الأنوثة تقاوم
كانت المرأة موجودة دائما في قلب التحولات الكبرى التي شهدها الفن الحديث في العالم العربي. هناك في مصر تحية حليم وجاذبية سري وإنجي أفلاطون وفي لبنان سلوى روضة شقير وهيلين الخال وإيفيت أشقر وفي سوريا إيتيل عدنان وفي العراق مديحة عمر ونزيهة سليم وسعاد العطار وفي السعودية صفية بن زقر ومنيرة الموصلي وفي تونس صفية فرحات وفي الجزائر باية محيي الدين وفي المغرب الشعيبية طلال. أسماء صنعت تاريخا مجاورا لذلك التاريخ الذي صنعه الرجل. هناك جمال مختلف رعته النساء في حاضنة ثقافية أضفى عليها الرجال الكثير من الخشونة. لم يكن المنجز النسائي في الفن ثانويا غير أن ثقافة المجتمع الذكورية لم تكن لتسمح بالنظر بطريقة محايدة إليه في حجمه الحقيقي. لذلك خسرت مديحة عمر سباق الريادة الحروفية لصالح جميل حمودي وهو ما حدث في الشعر تماما حين خسرت نازك الملائكة سباق الريادة لصالح بدر شاكر السياب.
تظهر الفنانات الثلاث اهتماما جليا بالرسم، كونه فنا خالصا يتخطى الوجود الواقعي المباشر.
غير أن ذلك الزمن مضى من غير رجعة. اليوم وقد هُزم العالم الذي بناه الرجل صار في إمكان النساء أن يظهرن باعتبارهن منقذات. حين رأيت رسوم المغربية أمينة راكي قبل سنوات صرت على يقين من أن مستقبل الفن العربي سيكون في عهدة النساء. تمزج أمينة الموهبة والحرفة والخيال لترسم عالما قريبا من الواقع غير أنه ليس منه. ترسم أمينة بضراوة مَن يقاتل دفاعا عن قضية مصيرية. ولقد رأيت نساء يفعلن الشيء نفسه. لا شيء من وهم الكائن الضعيف. الرسامة الحقيقة كائن قوي. اليوم لا يمكن إنكار حقيقة أن النساء هن سيدات المشهد الفني في العالم العربي. لقد انتهت أسطورة المرأة التي ترسم الزهور وهي كذبة ذكورية تماهت معها نساء ناقصات الموهبة والخيال. هناك أمل في عشرات النساء اللواتي صار الرسم صنعتهن وقدرهن في الوقت نفسه. سيكون الإلهام سعيدا لأنه لن يفارق مكانه. لقد عاد الجمال إلى بيته. الأنوثة وقد استعادت سلطتها.
رندا مداح فنانة تقاوم احتلال الذاكرة
“أفق خفيف” هو عنوان فيلمها القصير الذي شد إليها الأنظار. ولكن هل كان ذلك الأفق خفيفا حقا؟ سيكون علينا أن نعتبره فيلما روائيا، بالرغم من أنه يخلو من الحوار. فيلم روائي طويل بالرغم من قصره بسبب استغراقه في القبض على لحظة شقاء أبدية. بطلته تمارس الحياة باعتبارها حدثا عبثيا لا يمكن تفاديه، بل ليس المطلوب تفاديه.
كتب جون بيرجر وهو يخاطب رندا مداح “كأنك تحملين حصى الجولان بيسراك وبيمناك ترسمين أحشاءها” لم يكن ذلك تعليقا على الفيلم ذي المغزى الفلسفي العميق بالرغم من بساطته. فالفيلم الذي صور بكاميرا ثابتة هو عبارة عن مشهد واحد، لم تنجح الريح في تغييره.
- الخراب الذي يؤسس للنسيان
امرأة تنظف أرضية بيتها الذي هدمته الحرب. تلك المرأة لا تفكر في سؤال من نوع “ما الذي تفعله؟” فهي لا ترى أهمية لذلك السؤال. ذلك لأنها صارت محكومة بأن تقوم بما تفعله تعبيرا منها عن شعورها بأنها لا تزال حية.
وبالرغم من أن مداح ولدت ومدينتها محتلة فهي لا تعرف شيئا عن مدينتها خارج قفص الاحتلال فإنها تجيد اللغة التي تكشف من خلالها عن ذلك “التضاد” الذي يستند في الطرف الآخر من معادلته إلى معرفة عميقة بالحرية.
