اقترب أيها الشعر.. ازدهار الحداثة الشعرية العربية في لبنان
في إطار البحث عن أرضية عربية تجسد التلاقي الفكري والإبداعي العربي، كانت لبنان هي الأرضية المناسبة لنمو الحداثة العربية وازدهارها؛ حيث تميزت طوال خمسينات وستينات القرن العشرين برحابة ساحتيها الفكرية والأدبية. تجسد ذلك في تأسيس مجلة الآداب اللبنانية عام 1953 على يد سهيل إدريس، والتي استطاعت أن تؤدي الدور الرائد في العالم العربي لعدة سنوات، كما تمكنت –بتعبير سلمى الخضراء الجيوسي- من نقل مركز الشعر في الوطن العربي إلى لبنان لما تتمتع به من حرية سياسية واجتماعية وثقافية لا مثيل لها -خاصة بعد توقف “الرسالة” و”الثقافة” المصريتين-؛ فقد عرفت المجلة حراكا أدبيا متنوعا حيث حوت أقلامًا إبداعية من شتى الأقطار العربية، واستطاعت –كما عبر شكري عياد- أن تتعايش مع الأنظمة العربية المتعارضة وأن تنفث في تيار الواقعية الجديدة روحا وجودية.
انتقل هذا الدور بعد ذلك إلى مجلة “شعر” 1957 التي واصلت احتضان مشروع الحداثة الشعرية العربية ونقل أوجه نشاط الشعر الغربي إلى الشعر العربي على يد الأديب يوسف الخال، وأصبحت المجلة ميدانا للمواهب الجديدة وأرضا خصبة للتجريب الشعري في الوطن العربي ولميلاد قصيدة النثر، وتوالت الأقلام التي سعت إلى توسيع حقل الدراسات الأدبية وتحديثه مثل: أدونيس وخليل حاوي وفؤاد رفقة وأنسي الحاج وغيرهم.
إلى جانب مجلة “الثقافة الوطنية” التي أفسحت أغلب صفحاتها للاتجاه الاشتراكي محليا وعالميا، وكانت خطوة حقيقية تعرّف خلالها المثقفون على أحدث ما كتب أرجوان وإيلوار ونيرودا وناظم حكمت، إلى جانب العديد من الدراسات حول القضايا والمشكلات التي تواجه هذا الشعر في الخارج، وذلك لارتباط شعرائها بنظرية عالمية لها انعكاساتها الفلسفية على تكوين الرؤيا الفنية لديهم.
تبعتهم مجلة “مواقف” 1976 التي واصلت مسيرة المشروع الحداثي في الشعر، إلا أنها لم تقتصر على الدراسات الشعرية وامتدت لتشمل الدراسات الفكرية والنقدية للإبداعات العربية إلى جانب دراسة ترجمات المنجز الأدبي والفكري إلى العربية في إطار الحداثة وما بعدها.
ومنذ ذلك الوقت وتعاقبت أجيال الشعر اللبناني الحديث مستفيدة من متطلبات الحداثة وتحولات النسق الثقافي وتطوره؛ ويمكن تحديدها في أربعة أجيال بدأت منذ خمسينات القرن الماضي مع جيل “الآباء الكبار” مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس، وجيل “التمكين” الذي انقسم إلى فريقين، فريق تبنى قصيدة النثر نصا جامعا مثل عباس بيضون وبسام حجار ووديع سعادة، وفريق آخر اعتمد التفعيلة مثل محمد على شمس الدين وشوقي بزيع وعرفوا بشعراء الجنوب، ثم “جيل المهجر” الذي تشتت إثر الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) مثل عيسى مخلوف وبسام منصور وفيديل سيبتي ووقف في منطقة وسط بين الأجيال السابقة والجيل اللاحق، وأخيرا جيل يمكن تسميته بـ”الأصوات الجديدة” تأثر أسلوبيا بالأجيال السابقة خاصة في التحرر من قيود الشكل الفني، وتعاطى مع متطلبات النسق الثقافي معاصرا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة لنقل الإبداعات الشعرية.
وجدير بالذكر أن هذا التعاقب قد عزز من فكرة التواصل والامتداد، فلم تلغي الأجيال الجديدة ما سبقها من منجز شعري ولم تنفصل عنه تماما؛ لكن قامت بتوظيف عناصر شكلية ودلالية بطرائق مغايرة لتكتسب دلالات قد تبدو مع هذا التوظيف جديدة قياسا للفترات الماضية، كما أن الأجيال القديمة لم تقف عند حدود فترة تشكُّلها، بل استجابت لموضوعات النسق الحالي مع الاحتفاظ بطرائقها الأسلوبية أحيانا ومحاولات التجديد فيها أحيانا أخرى.
