التراجيديا الإنسانية والمشهد الروائي
ترصد روايات محمود حسن الجاسم الوضع السوري انطلاقاً من إصداره روايته الأولى “غفرانك يا أمي” (الدار العربية للعلوم 2014)، والتي كانت بوابة ولوجه لكتابة روائية تدرجت نحو التعمق والوضوح؛ من ميول للمواربة في الرؤية إلى الوضوح، ومن كلاسيكية الأدوات إلى الحداثة والفنية.
مآلات حالة
تعد رواية “نزوح مريم” (دار التنوير- 2015) من الروايات التي غاصت عميقاً في المشهد السوري مبرزة اختلافاته وتنوعاته وتناقضاته ومآلاته، بعد روايتيه السابقتين اللتين تحدثتا كذلك عن الوضع السوري الملتهب.
منذ العتبة السردية الأولى (العنوان) يواجه القارئ علامتي دلالة تأويلية وهما النزوح ومريم ولكليهما مدلوله الذي يتكئ على مرتكزين هما: الموروث الثقافي والديني والحاضر الآني المتصل بالراهن السياسي السوري.
يتلوها بعتبة سردية ثانية وهي الإهداء، فالرواية تقدم على أنها وصية أو حكاية النزوح التي ستحكي الأم سارة قصتها لابنتها مريم كي تبرّئ ذاتها بسبب خيارها في النزوح!
البناء السردي
يغرف الكاتب من أدوات الحداثة ما يمكّن نصه من اختراق الجديد ومغادرة ما ينعته بالكلاسيكية، أو التقليد .بدايةً؛ يعتني بالعنوان، فيجعله في كلمتين دالتين ترافقان القارئ منذ بداية القص حتى نهايته .من ثم الاقتداء بمسيرة الكتابة السردية الجديدة بالتمهيد في إهداء الرواية بما يسمّى بالعتبة السردية الثانية فكانت تلك العتبة مفتاح القصة والمؤشر على جنس الراوي ولغته وأشخاص الرواية.
بعد أن وجد الكاتب ركيزة بناء السرد سينطلق باتجاه القص ذاته، فالساردة الراوية هي الأمّ، تسرد لابنتها قصة طويلة تمتد عبر 236 صفحة تخبرها عن أسباب نزوحهما وكيف بدأت تلك الأسباب وكيف انتهت بهما وبسوريا!
يراوح الفضاء النصيّ الزمني بين زمنين هما الحاضر الذي يشمل أحداث التظاهر ورد النظام العنيف على المتظاهرين، وتسلح المعارضة ودخول داعش، وهي كلها أحداث مؤلمة سوداوية، والزمن الثاني هو الماضي؛ حيث تلون الراوية قصصه بذكرياتها مع زوجها وأصدقائهما والرقة وأهلها سابقاً وأحاديث دارت بينها وبين زوجها.
يزاوج الكاتب في عملية تداخل جمالية بين الحدث المؤلم والحدث الحالم بأن يجعل عملية السرد التي تقوم بها الراوية أقرب إلى سرد اللاوعي فتتنقل في سلسلة متتالية من السرودات، مرة تنعى الحاضر وتربط النعي بالماضي الحالم، فيخرج نص الكاتب موشّى متداخلاً متناغماً مهيئاً القارئ لعملية القراءة المتلاحقة محاولاً قص أجنحة الملل أو خذلان فعل القراءة.
المشهدية السينمائية
يدير الكاتب قرص السينماتوغراف (Cinematographe) ليطلعنا على صندوق دنيا مدينة الرقة فيلوّنه بمشاهد وصف حركي، يقارب النص من المشهدية السينمائية، مبتعداً عن الوصف الساكن .فيتعمد منافسة أدوات الميديا الجاذبة بأن يخلق حياة متحركة من خلال صور الأولاد العفاريت والجرارات وصوتها بينما تمر في الطريق، وكيف تتعاون النسوة الرقاويات لغسل جدران شقة المدرّسات المنتدبات إلى ريف الرقة للتعليم .كما يصف لسع الناموس للمدرسات الوافدات للرقة وكيف يؤرقهن حر الرقة ولسع الناموس ..(ص12-13).
