اعتراف لا يريد أن يظل متأخراً
الأستاذ الناقد خلدون الشمعة، أحييك أيها الشيخ وأنت تحرس ضوء شمعتك في ضباب لندن. هل تعلم أننا في الجامعة، في السبعينات، كنا نجد في اسمك ليس شمعة فقط بل مصباحا. يومها كان يشاركنا هذا الاعتبار القاص عمّار بلحسن أستاذ علم الاجتماع الأدبي، والذي رحل مبكرا عن هذه الحياة، والذي كان يقرأك بنهم. كنت تمثل نورا يضيء لنا مسالك الكتابة ونحن على عتبتها مترددين، خائفين.
علمنا جيلكم من النقاد كيف يكون النقد الأدبي موقفا فكريا و سياسيا و حضاريا، و كيف يكون الناقد جزء من نقده، من رسالة نقده، كيف يكون مثقفا مواطنا، يحمل رسالة تنوير و تغيير.
كنا طلبة جامعة وهران بالجزائر، نتسابق على مقالاتكم و كتبكم، نقرأها بلهفة و تمعن و سؤال، و كانت تخلق فينا نقاشات كثيرة، تربط ما بين الأدبي و الاجتماعي و السياسي و الفلسفي، يقرأ ما تكتبونه طلبة الأدب و طلبة علم الاجتماع و الفلسفة و التاريخ، كانت كتاباتكم للفكر الجامعي.
كنا ندرك ، مذ ذاك، بأنكم آخر سلالة المثقفين من النقاد الذين يؤمنون بفاعلية الأدب، وبفاعلية النقد و قدرته على التغيير، ليس العقول وحدها، إنما أيضا السلوك اليومي للمثقف المبدع.
إلى جانب عبد المنعم تليمة وبوعلي ياسين ونبيل سليمان غالي شكري ومحمود أمين العالم وصادق جلال العظم وجابر عصفور ونذير العظمة... كنتم الجيل الذي علمنا أن الأدب والفكر قادران على تغيير العالم، قادران على تغيير الإنسان، بكتاباتكم تغيرنا، وآمنا بالتنوير، وبكتاباتكم دخلنا معركة ضد الظلامية وضد أعداء الحرية على المستوى الثقافي والفكري والسياسي والإبداعي.
كنتم الجيل الواضح، جيل يكتب باجتهاد و بإيمان في ما يكتب، وكنتم الجيل الذي فتح الجامعة على سؤال المجتمع، وأقحمها في خضم الحراك المجتمعي، ليخفق قلبها لما يخفق به قلب المجتمع ، كنتم الجيل الذي فتح النقد الأدبي على سؤال مستقبل المعرفة التي تدافع عن الجمال والإنسان الحرية. كنتم استمرارا ثقافيا و أدبيا للعقل في التراث العربي وفي الوقت نفسه شكلتم قطيعة هادئة في اتجاه تغيير هادئ أيضا.
وكنتم أيضا الجيل الذي سجل حضوره المتميز في الإعلام الثقافي والأدبي الفاعل، لم تكن خطاباتكم نخبوية ولم تكن تبسيطية، كانت عميقة وحذرة، فكان القارئ الجامعي كما العام في انتظار ما تكتبون، لقد حققتم «لحظة الانتظار» في الوسط القارئ. بكتاباتكم ثقفتم المنابر الإعلامية ومنحتموها احتراما وهيبة وجعلتم قراءتها ضرورة ثقافية وسياسية بخطاب راق وعالم وهادئ وعميق.
كانت شهادة الواحد من جيلكم الناقد في حق روائي أو قصاص أو شاعر، في حق رواية أو مجموعة قصصية أو شعرية، شهادة لها وزنها ولها الأذن التي تسمعها ولها أيضا صداها في توجيه الكتابة وفي ترميم الخلل وتعميق البحث والسؤال، كنتم تكتبون نقدا دون أبوية أو أنانية بل باحترام التجارب على اختلاف مستوياتها من النضج.
كنا وقتها أقلاما إبداعية قصصية وروائية ناشئة تتأسس بهدوء واحترام وتردد تحت عينكم الناقدة، المتابعة بعمق ودون تجبر وبعيدا عن البطريركية الثقافية القاتلة، كنا نكتب ويدنا على قلوبنا في انتظار رأي منكم.
ما الذي يحدث بعدكم ؟
أستاذي خلدون الشمعة، بعدكم جاء جيل من «النقاد» أو ما أطلق عليهم اسم نقاد «الحداثة العربية» فأغرقوا السوق الثقافي والجامعة والمنابر الإعلامية ومعها أغرقوا اللغة في خطاب غامض، يدعي وهما «المفهمة كاملة» و»التمفهم المطلق»، ينحت خارجيا من متن فلسفي لا يفهمه ولا يحاوره، يريد عسراً أن يتلبسه كي يقال عنه إنه في «الحداثة».
أستاذي خلدون الشمعة، هكذا مع الجيل الذي بعدكم، دخل النقد في فراغات لغوية، وفي متاهات و جداول و أسهم لا تشبه في غموضها سوى «رقية» الراقي الدجال، و ابتعد النقد عن الثقافة وأصبح صناعة وترديدا ببغاويا لأسماء كبيرة عالمية أسست خطابها ضمن منطق حضاري وبنية فلسفية خاصة، واختلط الحابل بالنابل، مصطلحات لا أنزل الله بها من سلطان، وترجمات لمفهومات فلسفية بطريقة «مضحكة»، ودخلت الثقافة العربية في نفق، وتنازل الخطاب النقدي عن حسه الفكري والحضاري والسياسي وانزوى في مربع «التقنوية» و»البذخ الخطابي»، ومع تموقع هذا الجيل في الجامعة وبخطابه «المتعلمن» انفصلت الجامعة عن المجتمع، وانفصل الناقد عن ومنابر الإعلام، وحتى إن حضر لا أثر لكتاباته، ولا صدى لها في وسط المبدعين.
نعم أستاذي خلدون الشمعة، اليوم أردت أن أحييك ومن خلالك أن نعترف لجيلكم بقيمة التأسيس و بقيمة السلطة الفكرية الرمزية التي تغير دون أنانية أو أبوية. فتحية لجيلكم.