل دائماً إلى الكاتب الذي يشعر بأن كتابته تنبض بين يديه. لم يكن يحبّ جبران لأن “كتابته مرتخية”. وبينما كان زملاؤه معجبين بجبران، كان يتجنبه لأنه يشعره بالضجر… جبران  “كاتب يخيّم عليه السكون”.

والإشارة الذكية إلى الغنائية تعيدنا إلى الإيقاع خصوصاً.. وإلى الموسيقى بشكل عام. وفي عام 1942 قال ت.س. إليوت في محاضرة ألقاها في جامعة “غلاسكو”، وكان عنوانها “موسيقى الشعر”، ما يذكرنا بدرس الاعترافات النقدية. يقول إليوت إنه سواء كان الشعر يقوم إيقاعه على نظام نبر المقاطع، أم كان إيقاعه يقوم على عددها، وسواء أكان الشعر مقفّى أم كان غير مقفّى، وسواء التزام شكلاً محدداً أم تحرر من الشكل، فإنه لا يستطيع أن يستغني عن صلته باللغة المتغيرة التي يستعملها الناس العاديون.

يدشن أنسي الحاج تجربة تؤكد (بلا هوادة) مغايرتها لنقد شعبوي سائد لقصيدة النثر، نقد يحتفي بالإجهاز على دور الإيقاع (لحمة وسداة) موسيقى الأوزان المعتمدة في شعر القدامى. يقول “أنا أحب الإيقاع ولم أكتب قصيدة نثر واحدة إلا وفيها إيقاع. بل أكثر من ذلك يمكنني القول إن قصائدي تتوافر على الوزن… وأنا أتحدث عن أوزان غير تقليدية كما هو الحال مع بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي..”

ويضيف “ربما يبدو غريباً أنني حين أزعم أني أتحدث عن موسيقى الشعر، أن أذكّركم أولاً بأن موسيقى الشعر ليست شيئاً يوجد منفصلاً عن المعنى، وإلا وجدنا شعراً له جمال موسيقيّ كبير دون أن يكون يعني شيئاً، ولم يحدث لي قط أن اطّلعت على شعر من هذا النوع. والأمثلة التي تبدو استثناء من القاعدة ليست في حقيقتها إلا اختلافاً في درجة الشعر من الموسيقى. فهناك قصائد تثيرنا بموسيقاها بينما نأخذ معناها أمراً مسلّماً به، وهناك قصائد أخرى نعطي اهتمامنا إلى معناها بينما تثيرنا موسيقاها إثارة لا ننتبه إليها. ذلك أن بين معنى الشعر وموسيقاه ارتباط حيوي، وكلّنا يعرف أن معنى القصيدة قد يضيع تماماً إذا ترجمت إلى كلمات منثورة. فالمعنى في الشعر يتطلب موسيقى الشعر حتى نفهمه الفهم الكامل”.

هذا الاحتفاء بالموسيقى في الشعر صادر عن شاعر وناقد كبير من صنّاع الحداثة الشعرية، كان له أثره البالغ في توجيه شعرنا العربي الجديد، وهو يوصلنا باعترافات أنسي الحاج وإشاراتها الذكية والممتعة إلى المكان الذي تقيم فيه شعريته الخاصة بأوزانها الشعرية الخفية. بل لعل من الممكن القول إن احتفاء أنسي بموسيقى الشعر وأوزانه الخاصة به يمثل درساً في شعرية نماذج من قصيدة النثر ما زالت إقامتها في لا مكان.

III

إشادة أنسي الحاج بشعرية توفيق صايغ، واستدعاء شعره إلى تقييم قصيدة النثر، يؤكد بل يجزم أنه لم يعد من المقبول أن يقاس الشعر العربي الحديث بمقاييس مسبقة الصنع.

هل في ذلك تناقض مع الجلبة والضوضاء التي أثيرت وتثار حول دور كتاب سوزان برنار في ظهور قصيدة النثر العربية؟

طبعاً هناك تناقض.