في دقائق قليلة تزاوج رندا بين الألم والمقاومة فتقول كل شيء عن ذلك الوجود الإنساني العميق الذي تخطى بدلالاته كل ما علق به من مقولات سياسية. فذلك البيت الذي تقوم المرأة بتنظيفه ليس بيتا مؤجلا بل هو بيت اللحظة الراهنة التي لا تقع في زمن بعينه. وهو ما يعني أن الأمر لا يتعلق بحروب، طرفاها الذاكرة والنسيان.
لا تفكر الفنانة التي لطالما رسمت بالقلم الرصاص بطريقة واقعية، عملية كما قد يُخيل للبعض. فهي تقاوم الذاكرة مثلما تقاوم بالقوة نفسها النسيان. هناك ما يجعلها تشعر بالوحشة إذا لم تستنفر قواها من أجل “مديح الحياة الحقة” وهو ما تعلمته من أجل أن تخلص لفعل المقاومة.
في معرضيها “ربطة شعر” برام الله و”ترميم” بباريس كانت نحاتة ورسامة، غير أنها في الحالين كانت قد أشهرت عن نزعتها التي تتخطى الرسم والنحت لتصل إلى إعادة تركيب الكائن الذي يفاجئ نفسه بحضوره المدوّي.
بالنسبة إليها، وهي التي اختبرت ما الذي يعنيه أن تكون الحياة أشبه بمسرح العرائس، فإن الدمية هي الكائن الحي الوحيد الذي يمكنه أن يقول الحقيقة. حقيقته وحقيقة الآخرين.
تعذب رندا مداح مشاهدي أعمالها حين لا تطري ذائقتهم الجمالية بل تفتتها وتهلكها وهي في ذلك إنما تروّج لعذابها الذي يتعامل معه الكثيرون باعتباره مناسبة لإحياء الذاكرة.
- بحثا عن مكان خفي
ولدت رندا مداح في قرية مجدل شمس بالجولان المحتل عام 1983. بعد أن أنهت دورة في النحت والرسم في مركز أدهم إسماعيل بدمشق عام 2003 انتقلت إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق لتدرس النحت ما بين عامي 2005 و2007. انضمت بعدها إلى دورة أقيمت في القدس لتعلم فن الكرافيك. توزع نتاجها الفني بين الرسم والنحت وصناعة الأفلام.
أقامت الفنانة معرضها الشخصي الأول “ربطة شعر” برام الله عام 2016. تضمن ذلك المعرض منحوتات نُفّذت بالبرونز والطين والجبس. أما معرضها الثاني وكان بعنوان “ترميم” فإنها أقامته بباريس عام 2018 وتضمن أعمالا نُفذت من خلال فني الفيديو والفوتوغراف إضافة إلى إنجاز أعمال إسمنتية. سلطت الفنانة في ذلك المعرض الضوء على مقاربة الهدم والترميم. هدم المكان واقعيا والفشل في محاولة إحيائه في الذاكرة. أقامت أيضا معرضا من غير عنوان في قاعة “أوربيا” بباريس أثناء إقامتها الفنية هناك. كان ذلك المعرض مخصصا لأعمال نُفذت بالرصاص على الورق. حصلت رندا على جائزة الامتياز من مؤسسة تاكيفوجي اليابانية.
تركز مداح في أعمالها على الصدمة التي تنطوي عليها سرديات العلاقة بالمكان الذي تم اخفاؤه بطريقة مقصودة.
- صانعة معادلة هويتها
بالنسبة إلى رندا مداح فإن الموضوع الذي يشغلها لا يتعلق بحرب هويات. لا تظهر الفنانة حماسة للدفاع عن هويتها السورية في مواجهة الضم الإسرائيلي للجولان. هناك شيء له علاقة بالبعد الإنساني لوجودها المعلق يدفعها إلى رفض منطق الاحتلال. هنا بالضبط تكمن قيمة الدفاع عن فكرة أن يكون الإنسان حرا ومستقلا ولا يتم تحريكه عن طريق خيوط كما يحدث للدمية في مسرح العرائس. العالم ليس مسرحا والحياة ليست مسرحية. تسعى الفنانة إلى مزج الشقاء بالسخرية من أجل أن تقف على الضفة المضادة.
