اخْتِنَاق الرَّغْبَة
تواجهنا صورة الذُّكورة في المجتمع العربي ونحن نلج عالم “أيوبة” في رواية “عين الهِرّ” للكاتبة السُّورية شهلا العجيلي، فمنذ نعومة أظافر الأطفال والأمهات تحدثن البنات بأن الأولاد أشرار، يضربون البنات، وأن البنات إذا تحدثن مع الصِّبيان أو وقفن معهم، فإن النَّاس سيقولون إن الأهل قصَّروا في تربية البنات، فالمجتمع يرسم للفتاة صورة الذَّكَر القوي، فهو المعتدي، الذي يسبب السُّمعة السَّيئة، ويتَرَسَّخ في معتقدات الفتيات الصغيرات أن الفتي شرّ، وأن الاقتراب منه ضرر، فقد وَجَبَ الحذر منه حتي لا تُصاب إحداهن بسُوء السُّمعة بسبب الحديث مع الأولاد الأشرار.
والأب الذَّكَر هو المسيطر في البيت يُفَجِّر ضُغُوطاته في وجه رَبَّة الأسرة الأم، أمام الجميع دون أيّ مراعاة لمشاعرها وأحاسيسها وهو بذلك يُرَسِّخ قوة الذَّكر أمام أولاده جميعاً، الأولاد والبنات، فينشأ الفتى على عدم احترام الأنثى، وتنشأ الأنثى علي الخضوع لثورات الرَّجُل وتحقيق رغباته.
وفي أسرة “أيوبة” خمس بنات وذكر وحيد، الأخ يضرب ويأمر ويَتَدَخَّل في كل شيء وله كل الامتيازات، فالأخ نموذج مصغَّر للمجتمع الذُّكوري داخل البيت، فهو ينشأ على السَّيطرة على البنات، مؤكداً على قوة المجتمع الذُّكوري، فكل ذكر له السَّيطرة على كل أنثي تنتمي إليه بأي شكل من الأشكال، أب، أخ، زوج.
وتتساءل الطفلة “أيوبة”، ما الفرق بين الصبي والبنت؟! فالبنت شعرها طويل وجميل، والولد شعره قصير، البنت أجمل تمتلك أثواباً جميلة وأدوات زينة وأصباغ، والولد حياته جامدة ليست لديه كل الأشياء الجميلة التي للبنت، فلماذا إذن يتم تفضيل الولد على البنت؟! البنت أيضاً تصير حاملاً وتُنْجِب، أما الولد فلا يفعل شيئاً، الولد ليس جميلاً وليس مُهِماً كما يتصوّرون.
تتجلى عقيدة التصور عن البنت حين ترى إحدى الجارات “أيوبة” وهي تلعب مع الأولاد، تجرّها من يدها وتذهب بها إلى أبيها فاللعب مع الأولاد عَيْب، وتُعَنِف الجارة الأب، فالبنت صارت صبية، يمكن أن تتزوج، ومع ذلك تسير في الشوارع وتلعب مع الصبيان، فتثور الذُّكورة في رأس الأب فيجرها من شعرها أمام أصدقائها وهي تتألم وتبكي، ولكن لا مفر فقد قرَّر الأب حرمانها من التَّعليم، وتصرخ أعماق “أيوبة” بأنها لا تريد أن تكون مثل أمها أبداً أبداً، ترفض هذه الحَبْسة التي سيطرت على حياة أمها وكَتَمَتْ حريتها داخل جدران أربعة.
تصاب “أيوبة” بحسرة عندما تشاهد الحرية أمام الكنيسة المجاورة، فالصغار يلعبون في احتفال ديني، يرتدون الملابس الجميلة ويتحاور الصبية مع الفتيات من غير قيود، لقد أبهرتها هذه السَّعادة التي رأتها وشعرت أن الحرية تداعب خيالها، فلما صَرَّحَتْ بما يدور في نفسها لجارتها “أوديت” بأنها تحسد الفتيات اللائي يذهبن إلي الكنيسة مع الصبيان، ظهرت مَرَارة أخرى في حلق “أوديت” وبدا منها أن المجتمع الذكوري مسيطر في كل الأحوال، أكدت “أوديت” أن هذه الحرية منقوصة: يا ابنتي لا تغرك المظاهر، كل من على دينو، الله يعينو.. هكذا ببساطة طرحت “أوديت” ما يدور داخل أعماقها، فحتي لو كشفت المظاهر عن جمال وحرية فهناك شيء خفي “كل من على دينو، الله يعينو” (الصفحة 62).
هذا المجتمع الذُّكوري المُسَيْطر يحيلنا إلى أدق العلاقات الإنسانية، الجنس، فيتضح لنا في هذا المجتمع كَتْمَة الجنس واحتقار رغبة المرأة وعدم احترام مشاعرها حتى لو كانت ترغب في زوجها وشريك حياتها، فأيوبة ترى أمها في ليلة من الليالي، تتسلل رويداً رويداً من فراشها، محاولة أن لا يشعر أحد بها بعد أن ارتدت ثوبها الأسود الوحيد الذي يُبْدِي شيئاً من مظاهر الأنوثة لديها، ثوب بلا أكمام، مخرماً عند البطن، بحيث يبدو اللحم من خلال ثقوب القماش، مفتوحاً من أعلى الفخذ ومَشَّطت شعرها؛ لقد هيأت نفسها لزوجها، وسيطرت عليها الرَّغبة في المُعَاشرة حتى أنها تَسَحَّبت إليه في غرفته، تملؤها الرَّغبة والشَّهوة التي يحتاج إليها جسدها.
