الاسترقاق آخر التابوهات الفرنسية الكبرى
طوال قرنين ونصف، قامت فرنسا بتحويل نحو مليون ونصف مليون من الأفارقة إلى مستعمراتها، ولكنّ هذا الماضي لدولة عظمى مارست تجارة الرقيق ظل مسكوتا عنه على مرّ الأجيال، فقد غفل عنه المؤرخون أو زوّروه بما يتناسب والسردية القومية، سردية شعب قام بثورة نشرت قيمها الإنسانية عبر العالم منذ نهاية القرن الثامن عشر، وجاءت بعظام رفعوا راية فرنسا عبر العالم، دون اعتبار للجرائم التي اقترفوها في حق الشعوب، بدءا برجل الدمار الأكبر وهولاكو القرن التاسع عشر نابليون بونابرت. فلا حديث عن طرق اجتثاث المستضعفين السود من ديارهم، ونقلهم عنوة للعمل بمزارع القصب السكري في أقاليم ما وراء البحار الواقعة تحت الحكم الفرنسي، وبيعهم في سوق النخاسة، أو مقايضتهم بالمواد التي ستحقق لمرافئ الاسترقاق وأهلها بحبوحة عيش، ولفرنسا كلها وفرة اقتصادية هامة. ولا ذكر للثورات التي نشبت في تلك الأقاليم، وخاصة ثورة العبيد بجزيرة سان دومانغ (هايتي حاليا)، تلك التي قادها توسّان لوفرتور، الملقب بسبارتاكوس الأسود، وانتصرت على جيوش نابليون الأول، وأعلنت استقلالها لتكون أول جمهورية سوداء في التاريخ.
وقد عاد الحديث عن ماضي فرنسا الاستعبادي منذ مطلع التسعينات، حين نظّم جان مارك إيرولت شيخ مدينة نانت، أكبر مرفأ لسفن تجارة الرقيق في الحقب الماضية، معرضا بعنوان “حلقات الذاكرة” اكتشف فيه الفرنسيون جانبا من تاريخهم المنسي. ثم احتدم الجدل يوم عرضت كريستيان توبيرا، وهي مناضلة سليلة عبيد مزارع غويانا الفرنسية، مشروع قانون يعتبر العبودية جريمة ضدّ الإنسانية، تمّت المصادقة عليه عام 2001 بعد إفراغه من عدة بنود، من بينها رفض التعويض لأخلاف العبيد، مع التعهّد بفتح باب تدريس الاستعباد الفرنسي للسود في البرامج التعليمية. وعاد الجدل من جديد بعد عمليات تحطيم الأصنام التي تلت مقتل الأميركي جورج فلويد، والتي طالت بعض المؤسسات الفرنسية، فقد سارع الفرنسيون كعادتهم إلى إنكار الصلة بين واقع السود في الولايات المتحدة وواقع إخوانهم في فرنسا، ورأوا في مطالب مواطنيهم من أصول أفريقية خلطا لا مبرر له. ولكن تعالت أصوات عدد من المؤرخين هذه المرة ليؤكّدوا أن الصلة موجودة، وأن فرنسا لا يمكن أن تستمرّ في إنكار جانب من تاريخها المظلم، وهو تجارة الرقيق، فضلا عن العنصرية، ثم قانون التبعية الأهلية “indigénat” الذي سنّته فرنسا في الجزائر عام 1881، قبل أن تعمّمه في مختلف مستعمراتها بداية من عام 1887.
قبل ذلك، كانت تجارة الرقيق قد بدأت تشهد حركة نشيطة لاسيما بعد أن باركها البابا كاليستوس الثالث عام 1455 واعتبرها شرعية، إذ انتقلت من المتوسط إلى المحيط الأطلسي عندما قام البرتغاليون بتطوير الزراعة السكرية في ماديرا وسان تومي. وما لبث الفرنسيون أن التحقوا بالركب، ولكن البداية الفعلية كانت عام 1626 عند تأسيس الكاردينال ريشليو (1585 – 1642) شركة كريستوف لنقل العبيد الأفارقة إلى المستعمرات الفرنسية في ما وراء البحار، ثم تلتها شركة الهند الغربية التي أسسها جان باتيست كولبير (1619 – 1683) عام 1664، وكانت أول شركة تجارية تحظى بحق ممارسة تجارة الرقيق وتوفير العبيد للمستوطنين.