ويمكن القول بأن الجيلين الأخيرين هما الأساس الذي ستنطلق منه الدراسة الحالية، محاولة الوقوف على أهم القضايا التي اهتما بها وطرائق التعبير عنها أسلوبيا وفنيا، معتمدة بشكل كبير على مقولات النقد الثقافي الذي لا يفصل الإنتاج الأدبي عن السياق الذي تموضع داخله.
فقد كان سؤال الوجود ومفرداته المادية -المتمثلة في الجسد- والمعنوية -المتمثلة في الشعر- هو المهيمن على المنجز الشعري لتلك الأجيال، ويبدو أن أغلب تلك الأجيال لم ينشغل بالإجابة وصور تحقيقها أكثر من الرغبة في إطلاق السؤال نفسه بوصفه وسيلة لتحرير صرخة حبيسة، أو دعوة لعرض الاحتمالات، أو وسيلة الشاعر للسخرية من الواقع أو بيان قبحه.
ولذلك يمكن اعتبار الذاتية ملمحا أساسيا من ملامح الخطاب الشعري لتلك الأجيال؛ حيث ابتعدت –في أغلبها- عن التمسك بصراع الأيديولوجيات وعمدت إلى تمييع دورها، وارتكزت على الأسس الثقافية وانفتحت على الثقافات المختلفة والفنون المتعددة مما أضفى أبعادا تشكيلية على القصيدة أبعدتها عن الغنائية الخالصة بصورة خدمت مقصدية الخطاب الشعري.
وقد اختلفت طرائق التعبير الشعري وأدواته وفق اختلاف انتماءات الشعراء الثقافية والفنية والفكرية؛ ما بين تتريث الواقع والاعتماد على الإشارات الأسطورية، وعرض اليومي ومفارقاته، واستخدام الصورة البصرية والإفادة من الفنون المختلفة، إلى جانب تعدد الأصوات وتداخلها.
سنوات الحرب والمهجر
حملت سنوات الحرب الأهلية انعكاسات عديدة على الأدب اللبناني بشكل عام والشعر بشكل خاص؛ فكان لها حضور واضح في القصائد سواء بالتصريح المباشر أو بالتلميح الإشاري، ورغم انقضاء سنوات الحرب فإن الآثار النفسية التي تركتها على المواطنين لم تنته بعد؛ فالآثار التي تتركها الحرب نفسها في الفكر الإنساني قد تستمر لمدة أطول.
وتسببت تلك الحرب في هجرة العديد من المواطنين وتشتتهم بين البلدان؛ وجدير بالذكر أن موضوع الحرب ارتبط بشكل أساسي بالشعراء الذين عايشوا الحرب أو شاهدوا أفولها في تسعينات القرن الماضي، فأخذوا على عاتقهم التعبير عن آثارها التي تركتها في نفوسهم مثل زينب عساف أو الكشف عن الواقع والسخرية منه مثل فيديل سبتي.
ففي قصيدة “قصائد الأمكنة” تعبر زينب عساف عن حالة الاغتراب التي تعانيها في بلاد لا تعرفها، وجاء الجهاز العنواني ليتواصل مع المضمون العام للخطاب الشعري في التعبير عن حالة تشتت الذات الشاعرة وتعدد الأمكنة التي تنتقل بينها؛ وجاءت الجملة الافتتاحية لتهيئ المتلقي لتلك الحالة وتشركه في تلك الحالة الشعورية باستخدام ضمير المتكلمين الجمع: “نحن أبناء المدينة الحزينة/تبنّتنا على عجل/لتسقينا حليبها المرّ،/نخرج في الصباحات المعتمة/ننهش في جسدها بحثاً عن لقمة”.
ثم تنتقل الشاعرة لضمير المتكلم الذي يناسب خطاب البوح والسرد الذاتي، وانتقال السرد بضمير المتكلم من صيغة الجمع “النحن” إلى صيغة المفرد “أنا”، يشير إلى إدراك الذات الشاعرة للمؤثرات الصراعية التي تتخذ أبعادًا أكثر شمولية وأكثر اتساعا، فيكفل لها ضمير المتكلمين مسافة آمنة بين معتقدها الذاتي وتجربتها الخاصة وبين الواقع الجمعي وتحولاته: “أين زرعتُ قلبي؟/كان الربيع فقيرا،ً/وضعت كفَّي على السروة/وكانت تعرف أني سأرحل/”ظلّ القمر” وصوت كات ستيفنس،/أفكاري التي تنبت في الليل غابةً أتوه فيها،/ثم مدفع الصمت إذ يعلن الفراق”.
