التحديث والهوية
لا شك أن التعقيب الكتابي على أفكار وردت في حوار، مثل حوار المؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط مع مجلة “الجديد”، يتضمن قدرا كبيرا من احتمال عدم الإنصاف وحتى سوء الفهم، بالنظر إلى أن المعقّب في مثل هذه الحالة يعتمد الكتابة بما توفّره من فسحة زمنية قد تكون كافية، في مقابل أفكار يجعلها سياقها الحواري تخضع نتيجة لذلك لقيود مجحفة في حق المحاوَر، من مثل ضرورة الاختصار والارتجال أحيانا وضغط عامل الوقت، وهي عوامل تقتضي الأمانة العلمية أخذها بعين الحسبان.
في هذا الحوار الشيق تعود أهم القضايا التي شغلت الفكر العربي ولا تزال، لا سيما تلك التي ما فتئت تؤرقه منذ عصر النهضة والتي لخصها شكيب أرسلان، في الثلاثينات من القرن الماضي، في عنوان كتابه الشهير ” لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟”، ذلك السؤال الذي يكاد أن يكون الفكر العربي الحديث ليس غير محاولة الإجابة عنه على هذا النحو أو ذاك، وإن صار ينبغي اليوم، في الحقيقة، إعادة صياغته على النحو التالي “لماذا تأخر العرب؟ ولماذا تقدم غير العرب من المسلمين”. ذلك أنه لم يعد بالإمكان اليوم تعميم ظاهرة التخلف على عموم المسلمين بالنظر إلى التقدم الذي حصل لدى عدد من البلدان الإسلامية، مثل تركيا وماليزيا وأندونيسيا، بل وحتى إيران فيما يخص المجال العسكري. وهذا الوضع، الذي يبطل الرأي الذي نجده عند بعض الدارسين والمستشرقين الغربيين، وأيضا لدى طائفة كبيرة من المثقفين العرب، والقائل بوجود صلة بين الدين وتخلف العالم الإسلامي، يتوافق مع ما ذهب إليه هشام جعيط الذي ينتقد بهذا الصدد، في حواره، “قول البعض بوجوب الابتعاد عن الدين” كشرط لتحقيق “التحديث الذي يجب أن يفكر فيه المفكرون (والذي) هو التحديث الصناعي والتكنولوجي”. على أن تأكيد هشام جعيط بأن ذلك لا يقتضي أيضا إعادة النظر في فهمنا للدين، كما يمكن أن نفهم ذلك من قوله بأن “القيام بتصنيع قوي وجريء (…) هي القضية الأساسية وليس تأويل الفقه والحديث والكلام…” أمر قابل للنقاش. فهذه النظرة تتسم، من وجهة نظرنا، بطابع “تقنوقراطي”، لا تأخذ بعين الاعتبار العامل البشري، ونقصد به هنا عامل الوعي والالتزام الذي يمثل شرطا لا مندوحة عنه لأيّ عملية تحديثية إذا ما أردنا تفادي إعادة إنتاج الإخفاقات التي منيت بها التجارب التصنيعية التي رافقت السنوات الأولى للاستقلال في مصر و الجزائر وفي غيرهما من البلدان العربية، والتي يرى محمد أركون أن أحد أسباب فشلها يعود إلى كونها سعت إلى التحديث دون حداثة. ومثل هذه النظرة “التقنوقراطية” لـ”التحديث” تفسر محدودية فعالية “النخب العربية” نتيجة عدم تواكب “التكوين” و”الوعي” لديها، ولهذا نجد، كما يؤكد أركون، أن “المهندس ومفتش الضرائب والطبيب وأستاذ الجامعة والوزير إلخ.. يعيشون بالتأكيد رفاهية ‘حديثة’ جدا. ولكنهم يستمرون في الخضوع لنفس القوى الانفعالية ولنفس التصورات ‘الدينية’ ولنفس أنظمة العقائد الإيمانية والأعراف الاجتماعية والقيم الأخلاقية-القانونية مثلهم في ذلك مثل الفلاحين والرعاة والعمال والحرفيين وحتى معدي حرفة العمران والخطط الاقتصادية الحديثة” (1).