في تلك الأثناء، كانت “الفضيلة” و”المُجدي” و”الودود” و”العدالة” و”المساواة” و”الأخوّة” و”ربّ العائلة” و”الإخوة الطيبون” و”المواطن الصالح”…، وكلها أسماء سفن وبواخر فرنسية، تروح وتجيء بين فرنسا ومستعمراتها طيلة قرنين ونصف. كانت تغادر مرافئ لاروشيل وبوردو وسان مالو ولوريان ولوهافر ونانت محمّلة بالأنسجة والأسلحة والكحول والرصاص والحديد، فتتوقف في مستودعات البضائع على السواحل الأفريقية ما بين السنغال وخط الاستواء لتتزود بالعبيد، وتحشر ما بين ثلاثمئة وخمسين وأربعمئة وخمسين في قعر كل سفينة، ثم تعبر المحيط لتفرغ حمولتها البشرية (منقوصة من عشرها إلى خمُسها بسبب الأمراض والجوع وسوء المعاملة) في أقاليم البحر الكراييبي التابعة لفرنسا، وتعود بعد سنة أو تزيد بالقهوة والكاكاو والسكر، “بترول” ذلك العصر. أي أن فرنسا، عبر ثلاثة آلاف حملة، جلبت نحو مليون ونصف المليون من العبيد إلى أراضيها تلك، في الأنتيل الصغرى والكبرى، ومارتينيك، وغوادلوب، وسان دومينغ وفي غويانا ولويزيانا، ثمّ في جزر المحيط الهندي كموريس ولاريونيون.
والفرنسيون بعامة لا يعرفون هذا التاريخ، وقلة منهم فقط تفهّم لماذا اقتلع المتظاهرون اسم كولبير من بعض المؤسسات التربوية وعوّضوه بأسماء مناضلين سود كالأميركية روزا بارك، ولا سبب تلطيخهم بالدهن الأحمر تمثاله المنتصب أمام مبنى البرلمان.
فكولبير هو رمز كل الجرائم التي ارتكبها المستوطنون الفرنسيون ضد السود، فهو صاحب القانون الأسود (وكان قد بدأ وضع صيغته الأولى عام 1682 ثم أتمّه ابنه من بعده ليصدر في عهد لويس الرابع عشر عام 1685، ثم ازداد صرامة في صيغته الثانية عام 1723 في عهد لويس الخامس عشر). ذلك القانون الذي جُعل لتنظيم إدارة المستوطنات، والحدّ من سلطة المستوطنين، وقيل إن الغاية منه تحديد واجبات العبيد وحقوقهم، لم يكن في الواقع سوى جملة من المحظورات والعقوبات المسلطة على كل من يرفض الخضوع والخنوع لأسياده البيض.
فقد جاء في كتاب لويزة صالا مولانس “القانون الأسود أو جُلجلة كنعان” أن هذا القانون يعتبر أن العبيد مجرد “قطع أثاث” يمكن بيعها وشراؤها ووراثتها (البند 44)، وأن كل الأطفال الذين ينجبهم العبيد ملك لأسياد الإماء (البند 12) بما أن الآباء البيولوجيين لا يملكون أيّ وجود شرعي، وللمالكين الحق في بيع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و14 سنة (دون أن يُحترم هذا الشرط في الواقع)، والعبيد لا حق لهم في امتلاك أيّ شيء (البند 28) حتى الاسم، يُجلدون أو يُقتلون إذا ما خطر ببالهم التجمّع في أيّ مكان (البند 16) ويُعدمون إذا ضربوا أسيادهم ولو لِاتّقاء سياطهم (البند 33)، أو تبتر آذانهم وعراقيبهم أو يوشمون بالنار أو يقتلون إذا حاولوا الفرار (البند 38).
