الإسلاميون الجزائريون يعودون
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر والمرتقبة في ربيع 2019، وغموض المشهد السياسي تماما، وتردي الخطابات السياسية لزعماء الأحزاب على اختلاف ألوانها، دخل الإسلاميون في الجزائر مرحلة “تسخين” العضلات، بإطلاق بالونات اختبار في الكثير من المدن، انتظارا لرد فعل السلطة، وقد تحرّك الإسلاميون هذه المرة من باب “الثقافة”، والعلاقة العدائية ما بين ثقافة التنوير والإسلاميين لها تاريخ طويل في الجزائر كما في العالم العربي والمغاربي والإسلامي.
منذ أزيد من سنة انطلقت الحملة الإسلامية ضد الكتاب والفنانين في مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد العشرية السوداء (1990-2000)، حيث قام أحد السلفيين والمدعو عبدالفتاح حمداش بتكفير الروائي والإعلامي كمال داود على خلفية نشره رواية “ميرسو تحقيق مضاد” والتي عرفت نجاحا أدبيا لافتا في أوروبا وأميركا، وطالب هذا السلفي برأس الروائي، وهو ما جعل الطبقة المثقفة تتجنّد إلى جانب الكاتب، وقد حكمت محكمة وهران لصالح الروائي كمال داود وأدانت الشيخ السلفي، وبصدور هذا الحكم المخيب لآمالهم عاد الإسلاميون إلى جحورهم وبدأوا في مراقبة الساحة واختيار فرصة أخرى لاستعراض عضلاتهم ولتذكير الشارع بوجودهم، فكان يوم “تمثال نافورة مدينة سطيف” يوما آخر من أيام الإسلاميين وفيه هاجم أحد المتطرفين تمثالا لامرأة منصوب وسد الساحة التاريخية لهذه المدينة، وهو يمثل رمزها وفخر مواطنيها ومقصد كل زائر لهذه المدينة، وتمكن من تحطيم بعض أجزاء التمثال بحجة محاربة العري.
ولكن الموقف الرسمي من قبل السلطة والذي جاء على لسان وزير الثقافة كان واضحا وحاسما، حيث تم ترميم التمثال وأعيد إلى مكانه، ومع ذلك لم ينم الإسلاميون، وهم الذين لا ينام لهم جفن إلا في السجون أو المنافي، ومع آخر صيف قبل الانتخابات الرئاسية 2019 بدأوا يتربصون بالمشهد السياسي محاولين مرة ثانية تسجيل حضورهم خاصة وأن الاصطفاف السياسي بدأ يتضح بين مؤيد لعهدة خامسة للرئيس بوتفليقة وبين معارض، ولأن الإسلاميين لا يركبون القطار إلا وهو في منتصف الطريق، كما حدث في مصر مع الإخوان المسلمين والثورة، ومرة أخرى عادوا للتكشير عن أنيابهم ضد الفن والفنانين وقد اغتنموا فرصة الصيف وما تنظم فيه عادة من حفلات فنية لينظموا تجمعات مطالبين بتوقيف هذه الأنشطة، واستراتيجيتهم هي نقل “الخوف” إلى معسكر القوى التنويرية، وبث الرعب في المجتمع.
وبالفعل فقد حشدوا الكثير من نشطائهم والمتعاطفين معهم والغاضبين على النظام الذي تعرض أخيرا لضربة قوية في ما يسمّى بقضية البوشي وهي “قضية تهريب سبعة أطنان من الكوكايين” والتي تم حجزها في ميناء وهران، والتي يقف وراءها أحد أباطرة الاستيراد والعقار في الجزائر، والذي يبدو أنه كان قريبا من بعض أطياف الإسلاميين والنظام، ويقال إنه ساهم في بناء الكثير من المساجد في الجزائر.
وفي خطة لترقيع بكارة عذريتهم السياسية فقد بدأ الإسلاميون في التخطيط لإسماع صوتهم مستفيدين من وضع النظام الذي أربكته “قضية البوشي” وذلك من خلال منع الحفلات الفنية في بعض المدن الجزائرية كورقلة وسيدي بلعباس وغيرهما وإذا كان “الشعار” الذي حملته حملة منع الحفلات الفنية متسترا وراء المطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية، فإن أداءهم للصلاة جماعيا في الشارع وفي قاعات الحفلات هي رسالة سياسية، تذكرنا بممارسة الفيس (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وبأساليبها في التجمهر في الفضاءات العمومية وبمعاداتها لكل ما هو إبداع من أدب ومسرح وسينما وموسيقى.
ورفع الإسلاميون شعار محاربة التبذير وتحويل الأموال المعتمدة للثقافة إلى مشاريع تنموية وهي شعارات فارغة وذر رماد في العيون، فميزانية الثقافة في الجزائر تقدر بـ73 من الميزانية العامة للدولة، أي لم تصل حتى إلى الواحد بالمئة.
ويهاجم الإسلاميون ثقافة التنوير لأنها تدعو إلى قيم التسامح والعقل والفرح وحب الحياة، وهم يقفون على النقيض من ذلك، فعقيدتهم تقوم على أيديولوجيا القتل والعنف والكراهية. وهم يهاجمون ثقافة العقل لأنهم يدركون أنها هي التي تعيد التوازن إلى الإنسان وهي التي تكشف “دجلهم”، وتعري حقيقتهم الدموية التي خبرها الشعب الجزائري في عشرية (1900-2000) ولم يجن منها سوى الخراب والدم والدموع، وهو لا يريد أن يعود إلى هذه التجربة المرّة، واستهداف الثقافة والمثقفين من كتاب ومسرحيين وموسيقيين وإعلاميين ليس جديدا على تجربة الإسلاميين في الجزائر، فقد خلّفت العشرية السوداء المئات من الشهداء من خيرة الفنانين والكتاب التنويريين: كالمسرحيين عبدالقادر علولة وعزالدين مجوبي والكاتب الطاهر جاووت والفنان التشكيلي أحمد عسلة والمغني الشاب حسني والشاب عزيز والموسيقي رشيد بابا أحمد والناقد بختي بن عودة والاقتصادي عبدالرحمن فار الذهب والقائمة طويلة، وهاهم يعودون من بوابة الثقافة والفنون والأدب لأنهم يدركون أيضا أن المس بصناع التنوير والعقل والفرح والأمل يجعل صوتهم يصل عبر الإعلام الداخلي والخارجي، وبالتالي يعلنون عن وجودهم ويرسلون في الوقت نفسه رسالة سياسية إلى النظام بحثا عن تموقع قادم