والكثير من الأوصاف التي يمكن لوافد إلى الرقة أن يلحظها لكونه يرى مشاهد حسيّة جديدة، فيحركها محرك أسئلة تبحث عن أجوبة من مثل كيف لنسوة كهؤلاء يتعبن طيلة النهار في قطف القطن وزراعة الحقول ثم يجلسن يتسامرن ويضحكن كما لو أن تعب النهار قد تبدد وزال (يتعبن، يجهدن ..في المساءات تتحول الحكايات إلى عذوبة لذيذة فياضة في نفوس الفراتيات…)!
ديموغرافيا التنوع
لا بد من الحديث عن المعلومة الديموغرافية المقدمة في النص، التي يحتاجها متابع من خارج سياق الفضاء الجزيري (الرقة- دير الزور- الحسكة- ريف حلب)، تأتي أهمية المعلومة من كونها أتت من عارف بالمنطقة لأنه ابنها من جهة ومن جهة ثانية كونها معلومة ديموغرافية قُدِّمت بعين الوافد (المدرِّسة المسيحية ابنة محردة)، فتتحدث عن (سكان مزرعة النجاة وانتمائهم، الخليط الاجتماعي، تقبلهم لوجود الفتاة المحرداوية المسيحية، البدو..).
تتحدث عن المرأة الفراتية وكونها مكوناً ديموغرافياً غير مهمّش من ناحية الفعالية والعمل، فهن يتلثمن من حرّ الشمس، وينزلن للحقول، فيتعبن ويجهدن غير مترفات يحاصرهن شقاء متنوع الوجوه (حرارة الشمس، حجم العمل والطنين الجهنمي للبعوض).
يعرض أسماء وصفات طعام الرقة، في محاولة لتوثيق حضارة شعب، وفي محاولة أخرى يرصّع النص بكلمات أغان فراتية من مثل الكلاحي والموالي.
يصر على التنوع في الحضور الرقاوي وأنه يطال كل شيء في الرقة، إلى درجة أن تقرأ خديجة أم زوج سارة القرآن ليرتاح صدرها من عنف وألم ما تشهده المنطقة ثم تتبع تلاوة القرآن بأغنية من الموّاليات.
تُظهر هذه المعلومات الديموغرافية تمكّن الكاتب من رؤية المنطقة وهو ابنها بعين الوافد فينتقد ويفارق ويقارن!
الرؤية المحايدة
لوحة: نوار حيدر
إن تبئير الكاتب لوجهة النظر من خلال عين ولسان امرأة لا علاقة لها في السياسة أو التفكير المؤدلج، يتيح لأحداث الربيع السوري أن تظهر رؤية خارجية للحدث تسير معه منذ التشكل والانطباع الأوّليين.
المرأة اسمها سارة، مسيحية من محردة الحموية، تزوجت منذ سنوات برجل مسلم من أهالي مدينة الرقة، ويقطن في شارع المنصورة المترف مادياً والمعروف ببقائه على الحياد في أثناء التظاهر ضد النظام في بداية الثورة السورية.
زوج سارة المحسوب على الحكومة لعمله في مديرية الزراعة، يقف ضد عنف النظام في الردّ على المتظاهرين، ولكنه يكتفي بالشجب بين جدران منزله وخصامه لأخيه الشبّيح، وذلك اعتقاداً منه أنه يريد تجنّب شر النظام .بينما أخوه ينخرط إلى أقصى الموالاة والمحاباة لموقف النظام السوري في حق الرد على المتظاهرين بتعنيفهم وقتلهم.
سارة التي تقف مشاهدة لخلافات زوجها وأخيه، تضعها الظروف في موقف المشاهدة أيضاً لمظاهرة مسالمة يُطلق الرصاص عليها من قبل رجال النظام وتسمع للهجاتهم المغايرة للهجة أهل الرقة، ثم إنهم يعتقلونها ويسيئون إليها ويشتمونها.
سارة تشاء الظروف أن تشاهد عنف مجموعة من الثوار الذين يقررون الانتقام لأبنائهم من الشهداء باقتحام منزل سارة ذاتها لأجل اعتقال شقيق زوجها ولكنهم يعتقلون زوجها ضمن ظروف فوضى وبعضهم يعلم أنهم يعنفون “هاشم” وليس “بشير الشبيح” ولكنهم في حالة انتقام وفوضى وغضب.