الحقوق الهزيلة نفسها كانت في الواقع حبرا على ورق، فالسيد مُجبَر على إطعام عبيده (البند 22) وكسائهم (البند 25) ومواصلة ذلك إذا منعتهم إعاقة أو هرم (البند 27)، ويُمنع عليه كل شكل من أشكال استغلال الإماء جنسيا (البند 9)، مثلما يمنع عليه تعذيب عبيده أو تشويههم جسديا (البند 42) ومن حق العبد أن يقدم شكوى إلى النائب العام بالجزيرة إذا ما أساء سيّدُه معاملته. ولكن لا شيء من ذلك يمكن تطبيقه على أرض الواقع، لسبب بسيط وهو أن ثمة بندين (30 و31) يلغيان كلّ إمكانية للجوء إلى القضاء، ما يعني أن العبيد لا حقّ لهم حتى في التظلّم.
ومن الطبيعي أن تؤكد شهادات تلك المرحلة على أن السود لم يكونوا مجهدين من الأعمال الشاقة فحسب، بل كانوا أيضا جوعى، وعرضة للحرق والخصاء والشنق، كما كانت نساؤهم عرضة لاغتصاب منتظم. ومن يبلغ منهم سن الشيخوخة والعجز عن العمل، يقابله الأسياد بأحكام البند 33 حيث يتهمونه بالسرقة أو بأعمال عنف ضدّهم، فتقضي المحاكم الكولونيالية بإعدامه بلا أدلة أو شهود، ويتخلص البيض من جسدٍ مريض، أو فمٍ جائع، ويقبضون علاوة على ذلك تعويضا ماليا عن كلّ عبد يُقتل.
والمفارقة أن تتبنى الجمهورية الثالثة كولبير هذا وتجعله أيقونتها، والسبب أن فرنسا، بعد هزيمتها أمام القوات البروسية عام 1870، والعودة إلى نظام جمهوري خلفا لإمبراطورية المهزوم نابليون الثالث، كانت تبحث عن استعادة مجدها، في ظرف احتدّ فيه التنافس بين القوى الأخرى مثل بريطانيا وألمانيا والبرتغال وبلجيكا على ما تمثله القارة الأفريقية من مخزونٍ ثريّ يلبّي حاجة أوروبا إلى الموارد الأولية وأسواقٍ لترويج منتوجاتها بعد ازدهار الحركة الصناعية فيها.
وكانت الدوافع المعلنة تتراوح بين نشر اللغة الفرنسية لدى الشعوب الضعيفة كما نظّر لها أبو الفرنكوفونية أونيزيم ريكلو، وبين واجب الأعراق “الساميَة” بنشر الحضارة لدى الأعراق “الدونيّة” كما زعم جول فيري، وبين رغبة استعمار تلك الأمصار لإلغاء العبودية فيها، وهذا ما تفتقت عنه قريحة كاتب كبير هو فيكتور هوغو، إذ انبرى يخطب مبشّرا “في القرن التاسع عشر، جعل الرجل الأبيض من الرجل الأسود إنسانا، وفي القرن العشرين سوف يجعل من أفريقيا عالَما”.
وأردف قائلا “استولوا على هذه الأرض. خذوها. ممّن؟ من لا أحد. خذوا هذه الأرض من الرّبّ. الرّب يهب الأرض للرجال. الرّبّ يهب أفريقيا لأوروبا. خذوها”. ألقى تلك الكلمة على شرف فيكتور شيلشر، صاحب مشروع القانون الذي أدى إلى إلغاء العبودية عام 1848، وكان هو أيضا مقتنعا، بعد إلغاء العبودية في أقاليم ما وراء البحار وجعلها تابعة لفرنسا، وفرض اللغة الفرنسية فيها بديلا للكريولية، بأن استعمار الشعوب الأفريقية هو الطريق الأمثل لإلغاء العبودية. أي أن هوغو وشيلشر كانا يناهضان العبودية، ويناصران الاستعمار.
لذلك بقيت العبودية أحد التابوهات الفرنسية الكبرى، لأنها من جهة لا تناسب الصورة التي تحرص فرنسا على تقديمها، وهي التي لم تسمح بالعبودية على أرضها، ولأنها سوف تفتح أبوابا تخشى الدولة أن تأتيها منها رياح عاتية. وهو ما يفسره المؤرخ باسكال بلانشار بقوله “في جحور التاريخ المنسية تكمن الضغائن دوما. ولطالما أرادت الدولة السكوت عنها، فلا ينبغي لصفحة العبودية والاستعمار أن تفتح. إنها آخر تابوهات تاريخ فرنسا.”