صحيح أن الفنانة استلهمت حياتها الواقعية غير أنها اهتدت عن طريق الفن إلى اللغز الذي تنطوي عليه إقامة المرء في مكانين، بالرغم من أنهما يبدوان كما لو أنهما مكان واحد. المكان نفسه. تلك مسألة ذات بعد إنساني، نجحت رندا في وضعها على طاولة التشريح لتمسك من خلالها بعناصر شخصيتها التي تكونت في ظل الاحتلال من غير أن تنقطع عن أصولها.
رندا مداح هي ابنة ذلك التناقض وهي في الوقت نفسه صانعة معادلاته. الفنانة التي لا تصر على أن تستعيد هويتها بقدر ما يهمها أن تصنع تلك الهوية. إنها تمد يدها إلى عجينة لم يجرؤ على استعمالها أحد من قبل. الإنسان باعتباره سيد مصيره. لذلك فإنها لا تبالغ في وطنيتها، بل إنها لا تتخذ من تلك الوطنية عصا تتوكأ عليها من أجل شراء تعاطف المتلقي. تقاوم رندا تلك العاطفة المستباحة. لديها دائما ما تقوله خارج المساحات المشتركة. نزعتها الفردية تفرض عليها أن تكون حرة في ما تقول بعد أن حررها الاحتلال من الخطاب الرسمي.
تناقض آخر لن تكون رندا معنية في الدفاع عنه.
-
نموذج لجمال مضاد
تستعيد رندا مداح جزءا من تجربة الفنانة الفرنسية “الأميركية” لويزا بورجوا التي كانت مولعة بتعليق منحوتاتها البشرية بخيوط تتدلى من السقف وهو ما فعلته رندا. غير أن هناك فارقا كبيرا في القصد بين الفنانتين. فبورجوا لم تتخط الجانب الشكلي لمسألة العرض فيما ذهبت رندا بعيدا حين فعلت ذلك مدفوعة بأسباب فلسفية عميقة سبق لي أن تناولتها حين الإشارة إلى مسرح العرائس.
وإذا ما كانت مداح متمكنة من حرفتها رسامة ونحاتة وهو ما صار أمرا مثيرا في ظل انخفاض مستوى الحرفة لدى معظم الفنانين عبر العقود الثلاثة الماضية فإن طريقتها في التفكير في الفن تتجاوز حدود المعالجة التقليدية للمواد والعناصر والموضوعات. فهي ومن بدء تجربتها الفنية كانت تميل إلى التعامل مع الفنون المعاصرة إلى جانب عدم تخليها عن الرسم والنحت. وهو ما بدا واضحا في عروضها.
ما فعلته رندا على هذا المستوى يستحق المديح لما انطوت عليه محاولتها من تجديد تمثل في إقامة وشائج بين فني الرسم والنحت والفنون المعاصرة التي لم تعد مجرد تقنيات بل هي طرق ثورية جديدة في التفكير في الفن ومن خلاله، يتجاوز الفنان من خلالها العلاقة التقليدية بينه والمجتمع والتي كانت قائمة على فرض الجمال سعيا وراء النموذج الكامل.
لقد تعلمت رندا من الشقاء دروسا عديدة. وما انفتاحها على مناطق ملغومة بالأسئلة إلا واحد من تلك الدروس. بالنسبة إليها فإن الفن في جوهره لا يشرح ولا يجيب لا يشيع الاطمئنان.
وضعت رندا موهبتها في خدمة قضية ذات خصوصية، غير أنها عن طريق إخلاصها للفن نجحت في الكشف عن البعد الإنساني الشامل لتلك القضية.
سوزان عليوان ترسم بيدي طفلة الشعر
يخشى المرء وهو يدخل إلى عالمها من أن يقع ضحية لعملية تضليل. فتلك امرأة تجيد مهارات لا يعرف أسرارها سوى الأطفال. في الشعر والرسم على حد سواء. هناك تلقائية تقع مباشرة من غير تمهيد مسبق. وهو ما يفخخ البداهة بأنواع مختلفة من المفاجآت.
إنها أليس التي انزلقت إلى بلاد العجائب.
- ابنة الاختراع الشخصي
منذ البدء قررت أن تكون ملك نفسها. تهذي بما تراه صحيحا. عن طريق يدها ولسانها قالت شيئا مختلفا. لا أحد يملك سببا للاعتراض على ما تفعل. الطفلة التي تصف ما تراه في حاجة إلى أن يستعير أحد عينيها لكي برى ما رأته وإن لم يفعل فإن عليه أن يظل صامتا.
