الألم يعقل اللسان والشعر لسان
آصدقك القول إني لا أدري حقيقة كيف يستطيع الشاعر اليوم أن يكتب شعرا. لطالما كان الشعر بالنسبة إليّ شأنا شخصيا: ثورة لكنها غير قابلة للحكم. اعتراض لكنه أيضا غير قابل للاختبار على محك الأحداث والتواريخ. مشاعر مكثفة ومتوهّجة، لكنه أيضا ليس قابلا للأخذ به على محمل الجد المفرط. لو صدقنا صفات الحب في الشعر لوجب علينا أن نستغرب أشد الاستغراب كيف يمكن لأيّ كان أن يهجر امرأة تلك صفاتها، أو رجل هذه صفاته. مع ذلك نصدّق الشعر لكننا لا نصدّق الشعراء. نصدّق الشعر لأننا حين نقرأ شعرا كبيرا ومتألقا في وصف محبوبة نستطيع أن ننسب الوصف لحبيباتنا وأن نكذّب الشاعر نفسه. الشعر هو جوهرتنا النفيسة التي نضعها حول أعناقنا أو في أصابعنا في المناسبات الجليلة.
هل يستطيع الشاعر وسط هذا الكمّ الهائل من الألم والدم أن يوازي بالكلام وحده، شيئا من الدم والعذابات. أظن أنه لا يستطيع، لذلك يلتزم الصمت غالبا، أو يدمّره الانحياز. أيّ دم هو الدم الذي يجب أن ينحاز له الشاعر؟ الدم عموما؟ الدم بصورة مطلقة؟ ربما، لكنه في هذه الحال يصبح نبيا أو راهبا على أقل تقدير. والنبوة ضد الشعر. أيّ حيوات يجب أن ينحاز ضد انقصافها؟ أيضا ثمة معضلة على هذا المستوى. وهي معضلة كبيرة بحق. كل حياة تستحق أن نحصّنها من الهدر. لكننا حين ننحاز لطفولة إيلان كردي نكون كمن يظلم جميع الذين شهقوا في البحر نفسه شهقتهم الأخيرة. مثلما نظلم الذين خرجوا أشلاء من تحت الدمار، أو أولئك الذين قُطعت رؤوسهم أو حُرقت أجسادهم. فهل نستطيع والحال هذه أن نعيد كتابة الأرض الخراب، أن نسمو على كل العذابات والاحتضارات، ونقرر أن الأرض نفسها ترقص رقصة المذبوح؟
أحسب أنني شخصيا لا أستطيع تنكّب مثل هذا الحمل. فأنا موجوع إلى الحد الذي لم أعد أحسن فيه غير الصراخ. الصراخ لأن الألم يعقل اللسان، والشعر لسان.
الجملة الوحيدة التي أستطيع قولها اليوم، هي جملة أشبه بالصراخ: يا أ الله ما إلنا غيرك.