لقد ظلت تلك الحقبة منسية، لم يذكرها جول ميشلي (1798 – 1874) مثلا في “تاريخ فرنسا” ولم يولِها المؤرخون من بعده ما تستحق من دراسة. حتى الكتب الحديثة، مثل “تعليم الاستعمار ونهايته” المعدّ لمدرسي التاريخ بالمرحلة الثانوية، لم تخصص للقانون الأسود أكثر من عمود صغير، ذلك أن الاسترقاق كان ينام في الأدراج حتى التسعينات، لا يعرف تفاصيله حتى المدرسون. حيث ظهر نفر من الباحثين، مثل كاترين كوكري فيدروفيتش وميريام كوتياس وهما مؤرختان متخصصتان في الاسترقاق، يدعون إلى الخروج من الرؤية الأخلاقية للتاريخ، والنظر إليه كما هو، والقبول بأن كولبير كان وراء صياغة القانون الأسود، وأن نابليون أعاد العبودية عام 1802 بعد أن ألغتها لجنة السلامة العامة عام 1794، وأصدر قرارا بمنع أيّ ملوَّن من دخول التراب الفرنسي، وأن عبيد سان دومينغ حاربوا لأجل استقلال جزيرتهم، وهزموا قوات نابليون وأعلنوا جمهوريتهم عام 1804، وأن قائدها توسان لوفرتور وقع أسيرا فنفاه نابليون إلى محافظة قرب الحدود السويسرية حتى وفاته عام 1803، وأن البرلمان الفرنسي صادق عند إلغاء العبودية عام 1848 على صرف مبالغ مالية محددة لأسياد العبيد تعويضا على “خسائرهم”، بموافقة الجميع بمن فيهم الفيلسوف توكفيل والشاعر لامارتين، ولم تصرف شيئا للعبيد الذين عملوا قرونا بلا مقابل، وعانوا كل أشكال العذاب، جسديا ومعنويا.
ولكن لا أحد يريد أن يتناول هذا الجانب من تاريخ فرنسا، فماكرون رفض تأسيس متحف للعبودية، مثلما رفضت المتاحف الكبرى إقامة معرض عن الاسترقاق في فرنسا، رغم أن الجميع يقرّون بأن هذا التاريخ ترك آثارا أليمة وذكريات عنف وساهم في بناء خطاب عنصري، وتمثلات معنصَرة كرسوم الكاريكاتير على علب الشكولاتة “بانانيا” التي تسخر من المقاتلين السنغاليين رغم أنهم حاربوا في صفوف فرنسا، أو الأشرطة المصورة للبلجيكي هيرجي “تانتان في الكونغو”، أو جدارية هيرفي دي روزا التي لا تزال قائمة في أروقة البرلمان الفرنسي.
من خلال المظاهرات التي خرجت في عدة مدن فرنسية تتجلى مطالبة المواطنين بكتابة تاريخ مغاير، يشمل جميع الفرنسيين أيّا ما تكن أصولهم وألوان بشرتهم، لإنصاف الوجوه المنسية التي ناضلت ضد منظومة الاسترقاق والاستعمار، والاعتراف بدورها، وتكريمها، كأن يتصدر مثلا اسم جان باتيست بيلي، أول نائب أسود، إحدى قاعات البرلمان الفرنسي، كما اقترح جان مارك إيرولت.
تقول المؤرخة ميريام كوتياس “أخشى أن يتصلّب المجتمع في النهاية، بسبب هذا العمى المفرط، ويتشبث باستقطاب عرقي، يضع البيض والسود وجها لوجه، لاسيما أن ثمة حركات هووية تستغل الجدل القائم، كما في مدينة بو، جنوبي فرنسا، حيث تمّ تشويه تمثال عبدٍ ووضعٍ يافطة قريبا منه كتب عليها “White Lives Matter”.