لذلك صمت النقد بشقيه الأدبي والفني في البداية عن الحديث عن تجربتها.
لم يكن ذلك ليهمها وهي التي اخترعت حديقتها خارج الوصفات المتاحة لنمو النباتات. ليست لديها زهرة فائضة لتضحي بها.
سوزان عليوان متقشفة إلى درجة أنها تستغني عن الجمل مقابل الحصول على كلمة تشبهها. تفعل ذلك في الرسم أيضا.
لذلك فإنها لا تحتاج إلى ما يحتاجه الآخرون فجربت أن تنشر كتبها بطريقتها الخاصة ونجحت.
إنها ابنة الاختراع الشخصي ومقاومة الطاعة. هي طفلة الشعر العربي الأبدية التي لا تنتظر الاعتراف من أحد. فهي أصلا لم تعترف بمؤسسات النشر ولم تقع عينها على الجوائز وقبل ذلك فإنها لم تبحث عن قارئها، بل تركت الأمور كلها للصدفة. سيكون اللقاء ممتعا بين عابرين.
بالنسبة إليها فإن كل شيء كان يجري باعتباره شأنا شخصيا.
كان جليا أنها لا تبحث عن الاعتراف بها شاعرة ورسامة. ذلك آخر ما يهمها.
- المتمردة التي صنعت حياة
ولدت سوزان عليوان عام 1974 في بيروت من أب لبناني وأم عراقية. قضت سنوات طفولتها بين إسبانيا وباريس والقاهرة. عام 1997 تخرجت من قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الأميركية بالقاهرة. بعدها عادت إلى بيروت ولا تزال تعيش فيها. عام 1994 أصدرت كتابها الأول “عصفور المقهى” بطريقة لم تكن مألوفة في العالم العربي. ظل ذلك الكتاب محتفظا بصفته دفترا شخصيا حتى بعد طباعته بشكل محدود. زودته برسومها التي لا تبحث عن اعتراف رسمي. رسوم تذكر بتلك التخطيطات التي رسمها أنطون دي سانت إكزوبيري من أجل كتابه العظيم “الأمير الصغير”.
ذلك الكتاب هو مفاجأتها الشخصية التي صارت بالنسبة إليها خط حياة. تتالت أعمالها الشعرية في الصدور بالطريقة عينها من غير أن تبحث عما يمكن أن يكرسها ثقافيا. “بيت من سكر” الذي صدر عام 2007 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر ضمن سلسلة “آفاق عربية” وهو عبارة عن مختارات من شعرها هو الكتاب الوحيد الذي أفلت من مخطط تمردها.
صانعة كتب هي لكنها كتب من طراز خاص. كتب يحيط بها الخيال من كل جانب. لا تنتمي إلى جنس بعينه من الكتابة إلا إذا اعتبرنا الدفاتر الشخصية نوعا من الكتب التي لا يمكن إدرجاها في المكتبة الرسمية.
سوزان عليوان شاعرة ورسامة. غير أنها لا تنظر إلى الصفتين باعتبارهما زيين رسميين تظهر من خلالهما على مجتمع تمردت عليه في وقت مبكر ولا تزال تنظر إليه بعين متمردة.
من خلال الشعر والرسم باعتبارهما عالما واحدا صنعت عليوان حياة تناسبها هي مزيج من أشكال وأصوات وروائح تنتمي إلى زمن مطلق. زمن يسخر من تحولاته الخارجية، ذلك لأنه يعيش التحول من الداخل.
كتبت عليوان ورسمت من أجل ألاّ تكون جزءا من القطيع الفني والشعري. في كل ما فعلته كانت تسعى إلى تأكيد انفصالها.
