الأنتلجنسيا العربية
هل يحتاج العنف -دائما- إلى نص تاريخي أو ديني أو ثقافي يبرره؟ وهل باتت الأنتلجنسيا العربية أكثر رثاثة لتنأى بنفسها بعيدا عن صناعة النص المُضاد؟ هذان السؤالان، يُثيران الآن الكثير من اللبْس والغموض، ليس لأنهما يعكسان إشكالية خطيرة ووعيا مشوّشا وعاطلا عن الإرادة، بقدر ما أنهما يُسهمان في تعرية المفارقة النصوصية التي يعيشها الاجتماع الثقافي العاطل عن هويته والفاقد لقدرته في تجاوز مراثي الكساد الثقافي حيث يعيش المثقف العربي أوهام الضحية والقربان، وصولا إلى تماهيه مع لذة الفرجة والبحث عن وهم المُنقذ الأخلاقي.
هذا ليس جلدا للذات، كما يفترض البعض، وليس هروبا للأمام أيضا، لكنه واقع الحال، وواقع المحنة التي نعيشها، فما يحدث اليوم في وقائعنا الثقافية من فجائع وخيبات ومن مظاهر للغلوّ والتطرف والعنف يؤكد وجود هذه الصورة الرمادية، تلك التي تستدعي الحاجة لفحص ومراجعة طبائع ما كرّسته نُظم الاستبداد أيديولوجيا وأمنيا وثقافيا، مثلما تفترض حيازة رؤية واضحة للتعرّف على حمولات تلك الصورة الغائمة، فضلا عن الحاجة لفهم أسباب نشوئها، ولطبيعة مرجعياتها المُعلَنة والمُضمَرة، وإدراك ما يحوط بها من تعقيدات ومن أزمات.
وسط هذا الرعب العمومي نجد أنفسنا أمام رهابٍ معقد لسرديات الصورة/صورة الفقيه والجنرال والزعيم والذي يتكئ على تراثٍ من المهيمنات السياسية والتاريخية الضاغطة، فضلا عمّا يستعين به من نصوصٍ جائرة لها لبوس الغواية والقوة، ولها أسانيد فقهية تضع السؤال الثقافي الضد في سياق «الهرطقة»، مثلما تضعه في سياق الخروج المارق عن فقه الأمة وولاية الأمر، وبالتالي وضع القيود على أيّ خطابٍ ثقافي يمكنه أنْ يتبنّى فاعلية السجال والتحليل والجدل والشك، فضلا عن قطع الطريق على التعاطي العقلاني مع إشكاليات تداولية لمفاهيم قابلة للنقد، مثل النقل والعقل والحرية والشرع والدولة والأمة دونما إكراهات، حتى باتت هذه المفاهيم مُحدّدة الاستعمال ومتموضعة في إطار فهمٍ معين، لا تأثير لها على مستوى استثارة الوعي وتحفيز التفكير ولا على مستوى توسيع فاعليات النظر للواقع الاجتماعي والتربوي والحقوقي والإعلامي وحتى السياسي.
الكثير من معطيات هذا الواقع تعكس طبيعة الأزمات المتراكمة ورثاثة الخطاب الثقافي وتهميشه وبما يُسهم في تضخيم الخطاب السياسي السلطوي والخطاب الأيديولوجي وحتى الخطاب الفقهي، لنجد أنفسنا أمام مصادر عميقة لتسويق التهويم العنفي والتقديسي لظاهرة «الحاكمية» التي تحدّث عنها أبوالأعلى المودودي وسيد قطب، وهما جزء من ظاهرة صناعة الفكر العنفي وتعطيل الوظيفة التحليلية للخطاب الثقافي.
نقد هذا الخطاب هو عتبة إجرائية لمواجهة الأزمة وتعرية خطابها التاريخي والثقافي، وإذا كان أصحاب مشروع نقد العقل العربي والإسلامي مثل محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد أركون وهشام جعيط ومحمد الطالبي وعبدالجبار الرفاعي وغيرهم قد وضعوا تصورا عن الطبيعة الإشكالية لنقد هذا العقل، مواجهة تمثلاته الصيانية، فإن ضعف تداوله قد أفقده القدرة على تحويله إلى قوة نظيرة.
كما أنّ تضخم الظاهرة السياسية الجماعتية، لا سيما بعد ما سمّي بـ»الربيع العربي» وبروز ظاهرة الإرهاب التكفيري أصبحت غطاء عائما لصناعة الرعب وترويجه والتبشير بخطابه، ومصدرا من مصادر تعطيل إرادة تمثيل الدولة الحديثة وحيازة القدرة على الدفاع عن العقل، والوقوف أمام سايكوباثيا العطب الثقافي، عطب الحضور والممارسة والمؤسسة والتعليم والتنمية.
هذا العطب الثقافي انعكس بشكل مريع على واقعنا العربي، حدّ أنه صار عطبا إشكاليا في صناعة السلطة وفي أنماط السلوك والتفكير، وتماهيا غرائبيا مع القوة الطاردة/قوة الجماعة والأدلجة والاستبداد، وهو ما انعكس أيضا على تمثلات الأنتلجنسيا العربية في وعيها لشروط المشروع التنويري، وفي جدّتها لمواجهة أوهام الرعب السلفي، ذلك الذي بات يُبشّر علنا بالمقدس الماضوي والدولة الماضوية والتطهير الماضوي.
هذا الرعب اكتسب وسط العطب الثقافي قوته الطاردة، تلك التي تسعى إلى شرعنة إخضاع الثقافي إلى السياسي/السلطوي، وربما إلى وضع بنية إطارية لترسيم حدود الثقافي، في وصفه، وفي تأويله وفي وظيفته عند المواجهة والنقد، أو في الخضوع لها، ولعل تحوّل البعض من المثقفين إلى «حُرّاس أيديولوجيين» لهذه السلطة/مؤسسة الرعب هو أخطر تمثلات ذلك العطب، حيث تتسع صورة الجنرال/الفقيه وتغيب صورة الساموراي الذي أراده يوكوشيما.