وعلى الرغم من عدم انتماء الشاعر بهاء إيعالي لهذا الجيل الذي عايش تجربة الحرب، فإن ترجيع أصدائها نجده حاضرا في خطابه الشعري، باعتبار الحرب قانون الوجود الجديد، مشيرا إلى التصارعات التي تكتنف البقعة العربية بأكملها؛ ففي قصيدته “بيستوليروا” –التي تعني في الإسبانية الشخص المسلّح- يتواصل المتن الشعري مع مقصدية الشاعر التي اتضحت في الجهاز العنواني.
وإلى جانب استخدام جهاز عنوانيّ يستلزم وجود مرجعية ثقافية لدى المتلقي، نجده يستخدم كذلك تعبيرات قد يجدها المتلقي نفسه صادمة لتلك المرجعية ولا تتوافق معها؛ وتلك المجاورة بين المتناقضات يجدها الشاعر مناسبة للواقع الذي يصوره: “أروح-أجيء/في دغشةِ المدينة المذعورة/ألمحُ مصباحا/بحجم رأسِ من يبحثُ عن عمل/ أظنّ/أنّ مشنوقٌ في وحشة أصواتي الداخلية/فأتوارى خلفَ حائطٍ مهجور/حجّ إليه آلاف المتبوّلين”.
ومثلما أصبحت الحروب لغة الواقع في العالم العربي، لم يكن غريبا أن يسود الشعور بالاغتراب بين جميع الأفراد، هذا الشعور الجمعي عبّر عنه الشاعر عيسى مخلوف في أحد مقاطع خطابه الشعري الذي حمل العنوان الفرعي “غرباء” والذي جاء في أقصى اختزال لغوي: “لم يكن ثمّةَ ما يشيرُ إلى أنّنا غرباء/كناّ نسَيرُ مع غيرِنا في الشّارع/وَمع ذلك عَرفونا/كنّا نهرولُ خائفينَ/كنِقاطِ ماءٍ تدَلفِ من السُّطوح./ربّما رَأَوا في عيوننا/أولئكَ الذين كانوا معنا/وَغَرِقوا”.
دلائل التمرد والميلاد الجديد
كانت فكرة إعادة الخلق من ملامح بعض النصوص الشعرية التي أشارت إلى الميلاد الجديد بعد الموت والدمار، ولا تقوم شعرية النصوص على استدعاء التدمير للتدمير في حدّ ذاته، فهو ليس الهدف النهائي في الخطاب الشعري، لكنها تستدعي التدمير للخلاص المبدئي الذي يسعى مساعي تطهيرية لخلق تكوين جديد، هذا المسعى يتواصل مع دوال بعض القصائد أحيانا ومع جهازها العنواني أحيانا أخرى.
ففي قصيدة “لعازر” –كما يتضح من الجهاز العنواني نفسه-يستدعي الشاعر أنطوان أبوزيد قصة قيامة المسيح للقديس لعازر من الموت؛ إلا أن الشاعر يستغني عن دور المسيح وشفاعة مريم في إشارة إلى أن خلاص الإنسان يكمن في يديه “أهنئك بعودتك من الحفرة/بلا يسوع في الظاهر/ولا مريم تشفع له من أجلك”.
يبدأ الخطاب الشعري بحضور مزدوج الدلالة لدال “التراب” (يدك فوق التراب/هذا أمر جيد) فالتراب هو المكون الرئيس لعملية الخلق الإنسانية، وكذلك من دلائل الخراب والفناء، وتكتمل عملية إعادة الخلق عبر نفض هذا (التراب/الغبار)، وامتلاك الحواس واستدعاء دلالاتها التعبيرية المتعلقة بالرؤية/المعرفة، والحث على إدراك العالم الجديد والخروج لمواجهته عبر استخدام صيغة الأمر التحريضية: “خذ نفسا عميقا/انفض الغبار بيمناك/وفكِّر …/قل شيئا للنادبات”.