- طفلة الشعر الأبدية
“قصيدة واحدة وحيدة، هي كل ما أعترف به الآن من ديواني الأول” هذا ما كتبته عليوان في موقعها الإلكتروني. اعتراف لم يسبقها إليه شاعر عربي بالرغم من أنهم يحذفون الكثير من أشعارهم الأولى كما لو أنهم لم يكتبوها. تقول “الليل لا يتسع لأرقي/البكاء لا يتسع لدمعي/أصدقائي لا يتسعون لي/وحده الموت يتسع” في كتابها “لا أشبه أحدا”. تجازف الشاعرة في صدقها لا من أجل أن تكون مختلفة بل من أجل أن تسترجع ذاتها قبل الكلمات والأصباغ. “بنت تشبهني/حين كنت أشبه نفسي”، ترتب أحوال بلاغتها وعلاقتها بالزمن من أجل أن تتطابق صورتها في المرآة مع ذاتها المتخيلة. هناك مساحة موحشة تفصل بين مكانين متخيلين تملأها الشاعرة بالكلمات التي تخدش بهوائها كل حجر تمر به. تكتب من أجل الطفلة التي تنتظرها في المستقبل فهي لا تستعيد جنة حُرمت منها. الكتابة بالنسبة إليها هي خلاصة ما سيأتي وليس استرجاعا لما مضى. “هل من عقاب أكثر من الزمن” تقول وهي التي عرفت كيف تفلت باعتبارها طفلة الشعر التي لن تكبر.
- أين تقع القصيدة؟
تحتل الصور المكان الأبرز في عالمها الذي لا يكف عن التذكير بصغره وهو ما ينطوي على الكثير من الخداع الذي ينسجم مع روح اللعب الشعري. في ذلك العالم لا تتصادم الكلمات ولا تتداخل أو تتقاطع ولا ينفي بعضها البعض الآخر إلا من أجل خلق صورة، تبدو كما لو أنها في حد ذاتها الهدف الذي تسعى الشاعرة إلى الوصول إليه. غالبا ما تتلاحق الصور لاهثة وهي تتبع تقنية التعريف. في قصيدة بعنوان “غربة” تقول “بطاقتي مصباح متدل ممن دمعة/قصائدي أطفال شاحبون/ذاكرتي نافذة لا تطل/غربتي غيمة في يدك” أربعة تعريفات هي أربع صور هي كل شيء ولا شيء آخر. أين تقع القصيدة؟ تعلمت عليوان من الرسم ألاّ تقف طويلا عند الموضوع، فهو ذريعة لشيء آخر، شيء يتجاوزه إلى سواه. “رغم حدة الألم سأستمر في تصديق ما لا أراه” وهو ما يعني اختراق سطح الصورة، هي مرآة وصولا إلى أعماقها. هناك حيث تقع القصيدة التي لا تكتفي بوصف أحوالها أو خلق مناخ شعري.
- الظاهرة التي لا تتكرر
لقد كُتب الكثير عن تجربة الشاعرة والرسامة سوزان عليوان. مقالات حاول كتّابها أن يزجوا بعليوان في التظاهرة الرسمية للشعر في العالم العربي. وهو أمر قد لا يزعج الشاعرة كثيرا غير أنه بالتأكيد لن يكون مصدرا لسعادتها. فما فعلته طوال أكثر من عشرين سنة لن يتسع له الدرس النقدي المكرس الذي يخطئ بالتأكيد الطريق إليها باعتبارها ظاهرة تعلن عن اختلافها خارج مقاييس الاختلاف المتعارف عليها ثقافيا.
كونها ظاهرة لا يقلل من قيمة ما كتبت. بل إنه يضفي عليه هالة هي ليست منه، غير أنها تقدمه باعتباره حدثا غير مسبوق. وهو كذلك في الواقع. شعريته التي تقوم على البوح، خفيض الصوت، القريب من التفاصيل لافتة بطريقة مدهشة. ما كتبته عليوان في مجال قصيدة النثر يؤهلها للوقوف في منطقة خاصة فهو لا يشبه تجارب الآخرين التي غلب على معظمها طابع الاستسهال والتبسيط والعجالة.
سوزان عليوان شاعرة بعمق. جملها صافية ومعانيها قوية وبناؤها متماسك. ليس هناك هذر ولا تعتمد على مبدأ الصدفة في خلق صورها. وهو ما يلاحظه المرء حين يقرأ كتبها الشعرية متسلسلة. تسلقت عليوان السلم درجة بعد أخرى حتى وصلت الى المرحلة التي هي فيها الآن. غير أن ذلك كله لا ينفي القيمة الاستثنائية التي تكتسبها تجربتها الشعرية من الظاهرة الفريدة التي مثلتها، كونها لا تزال ممسكة بدفاترها الشخصية.
فاطمة لوتاه المسافرة بين الألم والجمال
تقيم في بيئتين. في ثقافتين. في عالمين وليس بينهما. نجحت في أن تجمع غربتها وحنينها في سلة واحدة وهي السلة ذاتها التي جمعت فيها الصحراء والغابة في خيال عالمها.
