الإرجاء القاتل: الجامعة الجزائرية وسؤال اللغة العربية

الجمعة 2016/01/01
لوحة: بطرس المعري

اللغة العربية غدت، بين حديث وزاري انفلت من عقاله اللاواعي وردود أفعال لم تكن على دراية ودربة كافية بما تنتجه من رؤى وبما تتقول به من ملفوظات، وتستند إلى جهاز لساني اجتماعي ناجز ومستعد للاشتغال في أيّ لحظة يُستدعى لها، حيث تعوّد على ذات المفردات التي استعملها سابقاً، وكأنّ الأمر في حاجة إلى الضغط على الزرّ وكفى به حضورا، وأضحت قضية القضايا، وتذكرنا فجأة أننا نملك لغة نتحدث بها، ونعبّر بها عن هويتنا، وتحمل في ذات الوقت جزءا كبيرا وخطيرا من تاريخنا، ودخلنا مرة أخرى في معارك جديدة/تليدة، بنفس الرؤية والمنهج والأسلوب، ومن الموقع نفسه تحت وقع الشعور نفسه بالكراهية والعدائية المفرطة للآخر.

إنّ المعادل الرمزي لهذا الحديث هو أنّنا لم نبرح مكاننا فنحن أشبه ما نكون بذلك الجندي الذي يتحرك دون أن يتقدم خطوة، وعليه، فإنّ الذهاب جهة الحديث عن علاقة الجامعة الجزائرية باللغة العربية أو بتعبير أكثر توسعاً موقع ومكانة اللغة العربية في الجامعة الجزائرية، هو من جهة ما، وقد تكون سياسية، ومن زاوية محدّدة وقد تكون علمية بحتة، وهذا نوع مخصوص من المجازفة، لأنّ المسألة ترتدّ إلى حزمة كبيرة من المفاعيل المنغمسة في التاريخ الجزائري، إذ نستطيع أن نعرّج ناحية المسار التأريخي، واعتماداً على آلية السرد التاريخي في صورته البسيطة نقول: إنّ الجامعة الجزائرية هي جزء أساسي من المشروع الإمبريالي الكبير الذي سعت فرنسا إلى إنجازه في مستعمراتها بإرادة متعالية تنظر إلى الآخر المنحط أنطولوجيا بحسبانه كائنا ما قبل مديني، وبالتالي فالجامعة الجزائرية هي امتداد طبيعي لما هو قائم في الواقع.

لم يكن للغة العربية أيّ ذكر في الزمن الاستعماري على مستوى الجامعة والبحث العلمي، وانسحبت اللغة العربية إلى المناطق المطموسة من الفضاء العام الرسمي، يعني جهة الكتاتيب والمدارس الأهلية، أي إلى مواقع دُنيا من المعرفة العالمة، ومنه بقيت اللغة العربية حبيسة الاستعمال اليومي ممزوجة بلهجة شعبية متقاطعة مع بعض المفردات الفرنسية التي أضحت تحوز على حضور قوي في نسيج الخطاب الشعبي، مما ضاعف من مأساتها، بحيث كرّس منطق عام يحتقر هذه اللغة وينزّلها منازل وضيعة.

ليس ببعيد عن هذا التمشي، يمكن أن نتحدث عن منجزات ثقافية متميّزة وذات فرادة لازمت هذه الفترة من كتابات روائية، شعرية، قصصية، دينية، وفكرية، ارتبطت بهذه اللغة، غير أنّ التواجد على مستوى الجامعة كان منعدما، فكلّ المواد تدرّس باللسان الفرنسي، بما فيها المواد الإنسانية والاجتماعية وحتى ما يتعلق بالأدب والفلسفة والتاريخ وغيرها.. وعلى وقع هذه المفارقة القائمة انتكست أعلام اللغة العربية وانطفأ وهجها، وسيقت إلى مواقع غير علمية على الإطلاق.

لكن بعد بزوغ عصر الاستقلال وانحسار الاستعمار الغربي، مع بقاء الثقافة الكولونيالية في أفق التفكير الغربي، كما حدثنا المفكر العربي إدوارد سعيد، دخلت الجامعة الجزائرية مرحلة جديدة من الحركية السياسية، والاجتماعية ولم تشهد، إلاّ في فترات متباعدة، شحنات قليلة وبائسة من الحركية العلمية، اتسمت بظهور نزعة قوية في إدخال التعريب بصورة قوية وبحرص شوفيني وغليظ على هذه اللغة، مما أدى إلى تبني سياسة مشوهة وعرجاء تتحرك دون رؤية حصيفة، وفي غياب أيّ مشروع حقيقي للجامعة، تمظهرت أولاً في إقصاء اللسان الأمازيغي من التواجد داخلها، ومن تقليص مكانة اللسان الفرنسي، والتعاطي معه باعتباره موروثا استعماريا، وعدم الانفتاح على الألسنة الأخرى مثل اللسان الألماني، الإنكليزي، الأسباني، ليس من باب اكتساب هذه الألسنة والتعود عليها، وإنّما من أجل جعلها لغة البحث العلمي والفلسفي والأدبي والفني، لكي نبدأ على الأقل في هذه المرحلة التاريخية في ولوج عالم الحداثة الحقيقي.