ويبدو أن الشاعر رغب عبر استخدام البنية الحوارية وانقسام الذات إلى هيئة مشاهِدة وأخرى مُشاهَدة في خلق فضاء شعري يتحرك فيه بحرية، محققا نوعا من التخييل بالذات، وعدم الاندماج الكامل معها، فهو يشاهدها من الخارج ويوجهها وكأنها “آخر” لا يتطابق معه ويرغب في نقله بموضوعية.
يطالعنا ميلاد آخر في قصيدة “شبه وصية” التي يصور خلالها الشاعر علي الرفاعي مراحل تاريخ الإنسان منذ ميلاده الأول، مستخدما تقنية انقسام الصوت إلى صوتين، صوت الشاعر المتكلم المسيطر على القصيدة من البداية، وصوته الداخلي الذي يطفو على سطح القصيدة من آن إلى آخر معلقا عليها.
يرسم الخطاب الشعري محاولات تكبيل الإنسان منذ ميلاده بأشكال مختلفة من القيود تثقله بعد أن كان “خفيفا يدخل حيز الوجود”: اسم القبيلة، ملامح الأب وجينات الأم، إرث الأيديولوجيا وعبء الحقيقة وأوامر العقيدة، فيأتي الخطاب في صورة حوار فردي بين الذات/صوت الشاعر المعلن إلى الموضوع/الإنسان دون أن يرتد الحوار من الموضوع إلى الذات، ثم يأتي صوت الشاعر الداخلي المتموضع داخل علامة التقويس ليعلق على تلك الأفكار: “خفيفًا تجيء إلى الأرض/تدخل حيّز هذا الوجود/سحابًا يغادر أفقًا عظيمًا/إلى هامشٍ ضيق/ثم تبكي/(سيأتيكَ يومٌ وتعرفُ سرَّ البكاءِ/فلا تتعجل)”.
ينتهي النص الشعري كسابقه باستخدام فعل الأمر في خطاب تحريضي للإنسان على رفض الميراث الذي أثقله، وعلى رفض تشكيله عبر عنصرية الأيديولوجية وتقييد الدين وعبء الذاكرة: “تمرّد على (كلِّ هذا العجين)/ وَكن أنت عطرَ انفجار السماءِ/على رقعةِ الأسئلةْ/وحارسَ أرواحِنا المهمَلةْ”.
ملامح نسوية النص
يمكن القول بأن نسوية النص تتحدد في بعض الملامح منها ضرورة الكشف عن هوية أنثوية حقيقية ووجود تجربة مرجعية واقعية، أي وجود خطاب يعكس واقع حياة المرأة بشكل صادق قصد زيادة وعي المرأة.
وقد استجابت الشاعرات –محل القراءة- لنمط الكتابة من الداخل -الذي يميز كتابات المرأة بشكل عام- المعتمدة على الرؤية السردية الذاتية والمبنية على فكرة المعايشة، ووظفت النصوص بعض مقولات النسوية وموضوعاتها الكتابية، لتحضر نمط كتابة الجسد وتحوّلاته، وكذلك تجربة الأمومة، وغيرها من موضوعات ومفاهيم ارتبطت بخطاب المرأة من ناحية أو بالخطاب الذي اعتاد أن يمثلها من ناحية أخرى.
وتظل العلاقة بين الرجل والمرأة إحدى موضوعات الكتابة لدى عدد من الشاعرات، لكن رغم ذلك تخطى الخطاب الشعري لديهنّ تلك الصورة النمطية للعلاقة بين الرجل والمرأة. فلم يتأدى لديهن بتلك الرؤية الخاصة بخلل ميزان القوى الجنوسي المتعارف عليه، ففي “عارية إلا من الحب” تعتمد حنين الصايغ على التداعي الحلمي؛ فعبر توظيف تقنية الحلم تعيد الشاعرة إعادة صياغة علاقتها بحبيبها في مشاهد حوارية بوحيّة: “حلمت أني تحولت إلى شجرة برتقال/حلمها أن تعيش تحت نافذتك/وأنك رأيت الشجرة وبحثت عن عيني بين أوراقها/وأن وجعك نضج هناك/رأيتك تحزم أمتعتك/وتقطف ثمرتين من الشجر/وتودعها قائلا: سأذهب إلى حبيبتي/حلمت أن الشجرة بكت كل ثمارها/ووقفت هناك عارية/إلا من الحب”.
