استباق الزمن

الخميس 2015/10/01
تخطيط لـ حسين جمعان

تضعني في هذا الظرف، وسط الكآبة والمآسي والدمار الشامل الذي تتعرض له بلادي ومشرقي المتوقّد دوماً في خيالي، وتطلب مني شهادة عن الشعر ومهماته؟ مجروفاً بسيول من الآهات المتألمة والاستغاثات اليائسة، محطمّاً تحت حطام المدن العربية، وحطام الإنسان ذاته، عليّ أن أجيب عن أسئلة الشعر واللحظة؟

ماذا على الشاعر أن يكتب؟ وهل مرّت على الشاعر لحظة كهذه من قبل؟ كي يقيس عليها ماذا سيكتب، وماذا ينبغي عليه ألا يكتب؟ رحلة طويلة مرّت بالشعر العربي، في هياكل الحداثة المزيفة، وهو لا يدري هل ما يكتبه حقيقة أم استعارة؟ هل قضاياه هي الحب والمرأة والخيال الصوفي والعرفان؟ أم الحرية والمأساة وفلسطين والحجارة؟ هل كان هدف الصياد أن تقع في شباك قصيدته حقائق جديدة أم فتوحات شعرية لغوية بنيوية؟ ومنذ أن تحوّلت الكتابة جزءاً من حركة التحديث في الوعي والمكان والزمان، انفصل هدف الشاعر عن رصد الحقائق وتصويرها لينخرط في صراع التجديد، وباتت كل قصيدة هي مشروع نهضوي أدبي وليس فكرة مستقلة‭.‬

على أن مواجهة مهام الشعر، لن تنفك عن مواجهة مهام البلاغة ذاتها، والتي لا تقتصر على قول “أحبك” وتنتهي المهمة، بل الحرب السلمية من أجل قول “أحبك” بطرق ووسائل جديدة تثير الدهشة، وتحرك الخيال، وتطرب السامع أو ترفع حاجبيْ القارئ‭.‬

لكن كيف تقول “أقتلك” وكيف تقول “تقتلني” وكيف تقول”أكرهك” وكيف تقول” أقصفك” وكيف تقول “أحرقك” وكيف تقول “أدمّر بيتك ببرميل” وكيف تقول “أذبح طفلك”؟

كيف تقول “أذوّبك بالكيماوي”؟ أو “أخنقك بالغاز″؟ وكيف ستحّل مفردات حية كهذه محلّ مفردات الجمال والعزلة والتجوال والروح المتوثبة للحياة؟

لكنّها “اللحظة” وهي الحقيقة، وهي الجديرة بأن يكتب عنها الشعر، لا عن عالم لم يعد موجوداً بعد‭.‬

ولأنها “اللحظة”، ولأنه على الشعر ألا يكون نحيباً وسط النحيب، ولا كربلاء مستعادة، بعد أن تم “بعث” كربلاء حقيقية جديدة على أرض الواقع، فإن الشعر عليه أن يبحث عن مهامه بنفسه، مستبقاً الآن، وقافزاً نحو القادم، يطلّ من خلف الجدران المحطمة على المستقبل، ويرسم لمن يقرأ الشكل الجديد للحياة‭.‬

ليس على الشعر، ولم يعد من مهامه، تولّي دور الشاشات التي تنقل الأخبار، ولم تعد الصورة الشعرية أكثر فصاحة من الصورة بكاميرات فائقة التكنولوجيا‭.‬

ليس على الشعر أن يغرق مع الغارقين في البحر، في طريق اللجوء، وليس عليه أن يقف كطير صغير على رقبة قطعت بسكين متطرّف‭.‬

ليس على الشعر أن يظلّ على وهمه بأنه قادر على التأثير، وأنّ جمهوره اليوم أكثر من جمهور رجل الدين الذي يتحدث عن الجنة والحوريات، أو الدكتاتور الذي يسحق البشر والحجر والشجر، وهو يخطب مدافعاً عن فهمه للحرية‭.‬

ليس على الشعر أن يعيد الكتابة عن وطن تغيّر مفهومه، ولم يعد ذاك الذي تحول دونه ودونه الشطآن والجبال والوديان، في عالم بات صغيراً جداً جداً جداً‭.‬

لكن ما حصل من قبل انهيار المشهد أمام الشاعر، أن الشاعر ذاته، هو من تخلى عن دوره كرائد، ونبيّ، وراءٍ على حد وصف رامبو، ليختار القضايا الصغيرة منشغلاً بها عمّا كان يفعله قبلاً، حين كانت قصيدة واحدة تتكفل بإخراج الألوف إلى الشوارع بحثاً عن الأمل، أو تحمّسهم ليهبّوا نحو هدف نبيل‭.‬

توقفتُ عن كتابة الشعر، مع أول صيحة للحرية ارتفعت في ما سمّي بربيع العرب، إجلالاً للشعر وهو يعبر هذه اللحظة، كي لا أكتب ما يقلّ عن مقام الشعر الصافي، وآثرت الابتعاد عن كتابة اللغة الشعرية، لهيبة الشعر ذاته، وهي تتوارى مبتعدة عن الانحطاط السائد اليوم، انحطاط في القيم واللغة والخيال والأهداف، وفي مناخ كهذا، ماذا سيفعل الشعر؟ وأيّ مقعد سيجلس عليه وسط الخرائب؟

لكن تلك الوقفة، لم تكن للاستغناء عن الشعر، بقدر ما هي وقفة في هاجرة لاهبة، طويلة، وصامتة، من أجل الشعر ذاته، كي يكتشف لغته الجديدة، ويمدّ يده للتائهين، ويستعيد دوره في المشي أمام الخلق، لا خلف الحدث‭.‬

لا أؤمن أن الشاعر ضمير الناس، بل هو ضمير قادم لهم، وهو خيار لم يختاروه من قبل، وهو أفق لم يصلوا إليه، وهو شمس لم تشرق عليهم بعد، ولهذا لا بدّ للشاعر من أن يعيد النظر في ذاته وفيما يليه ومن حوله، أولاً، ثم ينظر إلى منجزه السابق ثانياً، ويرمي ما يستوجب الرمي منه في النفايات، مقبلاً هو الآخر، على هجرة جديدة، منه إليه‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.