الأدب البوليسي والحرية
محيي الدين جرمة
قد يجد ما يسمى “بالأدب البوليسي” اليوم على الأرجح رهاناته في التلاشي والتضاؤل في الحضور وتأثير الجذب سواء كانت القصة تحيل إلى المشاهدة في فيلم أو تشير إلى عمل سردي تتضمنه رواية ما يشي أسلوبها بالنوع الروائي لطبيعة محددات شخصياتها وثيمتها. غير أن الرؤى اليوم أخذت تتعدد لتختلف. وتختلف في معطى تنوعها لتدرأ عن نصها شبهة التشابه أو التكرار في سمات بعينها لا يحبذها كثير من الساردين والساردات.
القارئ اليوم أمام خيارات وأمزجة غدت تتحكم بطبيعة العرض والمعروض. وعالميا كانت تشد كثيرين وأنا منهم روايات أجاثا كريستي. بيد أنني ألفيت شغفا ومتعة في فن وأسلوبيات إيزابيل الليندي وتميزا وفرادة في اتساع مفردة السرد وخفة العبارة والجملة المقتصدة في سياقها وأحيازها وشخصياتها وحركة الزمن والحادثات. كما أجد ذلك في سمات من تجربة ماركيز وسحرية تعاطيه بفضاءات السرد ونظرياته الواقعية المشعرنة وجوديا بلغة تنطوي على الفكر والتفلسف، والسياسة غير المفرطة سوى برشح غلالات منها.
وأتوخى من المشتغلين على مدونة السرد العربية اليوم وأركيولوجيا السرديات فحص مزيد عناصر الرواية العربية وتفليتها من ظلال الآخرين وهواة التكرار والارتكاس في اللغة والتعبير، لكتابة نصوص مقولبة بتعلة أن الناشرين كالمخرج “عاوز كده” بتصورات خا ج طموح الكاتب وما قد يفوته من إرهاص التجربة ومرايا تراكماتها. فمزاج النشر غدا تجارة وهذه حقيقة ممضة!
وفي العموم فالرواية العربية اليوم في سباق محموم بين تحدي إثبات نفسها وهويتها وكاتبها وأنماط سرودها وبين التعلق بتقليد النماذج أو اتّباع طرق استهلاكية في الكتابة. فالناشر في الأغلب ينساق وراء الرواية “المبولسة” معتقدا بأن ذلك هدف أقرب لوصولية ربحيته. وندرة من يجتهد منهم في الترحيب بفن الرواية الجديد في أصالة تجاربه وتجريبها. ويبقى التنوية عربيا إلى أن إشكالية “الرواية” بلبوس المخافر وتعيين صناعة الجريمة في معامل السرد المستعجلة بقيت محصورة في “كتّاب وزارات الداخلية” أو تلك المفارز التي تنتج كتابا مرسمين بختم “أرشيف الإدارة الجنائية” بدلا من إتاحة مراكز المعلومات الوطنية ككابينة اتصال مفتوحة وجانب حقوقي تتاح الكلمة عبره كمجال عام وفضاء غير مخنوق فتتصدره سمة ودلالة. إن الكتابة قبل كل شيء هي فعل حرية ومن دون ذلك ينتفي التحليق الحرّ وتغيب القضايا ببعدها الإنساني العميق، وافتراض أحقية المواطنية كامتياز متاح في الحصول على المعلومة بعيدا عن التفتيش والوصاية والرقابة على نوايا الكتاب.
أتمنى أن تزدهر الكتابة في الأدب البوليسي أو غيره لتفاعل المعنى الواحد المتعدد وكنصّ رحب يتخلله فن السرد وتطبعه الأساليب المتعددة للنوع الروائي.
ولو كان لا بد من إبداء رأي حول المقروء في سياق اطلاعي وتذوقي عربيا أشير الى بعض أعمال الروائي المبدع صنع الله إبراهيم.