وتستدعي قصيدة “أصوات” لدارين حوماني فكرة الغواية لتنفي عن المرأة الصورة الراسخة في الوعي الجمعي الذي يمثلها في دور المغوية التي تذيع الشرور، وتنقل تلك التهمة إلى “التفاحة” مشيرة إلى أشكال السلطة التي من شأنها تشويه الحقائق: “قانونُ الغوايةِ تيّار خبيث/يطوِّع الزهرةَ النقيّةَ/ثمّ يشوهُها/بشكلٍ مُرعب/أيتها التفاحةُ/يا أسطورةَ الخليقةِ/الخليقةُ التي من دونِ نفعٍ تتكاثر/أليسَ الوقتُ مناسبًا/لتِخَرُجي من غوايتك/وَيكونَ لكِ مزاجٌ لعِالم آخر”.
وتعد تجربة الأمومة والكتابة عنها موضوعا من موضوعات الكتابة النسوية في خطاب بعض الشاعرات، فالموضوعات التي تتعامل مع طبيعة التجربة الأنثوية ويتحكم فيها النوع البيولوجي وما يترتب عليه من أدوار اجتماعية تعد معلما أساسيا من معالم النص النسوي.
ومثلما تؤثر تجربة الأمومة على النساء يؤثر غيابها عليهن كذلك؛ فهي التجربة الأكثر إلحاحا على المرأة، وتعرض زنوبيا ظاهر في أحد مقاطع قصيدتها “كائن ليس لي” ما أسمته أدريان ريتش بخطاب “التناقض الأمومي” الذي يعني حتمية الحب المبطن بالمعاناة؛ إلى جانب وصفها لآثار التغيرات التي قد تطرأ على جسدها بسبب تلك التجربة: “أنا ابنتكِ العاقر لأنّني أخافُ أن أكرهَ أبَ ابني/وَأحب ابني/أخافُ العكسَ أيضًا/ولأنني أخاف أن أبصُقهُما معًا إن لم يرَياني جميلةً/ولأنني صرتُ الآن أخافُ أن أهرم”.
ولا تنفصل صورة الأمومة عن فضاء الذاكرة واستدعاءاته الواضحة لفضاءات الطفولة، ليصبح موضوعا من موضوعات الكتابة الذاتية القائم على خطاب البوح الذي يعمل على صوغ الذات ويكثّف من حضورها؛ ويسعى إلى تقديم الذات الشاعرة بشكل صريح عبر كتابة سيرذاتية واضحة؛ فتستعيد الشاعرة لولا رينولدز علاقتها بأمها وتلومها على تعليمها كبت مشاعرها: “كانَ على أمي أن تُعلِّمني كيف أبكي/أمامَ الأشجارِ وَالعصافير/خارجا في العلن/كان عليها أن تُعلِّمني أيضا/كيف ألوّح بيدي/بدلا من أن أكتبَ بها/كان عليها أن تُعلِّمَني الدّموعَ قبلّ اللغة”.
ويبقى الشعر وسيلة الشعراء للتعايش مع الواقع وتقبله والتصالح معه، وكانت الكتابة ووظيفتها الفلسفية والوجودية هي سؤال الشعراء الذي يشغلهم كالوجود نفسه، فيؤنسن محمد ناصرالدين الشعر محاولا عقد صلحا معه في قصيدته “بغضاء” ليتمكنا معا في تجاوز الواقع؛ فالشعر كالوجود يحتمل الشيء ونقيضه: اقتَرب أيها الشِعر/وَلو كان بينَنا ثأرٌ قديم/سأضعُ جانبًا تلكَ الحربةَ المسَنونةَ/التي أحمِلُها لقتلِ الرّبِّ وَالذِّئبِ والذكريات/وَأنتَ اقتربْ حامِلً وَردتك الوحيدةَ/نَدفِن تحتَ الطاولةِ الكتبَ وَالحبَّ وَالضحايا/ونصالح مثل جنرالاتِ الحرب/مُثقَليَ بالنّدمِ وَالمجزرة”.
وهنا نجد أن الخطاب الشعري لشعراء لبنان قد استجاب لضرورات النسق الثقافي الحداثي ومتطلباته الموضوعاتية والفنية، حاملا صوت قائله ومقصديته، منفتحا على الثقافات المختلفة والفنون المتعددة، مشركا المتلقي في مراحل إنجازات العمل ومصطحبه في رسم الاستراتيجيات التي تكون الرؤيا الشمولية للخطاب؛ مدركا كونه الفضاء الذي يكتب داخله كل النصوص.