الأدب علاجا

السبت 2018/09/01
لوحة: فادي يازجي

عادة ما تساعدنا الفنون والموسيقى والأدب على أن نعيش الحياة إذ تمنحنا قوة ونشاطا وسلوانا. فحين نقرأ قصيدة أو رواية نشعر بأنها تزوّدنا بما يجعلنا أكثر قدرة على التحمل والتشبث بالبقاء وبالاستمرار لفترة أطول.

إن الفنون عامة صيدلية، وكلّ نوع هو ضرب من الأدوية التي نقاوم بها الأمراض وتدفع عنّا الموت أو تؤجّله. فمثلما يتناول المريض دواءه حبات تؤكل أو شرابا يُشرب أو مراهم للدّلك، فإنّ محبّ الفنّ والأدب يتناول “دواءه” استماعا أو قراءة أو كتابة أو نقاشا.

وقد يكون من الصعب جدّا ضبط تاريخ دقيق لفكرة كون الأدب دواء. ولكنها لا شكّ فكرة قديمة.

يمكن أن نعود إلى أرسطو (ت 322 ق م) وإلى فكرة التطهير La catharsis، فالتطهير هو تنقية نفس المشاهد وتنظيفها بإثارة خوفها وفزعها ممّا حدث لبطل المسرحية، أي تحريره وتفريغه جسديا ونفسيّا من الداء.

إن هدف الفن حسب أرسطو إذن طبي. فالفن يُفرغ الإنسان من الانفعالات ومن العنف ويحرضه على السمو وعلى الفضيلة، بل إنّ علاقة الفنّ والأدب بالعلاج تعود إلى زمنٍ أسبق من ذلك، إلى زمن الأساطير والقصائد الأولى ذات الوظيفة العلاجية.

والحقيقة أن الفنّ والأدب شعرا وقصة عبر تاريخهما الطويل لم يتخليا عن مطلب العلاجية، وإنقاذ الكائن والعالم حتى في كتابات من وُصفوا بأنهم “أساتذة اليأس″ وهو عنوان كتاب نانسي هيوستن (منشورات كلمة أبوظبي، ترجمة وليد السويركي 2012، 360 ص) الذي أشارت في آخر تمهيدها له إلى أنّ ما تريد القيام به هو استخلاص الرسالة الفلسفيّة التي يحملها هؤلاء الكتاب ومحاولة فهم سبب ممارسة هذه الرسالة كلّ هذا السّحر وتلك السطوة في أوروبا المعاصرة.

تلاحظ هيوستن بمناسبة حضورها عرض إحدى مسرحيات توماس بيرنهارد Thomas Bernhard (ت 1989) أننا في حياتنا الواقعية أناس نحبّ الحياة والنظام ونحبّ احترام المواعيد والمحافظة على العلاقات والتقاليد العائلية وعلى أشيائنا الرمزية.. ” ولكننا كقراء أو متفرجين نفعل العكس: نمتدح دعاة العدم، نبشّر بسلوك جنسي استعرائي بقدر ما هو عقيم، ونصغي بلا توقف إلى لازمة مضجرة من أفعال البشر الدنيئة”.

وتتساءل عن سبب هذه المفارقة التي صارت أكثر وضوحا بين ما نرغب في أن نحياه ( تضامن، عطاء، ديمقراطية) وما نرغب في أن نستهلكه كثقافة (انتهاك، عنف، عزلة، يأس ).. بين الإقبال على عيش الحياة من جهة والإقبالِ على قراءة أدب الموت والعدم من جهة ثانية.

وتبيّن هيوستن أن العدمية في الأدب والثقافة وُلدت بدخول الإنسانية مرحلة الحداثة، وهي المرحلة التي تحررت فيها المرأة وتعلمت وصارت تنافس الرجل، فحرمته من احتكار الحياة الثقافية والفكرية.