لكنها عادت كَسِيرة القلب والخاطر، لقد حدث داخل غرفة الوالد شيء كَسَر قلب الأم، لقد رفضها زوجها، أيّ شعور تشعر به المرأة حين تعرف أنها ليست مرغوبة، وممن؟ من زوجها، لا يريدها!! لماذا؟ ألا يحبها، هل رائحة جسدها كريهة؟ تخرج الأم وتدخل غرفتها وتقضي ليلتها في بُكَاء مَرِير، وترمي بثوبها الأسود في الخزانة إلى الأبد، ويظل هذا المشهد عالقاً في خيال “أيوبة” لا تستطيع أن تنساه أبداً.
والمجتمع الذُّكوري الذي يمارس القمع في البيت ويمارس كبت إناثه، هو نفسه الذي يعيش حريته وِفْقَ ما يرى، وقَدْر ما يستطيع، فيذهب الذَّكر لبيوت الدِّعارة ليمارس حريته الجنسية التي يمنع منها زوجته، وينطلق في رغباته التي يَحْرِم منها من يعول، فعلى الرّغم من أن الرَّجُل يمتلك جوهرة في بيته، إلا أنه يعشق سعاد موظفة الصِّحة في الحارة المجاورة، والتي تمنحه حرية الجسد دون قيود، فما تفعله معه المرأة الداعرة، يحرّمه على زوجته أن تفعله معه.
و”أيوبة” تُحِيل مسؤولية هذا الانكسار والخنوع إلى أمها، فبسكونها وخنوعها هي مسؤولة عن ضياع حريتها، هي مسؤولة بطاعتها المستكينة، فهي لا تعرف كيف تتعهر، أو حتى لا تستطيع أن تطلب الطَّلاق، فمبدأ الأم، بيت المرأة قبرها، وهذا ما يجعلها تعيش ميّتة، تدفن مشاعرها وتخنق رغباتها الحيَّة وتَتَحَمَّل أن يرفض زوجها أن يَرْوي جسدها الذي يطلب الشَّهوة.
في ليلة “أيوبة” الأُوْلَى وَجَدَتْ نفسها زوجة لرجل بقراره هو ودون أن يكون لها أيّ رأي، فقد أخذ يخلع ملابسه، قطعة قطعة، حتي تَعَرَّى تماماً ثم في لحظة عَرَّاها بعنف وانقض عليها بثقل صدره وهو يستمتع بأزيز السَّرير من تحته وهو يمضغ جسدها ويعض، يعض ككلب.
هذه هي تجربتها الأُوْلَى مع الجسد، تجربة كلها قرف واشمئزاز، ورغبة في التقيؤ ولفظ هذا الجسد الذي اعتلاها، كحيوان مفترس، وأصبحت أكثر لحظات حياتها بؤساً هي لحظات الفراش.
لقد سَلَّمَتْ له من اللحظة الأُوْلَى، حتى صار الاستسلام عندها عادة، ولم تكن سعيدة أبداً بمعركة الجسد التي تتم فوق جسدها على الفراش.
المَرَّة الوحيدة التي أرادت فيها “أيوبة” أن تكون طبيعية، واحتاج جسدها إلى زوجها، حاولت مجاراته فيما يفعل، نعم، حاولت أن تمنح جسدها لحظة من التَّحرر والحرية في أن تمارس مع زوجها الرَّغبة بشيء من الصِّدق، أن تُعطي وتَأخذ، أن تندمج في المعاشرة حتى تَسْتَمْتِع وتُمْتِع في آن واحد، كانت تظن أنه سيسعد معها، سيسعد بها، ويندمجان في لحظة عِشق عُلوية ترجوها وتتمنَّى لجسدها أن يصل بها لمدى من الشَّهوة تنفك فيه كل العُقد التي تقيدها، إلا أنه في لحظة غائمة، صفعها وقال لها : عاهرة.. هكذا خَنَقَ رغبتها، وكَتَمَ فيضان شوقها العُلوي الذي حاولت أن تصل به ومعه في لحظة عشق متدفق، أن ترتفع معه بكل الشَّهوة وكل الرَّغبة، لكنَّه بكلمة واحدة حبس الجِنيّ الجميل المنطلق من داخلها، بكلمة واحدة قتل العفريت المَسْحُور: عاهرة.