تأكد لدينا أنّ الأزمة القائمة بين اللغة العربية والجامعة هي أزمة مركبة إلى درجة يصعب معها فهم وتحليل ما يجري داخل هذه المؤسسة التي توكل إليها مهمة صناعة الوعي وبلورة شخصية وطنية حداثية قادرة على ممارسة فكرة المواطنة دون عقدة نقص أو تفوق، فنحن داخل الجامعة ظلمنا اللغة العربية عندما نزلناها في مرتبة الخادم الأيديولوجي لمنظور شعبوي تافه لا يستطيع أن يرى أبعد من أرنبة أنفه، ودفعنا بها إلى الدخول في علاقة عدائية مع أخ لساني هو اللسان الأمازيغي، ولم ندخلها مخابر البحث العلمي لكي تنخرط في مسار علمي وفي معترك معرفي تعبّر فيه عن أحقيّتها في الكينونة العلمية، ولم ندفع بها جهة الخطاب اليومي في مختلف تمظهراته، فما هو منتشر بين ذواتنا الهشة خليط من لهجات ممجوجة، تمكنت من التسرب إلى فضاء الفن والإعلام والسياسة وأغلب المجالات التي بدأت تخضع لمنطق الواقع المبتذل.

لم يعد من المجدي أن نتباكى على لغتنا الجميلة كما توصف، ولم يعد من المفيد أن نتغزل بها كما تعودنا شعريا على تمجيد ما هو قابل للضياع أو في سبيله إلى التبدد، وإنّما من الأجدى أن نجتهد في تعبيد درب جديد وغير مطروق يتمثل في تنشيط الخطاب اللساني العربي داخل الجامعة من خلال تفعيل المعجمية العلمية الكامنة فيه، وفي الدفع به صوب المخابر العلمية لكي نحدث تناغما بينه ما هو علمي وما هو لساني عربي، والانفتاح على المنجزات اللسانية الغربية خاصة، دون أن نهمل الألسنة الصاعدة في الضفاف الأخرى.

إنّ هذا الأمر يحتاج على إرادة قوية وإلى مشروع كبير يسع الجميع ويذهب إلى أقصى مدى، ويجمع في جوفه طموحات شباب جزائري مزوّد بإرث معرفي وقيمي.

إنّ أغلب حديثنا يدور وجوداً وعدماً حول خلق فضاء تواصلي بين القوى الحيّة في الجامعة، لأنّ هذا التواصل هو الذي يصنع دروبا للتعارف بين الشخصيات المفهومية القادرة على تقديم استشارات قوية وعامة لمستقبل الجامعة في المنظور الزمني القريب وفي المنظور التاريخي البعيد، والانفتاح على الشخصيات العلمية المُعولمة والتي هي الآن تنتج المعرفة وتتحكم في منطقها الإبداعي.

ربّما بهذه الصورة المتواضعة نستطيع أن نتحدث عن مستقبل للغة العربية في ظلّ تسونامي لساني تقوده الشركات الكبرى العابرة للهويات، أي أنّ الأمر يتعلق بإعادة ترتيب البيت الداخلي للجامعة الجزائرية وإبعادها عن الذهنية الشعبوية المُؤدلجة بصورة مشوّهة، وتقديم صورة صحية عن اللغة العربية والتقليل من الكليشيهيات الكرنفالية المنتشرة في خطابنا اليومي.

لم يعد لنا الوقت الكافي للدفاع عن اللغة العربية فما تبقّى من الوقت يكفي فقط لتنظيم أنفسنا الجديدة والتفكير جماعياً في كيفية إخراج هده اللغة من وضعها الكولونيالي ومن منزلتها ما بعد الاستعمارية ومن تثوير الفضاء الجامعي الذي تعفن بسبب الشلل المتطاحنة ذات المصالح غير الشرعية، وكلّ المظاهر التي غدت بفعل تكرارها عادية في منظور المجتمع. إنّ اللغة هي علامة فارقة على عبقرية الأمة وفق التوصيف الطريف للفيلسوف الألماني “همبولدت” وهي الروح التي تحوي في داخلها معنى الكينونة الحقيقي، وقد تأكدنا أن اللغة العربية قد حققت مكاسب ميتافيزيقية ولم يبق لها إلا إدراك المكاسب الفيزيقية.

ليس من صالح الجامعة الجزائرية أن تخلف موعدها التاريخي مع اللغة العربية، وليس من صالح اللغة العربية أن تبتعد كثيرا عن الجامعة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.