لا تفكر بهويتها ما دامت تعمق في كل لحظة تفكير صلتها بالرسم. سيكون لديها دائما فائض من الأحلام يكفي لكي يهب التجريد الذي تمارسه بدعة وخفة قوة تؤكد من خلالها هويتها التي تستمد عناصرها من شخصيتها.
- في مرايا تحولاتها
المرأة التي انتصرت على الضياع بالرسم كانت متمردة على كل شيء. على الرسم أولا. منذ بدء مسيرتها الفنية توزعت اهتماماتها بين الرسم وفن الأداء. وهو ما جعلها تنعش حياتها بالحركة، ما أضفى على رسومها طابعا حركيا.
الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه تعرف أن وجهها الحقيقي لا يمكن أن يختصره ظهورها في لحظة بعينها. وجهها هو كل الوجوه التي ظهرت من خلالها. لذلك تفضل أن تلعب مع الأطفال في ورش عمل، تستعيد من خلال تلك الورش براءة وجه أخذته مرايا تحولاتها.
مشت على المسرح بقدمين واثقتين وشغفت بالشعر باحثة عن لحظة توازن ببين العقل والعاطفة. من المسرح والشعر وصلت إلى الرسم محملة بخيال الصور، بظلالها التي كانت تشكل خزينا وجدانيا في ذاكرة، ستكون مفتوحة على شوارع لا تنتهي في مدن لا تتشابه.
وحين استقر بها الحال في فيرونا الإيطالية لم تلتفت إلى بلادها باعتبارها البلاد التي هناك. فلا شيء مع الرسم يسمح بالنسيان. لم تلجأ إلى فكرة أن تكون وسيطا أو أن تنشئ عالما وسطا. أبقت الكل في مكانه حين أدركت أن كل ما تحتاجه أن تكون لها خطوتان. خطوة هنا وخطوة هناك.
أما أين الهنا وأين يقع الهناك؟ فهو سؤال لم تشعر بالحاجة إلى البحث عن إجابة عليه. سيكون الـ”هنا” معها أينما كانت.
مغامرة لوتاه في الحياة هي ذاتها مغامرتها في الرسم. رحيل مستمر في المكان الذي يُسمى مجازا، غير أنه لا يملك اسما حين يتعلق الأمر بحقيقته الروحية. أن تكون مسافرا دائما فإن شيئا من التحليق يعلق بروحك كما لو أنه جزء منها.
لوتاه المسافرة بين مكانين وثقافتين وعالمين تعرف أن كل ما تفعله يمكن اختصاره بتلويحة روح هائمة.
- فنانة الأداء الغاضبة
ولدت فاطمة عبد الله لوتاه في دبي عام 1955. منذ طفولتها كان الرسم خيار حياتها الوحيد. بعد سنة قضتها في بغداد في دراسة الفن قررت لوتاه الانتقال إلى الولايات المتحدة لدراسة الفن هناك بدءا من عام 1979 لتنهي دراستها عام 1983. بعدها ذهبت لوتاه إلى إيطاليا لتدرس وتقيم في مدينة فيرونا. لا تزال هناك حتى هذه اللحظة بالرغم من أنها لم تغب عن بلدها الإمارات.
ما تعلمته في بغداد يُعد أساسيا في تجربتها الفنية. هناك تعلمت قواعد الرسم وأحبت بغداد كما لم تحب مدينة أخرى. سنوات الدراسة الأميركية فتحت أمامها أبواب الحرية في اتباع الأساليب الفنية وصولا إلى ما يمكن أن تعتبره علامتها الشخصية. أما في إيطاليا فإنها تعرفت على الفنون المعاصرة وبالأخص فني الحدث والأداء الجسدي (بيرفورمنس).
مزجت لوتاه بين الرسم وفن الأداء، فكانت ترسم أمام الجمهور بعد أن تكون قد اختارت القضية التي يتمحور حولها ما سترسمه وهي تؤدي أمام الجمهور دورها الحقيقي. وغالبا ما كانت حكاياتها عن النساء.
بعد سنوات الثمانينات التي قضتها وهي ترسم بغضب توقفت لوتاه عام 1991 عن الرسم ولم تعد إليه إلا عام 2000. عرضت أعمالها في باريس مرات عديدة غير أنها تشير باعتزاز إلى تجربة العرض المشترك مع الشاعرة والرسامة ميسون صقر القاسمي في قاعة اليونسكو. أقامت لوتاه معارض شخصية في عدد من المدن الإيطالية، غير أنها حين أقامت مرسمها الشخصي جعلت منه قاعة لعروضها.