ويظهر تركيز هشام جعيط على العامل المادي (التصنيع والتكنولوجيا) كأساس للخروج من التخلف أكثر منه على العامل البشري (ضرورة أن يرافق التحديث وعي وسلوك “حداثيان”) في قوله بأن “الحداثة التي حصلت في أوروبا مقامة أولا وبالذات على الاقتصاد، والثورة الصناعية (فهذه) هي حداثة أوروبا”، وكذلك في قوله بأن “النهضويين الأصليين” كانوا “يرون أن التحديث هو تحديث في الفكر والإصلاح الديني وفي أمور من هذا القبيل”. بالنسبة إلينا تبدو العملية متكاملة لا ينفصل فيها التحديث عن وعي الحداثة، شرط ألا نفهم هذه الأخيرة كقطيعة عن الهوية، وهي النقطة المهمة والأساسية التي أشار إليها هشام جعيط حين تحدث عن ” الترابط بين الهوية، (…) أي الهوية العربية-الإسلامية في كل العالم العربي والإسلامي، ومشكلة الحداثة”، يعني بذلك جعيط ضرورة “التوازن بين الهوية من جهة والحداثة من جهة أخرى”، وهي النقطة التي أغفلها “الحداثيون” العرب، الشيء الذي يفسر غياب تأثيرهم شعبيا وجماهيريا وانغماسهم في صراعات أيديولوجية مدمّرة شكلت ولا تزال أحد معوقات التغيير والتحول نحو الديمقراطية في العالم العربي. غير أن القول بضرورة الربط بين “التحديث” و”الهوية” يعني أيضا من وجهة نظرنا أنه لا بكفي المثقف”لكي يُسمع من الناس ويكون لهُ صدى، (…) أن تكون لهُ أعمال معتبرة من طرف الناس ومحترمة”، أو أن يكون له، مثلما يرى إدوارد سعيد أيضا، “رأي يدلي به في خصوص الشأن العام: الشأن العام الوطني فقط أو الشأن العام الأعم، أي العربي وحتى الإسلامي…”، فبالرغم من أن كل ذلك يمثل بالفعل مطلبا لا مناص منه، إلا أنه لا بد لهذا المثقف في ذات الوقت أن تكون صورته، قولا وسلوكا، ذات مصداقية، يعني أن تتوفر فيه ما يمكن تسميته بالشرط الأخلاقي، وأن تتضمن صورته أيضا جوهر وروح القيم الفاعلة في الجماهير حتى ترى هذه الأخيرة بهذه الدرجة أو تلك ذاتها في صورة هذا المثقف. فما أحوجنا في هذا الزمان إلى المثقف القدوة وإلى السياسي القدوة، يعني إلى أنموذج نخبوي غير منفصم الشخصية، تتجسد فيه وحدة الخطاب والسلوك. ولهذا السبب، ومن دون أن نكون من الداعين إلى نموذج وحيد وأحادي من المثقفين، يبدو لنا من الأهمية بمكان أن يظهر من صلب الخطاب الديني الإسلامي مثقّفون متشبعون بالحداثة، وذلك لأن “تأثير الإسلام، على كل أصعدة الوجود، الفردي والجماعي، كان دائما ثابتا، عميقا، مستمرا حتى يومنا هذا” (2). فمن هو المثقف المؤهل أكثر للتأثير والتبشير بين الناس بالوحدة بين “التحديث” و”الهوية” إن لم يكن “المثقف الإسلامي” الذي يمكن أن تكون صورة محمد عبده أو الكواكبي نموذجا له؟ لكن هذا يقتضي أيضا، من بين أمور أخرى، مراجعة برامج التكوين في مختلف كليات الشريعة وأصول الدين وجامعاتها كالزيتونة والأزهر والقرويين والأمير عبدالقادر. نريد أيضا أئمة وفقهاء يعرفون الدين لكن أيضا الفلسفة والتاريخ والعلوم.
بالإمكان أن نتساءل إن كان “الوعي الجمعي العربي” هو من تسبب في إحباط محاولة الجماهير العربية، انطلاقا من بداية سنة 2011، تحقيق مبدأ الشرعية في الحكم أم هي القوى المضادة المحلية، العربية و الخارجية
والحق أن الدعوة إلى الربط وإلى التوازن بين الحداثة والهوية التي يدعو إليها هشام جعيط تقلل في نهاية المطاف من الطابع “التقنوقراطي” لتصوره الخاص لما يسميه التحديث، لكنه لا يبدو بأنه يرى في ذات الوقت ضرورة إعادة قراءة هذه الهوية طالما أنه لا يرى في “تأويل الحديث والفقه والكلام..” مطلبا أساسيا. وهو بذلك يختلف عن تصور محمد أركون الذي يؤكد بأنّ فهم الظاهرة الدينية على ضوء المنهج التاريخي وغيره من مناهج العلوم الإنسانية في المجتمعات الإسلامية ماضيا وحاضرا، وذلك بالنظر إلى التأثير الكبير للإسلام على مختلف الأصعدة في هذه المجتمعات، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك أعلاه، أمر لا مفر منه إذا ما أردنا الخروج من مختلف أشكال التخلف الذي يرزح على هذه المجتمعات.
لكن تبقى كل هذه الملاحظات قابلة للخطأ والتمحيص، بحكم أنها عبارة عن قراءة لمصدر يتمثل في حوار تحكمه كما سبق وأن أوضحنا إكراهات من شأنها أن تؤدي إلى سوء الفهم وإلى سوء الاستنتاج.