وبفقدان الرّجل سلطته التقليدية صارت الحياة عبثية في رأيه فكتب ما سمّته “أدب اليأس″. من هنا، تقول، جاءت العدمية، وكانت اتجاها ضدا للطوباوية، وهما إن بدتا متناقضتين فهما في رأيها متفقتان في طبيعتهما “المطلقة”. وذلك هو السبب المهم والأكبر، حسب رأيها، في نجاحهما لدى الجمهور(ص18).

ورغم أنّ العدمية حملت معاني ودلالات عديدة، إلاّ أنها، في رأي هيوستن، صارت تعني العزلة والاشمئزاز من الأنثويّ واحتقار الحياة الأرضية. وهي رؤية تعود إلى القرن السابع عشر عصر تركتنا الآلهة لأنفسنا فتعاظم خوفنا و”وعينا التراجيديّ”. ذلك هو عصر ميلاد الحداثة.

ورغم النجاحات في الكثير من الميادين إلاّ أنّ زوال “سحر العالم” والشعور بالسعادة كان أقوى وأشد خاصة عند الرجال الذين ظلوا مقتنعين بأنّ عليهم “واجب إثبات الفحولة”.

إن تعلّم المرأة وقدرتها على استعمال حبوب منع الحمل ودخولها عالم الأدب والسياسية جعلت الرّجل، كما قالت، يعيش القلق وينزع إلى “العدميّة”.

وفي خضم الحروب المتتالية والمدمّرة وسياسات الاستبداد كفّ معظم الكتاب الأوروبيين عن اعتبار الأدب مساعدا على فهم العالم وعلى العيش فيه، وازداد توسّع الرؤية العدميّة حتى صارت كأنها شرط إنساني. ولكن في 1948 كان البيان الناري الذي كتبه الرسّام بول إيميل بوردواس Paul-Emil Borduas الذي دعا إلى أن “نواصل بفرح حاجتنا الوحشية إلى التحرّر”، وإلى أن نظل نمارس الفنّ ونكتب الأدب علاجا لأمراضنا ولهشاشتنا وما حلّ بالعالم وما يتهدّد المستقبل. فإذا كنا من النساء كان من الضروري، تبعا لذلك، ألاّ نخاف الجمع بين الولادة والكتابة، بل لعلّ المرأة “مانحة الحياة”، في رأي هيوست، أكثر قدرة على ذلك لأنّ الكتابة ليست غير عشق للحياة وتحرّر من الألم والداء.

ورغم أنّ العلاقة في ما يبدو معقدة بين الأدب والصحة إلاّ أنّ لقراءة الأدب، حتّى ذلك الذي كتبه “يائسون” أو “مجانين” حاولوا الانتحار أو انتحروا، وكتابته لا شكّ فضائل صحية ونفسية وعقلية وعضوية. فبالإضافة إلى التثقيف والتعليم تمثل كتابة الأدب وقراءته مناسبة للتحرّر وتصعيد المكبوتات وللتواصل مع الذات ومع الآخرين، ولإعادة اكتشاف الأشياء وتجريبها، وتعزيز الثقة في النفس والقيم واللعب باللغة وبالخيال.. رغم أنّ قصصا وحكايات كثيرة يرويها لنا الكتّاب والرّاوة مؤلمة وقاسية. أليس الألم جزءا من الحياة والقبح جزءا من الحقيقة؟

في هذا السياق وتأكيدا لأهمية الأدب علاجا كتبت إلاّ برثود وسوزان إلدركن Ella Berthoud وSusan Elderkin كتابا مهمّا عنوانه “العلاجات الأدبية، العلاج بالكتب” ( 2015) لتأكيد فكرة أن الأدب والرّواية علاج نافع لأمراض مثل ارتفاع ضغط الدم والإدمان والشيخوخة.. والحقيقة أن هذه الأطروحة، كما ذكرنا، ليست جديدة فالوظيفة العلاجية للقراءة فكرة قديمة عرفت مثلا في مصر الفرعونية من خلال تسميتهم المكتبة “مكان إنعاش الروح”، روح الأفراد والأمم. ولنتخيل فردا أو جماعة لا يقرآن ولا يكتبان. إنهما ميّتان وليسا مريضين يحتاجان إلى دواء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.