سارة تسمعهم كيف يشتمونها هي وأمّ زوجها ويضربونهما أمام طفلتها، كما يعذبون زوجها ويختطفونه بينما هو ينزف.
كما أنها تشهد دخول داعش للرقة، وتَسَلُّمَهم أمر المنطقة وظلمهم للبشر، واستخدامهم لنسوة ورجال من أصحاب السوابق والسمعة السيئة لأجل إطلاق أيديهم بالمدنيين .تفقد كل المحيطين بها وتقرّر النزوح مع ابنتها إلى محردة.
تشكل هذه الرواية (التي دخلت القائمة الطويلة للبوكر في العام 2016) إضافة جديدة في قراءة المشهد السوري، حيث استطاعت تقديم عدد من وجهات النظر المختلفة مبرزة التنوع الذي شهدته الحالة الاجتماعية.
بالأبيض والأسود
تعتمد رواية “نظرات لا تعرف الحياء” (الصادرة عن الدار العربية ناشرون، بيروت، 2015) على أحداث سياسية جرت في الواقع السوري أيام الثمانينات من القرن العشرين، من مثل تأثير أحداث حماة آنئذ على الشارع في حلب حيث بات أكثر هدوءاً، وكيفية تغير المزاج من الحجاب، ودورات المظليين الشبيبية وصولاً إلى التسعينات من القرن الماضي حيث موت باسل الأسد وتجديد البيعة لحافظ الأسد، ويحاول الكاتب عبر تقنية الميتاسرد غرس الواقع في نصه كي ينبت فضولاً لدى القارئ يوحي بحقيقية الحكاية الخام، ومن ثم جذبه للنص من خلال عملية إيهام بشجاعة الراوي.
تتمحور حكاية “نظرات لا تعرف الحياء” المركزية حول شخصية الشاب “حازم”، فتبدأ سردها بوصف طويل لاجتهاده في تحقيق حلمه بالزواج من خطيبته ونيل عمل محترم في الجامعة، لكن خطيَّة السرد تنكسر نتيجة تعرض حازم لحادث سير يحيله إلى رجل مشوّه، منبوذ اجتماعياً، بأحلام محطّمة .أصيب بذلك الحادث نتيجة رعونة أحد أبناء أولاد المتنفذين من خلال قيامهم (بالتشفيط) بسيارات الدولة التي وضعت تحت تصرف الأب، وهي حادثة تتكرر بين فترة وأخرى، وقد تحدثت الكثير من الروايات عن مرحلة الثمانينات من القرن الماضي في رغبة لقراءة هذا التاريخ لعل آخرها رواية فواز حداد ومن قبله خالد خليفة.
إيجابي أم سلبي؟
يتبنى الروائي عبر الراوي سياسة الحياد والاكتفاء بالتوصيف، مفسحاً المجال لسير الأحداث ووجهة نظر المتلقي للظهور، معتمداً تقنية الميتاسرد بأن يجعل النص بين يدي مدقق لغوي ينشر ما لديه من أوراق اختفى كاتبها الأساسي ووجد أن من واجبه نشر النص لأهميته وإكمالاً لرسالة كاتبها، تختلط التقنية الميتاسردية بالحدث الكلاسيكي فيظهر لدينا نص مكتمل من ناحية الحدث وأدوات السرد، لكنه يفتقر لأهم عنصر تلهث وراءه تقنية الميتاسرد وهي حدة التشويق في الحدث، منحازاً لعرض أوراق الشخوص والأحداث، متيحاً لـ”تعدد الأصوات” (باختين)، الظهور في نصه، لكنه يعكس في الوقت ذاته بعض ثيمات هذه المرحلة كالبقاء للأقوى، كما يدوّن سيادة الناموس الاجتماعي الرافض والطارد لشعوذة حازم المعوق جسدياً دون النظر إلى أسباب ما وصل إليه حازم من ظلم، أو محاولة مد يد المساعدة له وتغيير وجهة تفوقه في كشف الغيب والمستور من أحوال الناس إلى وجهة تفيد المجتمع.