الطَّاقة والرَّغبة الجسدية إذا لم يتم تفريغها وإشباعها بأيّ صورة من الصور الطبيعية؛ أصابت المكبوت بخلل ما، فنبحث عن مصدر لتفريغ طاقتنا كي لا نصاب بالحسرة والاختناق، و”أيوبة” عندما وقفت على السطح ورأت حلقات الذِّكر، انتشت وارتفع كيانها وطارت روحها بعيداً وحَلَّقَتْ، لقد جاءها الفَرَح العُلوي وانبهرت بشدَّة عندما رأت رجلا يبكي، هذا مستحيل، أن ترى دموع رجل، كان والدها قاسياً، وزوجها حيواناً، وهي الآن ترى دموع رجل تَتَرَقْرَق في حنان وخشوع داخل حَلْقة ذِكْر، وكأن طاقتها بدأت تنطلق، ورغبتها اقتربت من التَّحَقُّق، وكتمة روحها ستنفك وترتاح وسَرَحَتْ بعيداً.. كيف يمكن أن يجتمع الغَزَل والدِّين في جلسة! كيف يمكن لأولئك المتدينين أن يتفوَّهوا بكلمات الحبّ! فيذكرون المرأة والله والعشق والمقدسات معاً، العالم الذي تراه أمامها من فوق السّطح كله يوحي بالنظافة والطمأنينة، تلفُّه الحَضْرة وتتخلله مياه البركة والبياض والأضواء الوامضة من الماء، ومن الأرض. ورُبَّما جابت خيالاتها روح الجنَّة.
في قمة اندماجها مع هذا العالم العُلوي بَكَتْ، ولم تكن وحدها الباكية، لقد لمحت رجلها ذا العينين الضيقتين تبرق دموعه في العتمة، ووجهه طافح بالنور، واقشعر جسدها، ما الذي يمكن أن يجعل رجلاً يبكي، لأول مَرَّة في حياتها ترى رجلاً يبكي! وتَمَنَّت في تلك اللحظة أن يراها هذا الباكي، أن يلمحها وينظر إليها، فيرى دموعها، فيعرف أنها معه، تشاركه ألمه الشَّفيف، وخشوعه الجميل.
عندما طُلِّقَتْ وحصلت على حريتها الكاملة، وعلى الرغم من نظرة المجتمع للمطلقة؛ لأنها بلا رجل، ماذا يعني أن تكون حياة امرأة بلا رجل، لقد صارت أجمل من ذي قبل، لقد صارت أروع بعد أن تَحَرَّرت، أصبحت عيناها أعمق، وشفتاها أكثر التهاباً وقلبها صار أكبر، لقد تبدل الحال بعد أن شعرت أنها حرة.
وأنثي مثل “أيوبة” عندما تعشق تعطي عشيقها وحبيبها كل اللذات التي يمكن أن يتصورها عاشق، لقد جاءها الباكي، مُخَلَّصها ومرشدها، وصار زوجها، فاندمجت معه في حالة غريبة بين الحب والجلال، بين العشق والنور، يضيء المكان عندما يدخل عليها، وعندما يحتضنها تعيش في خشوع ومع ذلك تراودها نكبتها مع زوجها الأول وتتذكَّر حالة الاشمئزاز التي عاشتها مع زوجها السابق، لكن زوجها الثاني صاحب العينين الضيقتين منحها لحظات عشق صادق، وحب عميق، ومنحته ذاتها بسخاء، لكن تسيطر الذكورة على المجتمع، ذكورة من نوع آخر، فقد طَلَّقها زوجها الثاني بأمر من الشيخ الكبير، فهو لا يرضى أن يكون لابنته ضُره وكان أمر الشَّيخ أمراً مفعولاً، فَطُلِقَتْ.
ما تزال رغبات “أيوبة” مختنقة في هذا المجتمع، فهي تمثل كل أنثي، حتي “أوديت” التي أحبت رجلا، وصارت مخلصة له بعد أن سافر حتى انتشر الشيب في شعرها، إذا بها ترى هذا الحبيب عند الكنيسة بعد عمر طويل وهو يسير معه زوجته وأولاده، لقد عاد الغائب بحياة بهيجة تقف أمام عمر “أوديت” الذي بدَّدته الوحدة في انتظار من سافر وعاد ناسياً كل الحب، إنه ذكر، في مجتمع ذكوري.
والرَّجُل الذي عامل “أيوبة” بلطف وأهداها قلادة عين الهِرّ، وبدأت تشعر أن في العالم رجالا يملكون من لَطَافة الحِسّ ما يمكن أن تغير نظرتها للرجال والتي حُفرت في تلافيفها من الصغر، هذا الرَّجُل، سَرَقَ مال الورشة التي تعمل بها “أيوبة”، واكتشفت فيما بعد أن القلادة التي أهداها لها قلادة زائفة ليَرْسُخ في أعماقها زيف المجتمع الذكوري الذي تعيش فيه.
مَرَّت “أيوبة” بمنعطفات كثيرة وانتهت لأن تصبح خادمة جامع، مسؤولة عن قسم النساء، تراقب الدروس، وجلسات الذكر الخاصة بهن، وتقوم علي خدمتهن، فَتُعِد ثياب الصلاة، وتنظف المكان المخصص للنساء، وترتب المصاحف والكتب.. تركت كل رغباتها وكل السَّيطرة الذكورية في مجتمع ذكوري زائف واتجهت مباشرة لتَتَقَمَّص دور خادمة الجامع.