البعث من رماد الاحتراق
“ما لنا والقصص؟ لنتركها للكُتَّاب المشغولين بالحكايات ذات المغزى، ولننغمس نحن في ألعاب تعيننا على تمضية الوقت أو تجاهل قبضته الغليظة على أعناقنا”.
بهذا المفتتح تبدأ الرّواية التي أكتبها حاليًا؛ بتمجيد اللعب وقطيعة مشتهاة مع القصص والحكايات ذات المغزى. هل يضمر المفتتح أيضًا قطيعة مع الواقع السّياسي والاجتماعي؟
ما أعرفه أن ما بدأ لاهيًا هادفًا للانغماس في ألعاب فنية وجمالية بحتة، صار مسكونًا بالجحيم الأرضي، الذي يحاصرنا، كلّما توغلت في الكتابة، ليس بطريقة مباشرة أو حتى واضحة. فالرّواية لا تقترب من الأهوال الجارية حولنا، لكن المذبحة مضمرة بين سطورها، والقسوة والغرق وهشاشة الوجود مفردات مفتاحية فيها.
أسئلة وانشغالات روايتي السابقة “جبل الزمرد” كانت – هي الأخرى – وليدة أهوال المنطقة من دون أن تتناولها بشكل مباشر. كانت كتابتها تميمتي ضد النسيان والتحريف، ومحاولتي المرتبكة للإيمان بإمكانية البعث من رماد الاحتراق.
أجازف بالقول إنه من المستحيل إدارة الظهر للواقع، مهما خُيِّل لنا أن ما نكتبه مغرق في الخيال والفانتازيا. فالكتابة الحقيقية لا يمكنها الانفصال عن الواقع والهرب منه، فحتى في أقصى درجات قطيعتها معه، نجدها تفكّكه وتعيد تركيبه مجددًا بغية القبض على جوهره، نجدها تقدم مجازًا للعالم لا صورة فوتوغرافية جلّ طموحها أن تكون نسخة باهتة منه، مجازًا للمذبحة لا مجرد رصد لها.
منذ 2011 وأنا غارقة بين مئات الصور والمشاهد القاتمة، مختنقة بالركام والأنقاض وغبار الهدم، ومسكونة بمدن تتحول إلى قبور لأهلها، وجغرافيا مفخخة أقرب للورطات منها للأوطان.
أسأل نفسي عن معنى الكتابة الإبداعية وسط كل هذا القتل، بل عن جدوى الكتابة طالما تعجز عن إنقاذ حياة إنسان. أراني أترنح بين الكفر التام بها والإيمان بقوتها وقدرتها على مواجهة العدم.
لا أزعم أنني توصلت إلى أجوبة أرتاح إليها؛ لا تزال الحيرة والتساؤلات والارتباكات هي المسيطرة، ليست حيرة بشأن موقفي الإنساني والشخصي بطبيعة الحال، ما يحيّرني هو الفن: أسئلته ومتطلباته وحساسيته تجاه المباشرة والضجيج.
أعرف، بشكل غامض، أني سوف أكتب، يومًا ما، عمّا يحدث الآن. ربما عندما أجد حلولًا فنية لأسئلتي المؤرّقة. أصبِّر نفسي بأن أهم الكتابات التي كُتِبت عن التحولات التاريخية، والأهوال المرعبة، احتاجت وقتًا كي تنضج، بل وأحيانًا كتبها من لم يعايشوها. أتكلم هنا عن الفن لا الوثيقة أو الشهادة أو محاولات الرصد. أقصد هنا الكتابة بصوت الضحايا وعنهم، لا المتاجرة بأوجاعهم والتسلق على عظامهم من أجل مجد أدبيّ متوهم.
أسأل نفسي في النهاية: هل من الترف الانشغال بالشرط الجمالي في زمن المذبحة وأنهار الدّم؟!
وأجيب كمن يفكّر بصوت عالٍ: ربما، لكن ما سبق وتعلمناه، من تجارب من سبقونا، أن الرداءة الفنية لن تضيف جديدًا، وأن البروباغندا ستظل بروباغندا حتى لو سُخِّرت لصالح قضية عادلة.