حلب قصدنا
قراءة في رواية "نزوح مريم"
المكان هو حلب، حيث استفاض الكاتب في وصفها على لسان الشخوص والراوي كما لو أنها الجنة على الأرض، (ها هنا لا بد من تذكر عشق وليد إخلاصي لحلب)، فيذكر رائحة الشوارع والنسائم والغيوم والنبات والأبنية بطريقة تفصيلية جداً، لكنه أيضاً، عندما ينتقل ليقاطع بين مسار الحدث وحسية المكان الروائي الجامد، يتلون المكان الرئيس حلب بين (المكان الشعبي البسيط) أي حارة حازم الأساسية التي تلفظه مع شعوذته، وبين (المكان المترف المعقد) أي حارة الفيلات في حلب الجديدة المهيأة لاستقباله حيث لا أحد يتدخل بالآخر، والفساد المتأصل بالمسؤولين الذين يقطنون المنطقة أساساً، إلا أن نهاية الرواية تنحاز للمكان حلب بصيغته العامة الجامدة .فيلفظ الكاتب التماس بين مسار الحدث وجمود صيغة المكان التي تفترض مجازاً، ولادة صيغة ثالثة مبتكرة، بأن ارتد الكاتب إلى الصيغة العامة الأولى للمكان، غير متأثرة بمسار الحدث، فحازم يُقتل وتَغسل الأمطارُ حلبَ وترتفع مآذنها ممهدة لبداية جديدة، كما لو أن وجود حازم هو المشوِّه الوحيد فيها، وكما لو أنه لم يكن نتيجة بل سبباً!
شخصيات وأفكار
يرصد الكاتب، على مستوى الأفكار، عدداً من الموضوعات المختلفة المرافقة لمركزية شخصية حازم، والمتمثلة في حضور حزب البعث في حياة السوريين، فيترك المجال مفتوحاً للمقارنة بين رجال الأمن والحزبيين، وبين حزبيي المنافع وحزبيي الأيديولوجيا، وكيف أن السلطة في سوريا قد استبعدت متقصدة حزبيي الأيديولوجيا بحزبيي المنافع كي يسهل شراؤهم وتمرير ما تريده من خلالهم.
شخصيات الرواية ليست شخصيات نقيَّة أو شريرة في المطلق، خليط بين الخير والشر، تساهم موهبة حازم في كشف المستور من أحوال الناس في إظهار عيوب جميع من حوله، لكن تبقى أخطاؤهم متباينة بين الذي لا يتوب والتائب، يقول والد حازم بصيغة عامية “كل بشر عنده أخطاء ..يخفيها بدافع أخلاقي، حتى يكون أفضل ولا يخفيها ليمارس الدجل! ..هؤلاء الذين لهم وجهان ..هؤلاء أنذال ..كلاب” .يزعزع الكاتب مفاهيم المطلق والنسبي بذكر أخطاء الشخوص فيخلق أسئلة لدى القارئ .فالأخطاء من الشرير إلى الأكثر شراً، بين أخت حازم العاشقة، وشيخ حلب الأشهر الذي ارتكب الزنا، إلى والد حازم الذي خان زوجته واعتقد أن وفاءه لأيديولوجيا حزب البعث الذي اعتنقه يوماً، هو جادة الصواب؛ فيصفق ويدبّك ويحتفل في كل احتفالات الدولة الحزبية وينعى مطولاً موت باسل الأسد ابن رئيس دولته .ومن ثم تتبلور الأخطاء لتصبح أكثر سوداوية بارتكابات رؤساء فروع الأمن ورجالات الدولة القتل والتعذيب في السجون للمعتقلين، والغريب في النص اتفاق حلب بمختلف انتماءاتها على أن شرّها المكثف هو حازم كأنها تريده مشجباً تعلق عليه آثامها، فنجد رجالات الدولة يحذّرون حازم بألا يتجاوز حدوده ومهنته (الشعوذة)، فقد بدأ يغضب الرؤوس الكبيرة في البلد، كما أغضب أهالي حلب، لينتهي الأمر بقتله، ليصل القارئ كما الكاتب ربما إلى ما ملخصه: يا للبلاد التي يخيفها مشعوذ! يا للبلاد التي لا تجد طريقاً للحوار بغير القتل.