وربما كان الذين يصفون المرحلة اللاحقة على “لن” بأنها مرحلة انكسار لديه ما زالوا ينطلقون من مفهوم سوزان برنار لقصيدة النثر. بل لعلهم يتمسكون بهذا المفهوم الخاص بالتجربة الفرنسية باعتباره شرطاً نقدياً مسبق الصنع. نؤكد حصول هذا التناقض ليس فقط من موقع النقد الأدبي أو الثقافي بل من موقع النقض المعرفي تحديداً. وفي إشارة أنسي إلى ما أسماه بـ”الخطأ القرائي” في تقييمه لرأي الذين يرون أن قصائده التي أعقبت “لن”، موقف اعتذاري أو ربما دفاعي. يقول “كتاباتي اللاحقة أكثر شعرية مما قدمته في ‘لن’..” ويضيف أن أهم من ذلك أنه لا يريد، وهو الهارب من كوابيسه، من أحد أن يذكّره بتلك التجربة “فقد وضعها في كتاب لينتهي منها، ووضع مع هذه الكوابيس لغة الكوابيس أيضاً”.

هل يمكن القول إن مرحلة “لن” دشنت مثاقفة فرنسية المنزع يعلن أنسي أنه لم يعد منفتحاً عليها؟.. يمكن.

وربما من الأفضل القول إن التدشين يشمل مفهوم قصيدة النثر المسبقة الصنع. وبهذا يتحول مفهوم المثاقفة إلى آخر إيجابي النزوع ومسيّر بمكانيزم الذوق الشخصي وحده.

الإشارة إلى سوزان برنار كانت تعني تحقيق غلقة (closure) قصيدة النثر. كما أن احتفاء أنسي بشعرية توفيق صايغ ذات المنزع الأنجلو ساكسوني هو بمثابة احتفال بالتخلص من هذه الغلقة.

وفي دراسة إليوت “التراث والموهبة الفردية” ما يبرز هذا الموقف ويعززه. إذ يحتفي الشاعر الإنكليزي بالتقليد (imitation) باعتباره يعزز الصلة (الموضوعية) اللاشخصية (impersonal) بين الكاتب وبين التقاليد (الشعرية) التي سبقته. ويضيف: ولكن إذا ما دخلنا في علاقة حميمة مع شاعر معين، بصرف النظر عن مستواه.. فإننا عندئذ: “لا نقلد.. فقد تغيرنا، وعملنا هو عمل رجل تغيَّر. لم نقترض بل دُفِعنا وصرنا حَمَلَة تقليدٍ (جديد)..”.

أعتقد أن هذا ما فعله أنسي الحاج. لا أزعم أنه تأثر مباشرة برأي إليوت الذي كان له أثره الواضح على الشعر العربي الحديث، بل أزعم أن هذا الرأي ربما يعبّر عن فحوى حديث أنسي واستدعائه لأسماء شعراء عرب مارسوا تجربة قصيدة النثر. كما أن إشارته إلى بحور الشعر العربي وقوله بإمكان إيجاد بحور جديدة عمادها الإيقاع ربما تعزز ما ذهبت إليه في تعليل عدوله عن القول بتجاوز مبدأ البحور بحد ذاته أو إلغائه.

من المألوف القول بأن قصيدة النثر قصيدة زئبقية يصعب الإمساك بها. ولكن يبدو أن أنسي قد اختار في تجربته التي أعقبت ديوانه الأول التخلص من ربط الحداثة العربية بالغموض أو ربما بالإبهام ربطاً ميكانيكياً. كما أنه اختار الانفتاح على الآداب الغربية بالحدود التي لا تقيم بمدى ما تحققه من تماهٍ أو انطباق حرفي (أصولي) مع هذه الآداب.

وبهذا المعنى لا يمكن اعتبار ما طرحه أنسي الحاج من أفكار ومحاجات مجسداً لما يدعى بـ”المفارقة التاريخية” (anachronism) أي تمثيل وجود الماضي في الحاضر، أو مفارقة الحاضر وعدم الانسجام معه. فحداثيته بما يتصل بقصيدة النثر تؤكد وجود حداثات، وهذا بطبيعة الحال ليس كشفاً أو اكتشافاً بل إعادة تأكيد هي من قبيل  تحصيل الحاصل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.