حين صارت تعود إلى بلدها الامارات في زيارات منتظمة أقامت عددا من المعارض كان أهمها “غزل” و “نساء بعطر العود” غير أن اهتمامها بالجانب التفاعلي في الفن دفعها إلى إقامة صالة للعروض الفنية في دبي، صارت تستضيف تجارب فنية قادمة من مختلف انحاء العالم.
- ابنة الحياة بمفاجآتها
فاطمة لوتاه فنانة تجريبية. لا تصل إلى شيء حتى تتركه من أجل البحث عن شيء آخر. فهي وإن كانت تنظر بتواضع شديد إلى صفتها فنانة فإنها تركز على حقيقة أن الفنان يقود جمهوره في عملية تفاعل جمالي لن تنتهي. ذلك لأن الطرفين، الفنان وجمهوره يستمران في خوض مغامرة مجهولة النتائج. “نعرف الباب ولا نعرف إلى أين يؤدي” تقول الفنانة وهي تصف ببلاغة علاقة الفنان بالفن.
كما في حياتها فإنها في رسومها تقيم علاقات بين متناقضات. وهي لذلك تميل إلى الأسلوب التجريدي. من خلاله يمكنها أن تكون في عالمين باعتبارها مواطنة كونية. ولأنها تقيس الأمور كلها من منطلق روحي فقد كانت كل لحظة رسم تساوي لحظة عيش والعكس صحيح أيضا. تتحول في كل لحظة عيش ويتحول أسلوبها في كل لحظة رسم. لذلك فإنها حين عادت إلى مدينتها وقد صارت أخرى استعادت الروح الخارقة التي تجسدها الصحراء، هناك حيث تقيم ذاكرتها البصرية التي لم تمح تفاصيلها الأسفار. ما من شيء رسمته في حياتها إلا وكان للصحراء نصيب فيه. تلك ذاكرة لا تليق إلا برسامة من نوع لوتاه، تتغير كلما استجد شيء من حولها. إنها ابنة الحياة التي تعدنا بما لا نتوقعه من مفاجآت.
- كل عطر يعيدها إلى البيت
في معرضها “غزل” الذي أقامته في دبي عام 2009 وكانت قد أقامته في وقت سابق في فيرونا اكتشفت فاطمة لوتاه الفرق بين أن يكون الفنان حروفيا في العالم العربي وبين أن يعرض لوحات حروفية في الغرب. كان ذلك الاكتشاف بداية لتعرفها على متلقي أعمالها العربي. وهي تجربة سنصفها بالصعبة غير أنها كانت ضرورية بالنسبة إليها. ذلك لأنها في محصلة ما فعلته كانت تستلهم عالما يقيم فيه ذلك المتلقي.
النساء اللواتي رسمتهن كن نساء ذلك العالم.
ما من عطر مر بها إلا وذكّرها بالعطر الذي كان أبوها يتركه في بيتهم بعد خروجه. إنها كائن يخترقه الحنين بطريقة مختلفة. طريقة لا يظهر عليها أي أثر من ميوعة رومانسية. تعلمت لوتاه الحنين الواقعي وهذبته. وها هي ترسم نساءها كما لو أنها تثني على تولوز لوتريك.
هناك ما هو ثابت في تجربتها. ذلك عالم تكشف عنه لوحاتها. وهناك ما هو متحرك وهو ما نستدل عليه من خلال أعمالها بتقنية الديجيتال.
لوتاه ليست من النوع الذي يغريه البقاء في مكان واحد، حقق من خلاله شهرة من نوع ما. ما يهمها أن تكون موجودة في قلب حدث، يمسها إنسانيا. وهو ما وجدته في متابعة أحوال الشعوب في منطقتنا.
حققت من خلال رسومها بتقنية الديجيتال والتي كانت تنشرها على وسائط التواصل الاجتماعي ما كانت تحلم به. الفنان باعتباره كائنا تفاعليا، فهي تتفاعل مع الحدث وتصنع حدثا يتفاعل معه جمهورها. وهو جمهور لم يتح لها من قبل التعرف عليه ومن المؤكد أنها لن تراه.
اخترعت فاطمة لوتاه لغة رفيعة للتواصل من أجل أن يكون الجمال هو الهدف.