التفرج على المشهد
يغلب ظني، أن الأدب يمتص مفارقات الواقع والحياة، ويعيدها عبر الذات ملونة، متخذة عدة مظاهر، وفي نفس الآن مبرزة عدة أبعاد، بالتركيز على ما هو إنساني كمبتدأ ومنتهى، لرحلة ذات حس زماني ومكاني.
في هذا الصدد، يمكن أن نستحضر الكثير من التجارب الإبداعية في تاريخ الأدب العربي، نخص منها تلك الصادحة بقيمها وأفقها في عصر المدينة العربية في المرحلة العباسية. فكان المبدع آنذاك يخوض صراعا متعدد الأوجه مع المنظومات والأنساق، مع الموروث الأدبي نفسه كضوابط ورسوخ، مع السلطة التي تسعى أن تحيط وتحوط بها كل شيء وخاصة الأفواه التي تغنّي مع الريح والعواصف. وفي المقابل، أحدث الأدب مع أصوات جديدة آنذاك، مجراه الصادح والمجهر بقيم التبدلات كرافعة للحرية وفضاء الحياة الجدير بالسؤال الذي ينسّب الحقائق ويعمّق المعنى.
الآن، في العالم العربي، هناك تبدلات كثيرة تواكبها فظائع وكوارث، وغدت الحياة المجتمعية غاصة بالمواقف والحالات الغريبة التي تشي بالكثير من العبث واللامعنى.وكلما طفحت إلى سطح النظر أو على ساحة الركض ظواهر وإفرازات لواقع مركب كالحرب والانتخابات والمشهد السياسي والثقافي.. ترى الأدب منزويا وموغلا في عزلته إلى حد يمكن القول معه إننا أمام فئة من المبدعين والمفكرين اختاروا النظر من بعيد، والتفرج على المشهد الذي يعيد نفسه في ضجر قاتل.
كثيرة هي الأسئلة التي تطرح، كلما طرحنا علاقة الأدب بالواقع، العلاقة القديمةـالجديدة: هل الأدب العربي يعارك العنف المحاذي له الخالي من الداخل، أعني داخل الإنسان كملكات ومقدرات يمكن أن تمتد للآخر بالسلب أو الإيجاب، أي الخالية من القيم الإنسانية تحت ضربات المصلحة الخاصة والغريزة والفردية المقنعة.. أو على قدر من الاعتراف والعمل مع الآخر كامتداد طبيعي لذاتي وإنسانيتي. نعم يمكن أن نقرأ فلسطين بصيغة أخرى أعمق في أثر الشاعر محمود درويش، وأن نقف على الأصل وآفة التمدن (النفطي) في خماسية «مدن الملح ” مع الروائي عبدالرحمن منيف، وعلى تبدلات الحياة الاجتماعية والقيمية مع الروائي محمد برادة، أو إدراك العراقيل التي حالت وتحول دون تحقيق الدولة الحديثة في سردية عبدالله العروي.. لكن كثيرة هي المظاهر الساقطة من أدبنا، مظاهر تجري بيننا إلى حد الاستفزاز، أذكر هنا الشكل الانتخابوي الغاص بالمفارقات، والممارسات الدينية بالأضرحة التي تتحول إلى سوق للشهوة النابحة، ومواسم الفروسية المعتصمة بحبل القبائل، وواقع الجريمة والتقاتل.. هي بالفعل أحداث وقضايا مجتمع، تقتضي ملامسة سوسيولوجية وأدبية حتى نستطيع تلمّس ملامح حياة بصيغ مختلفة ومتعددة التوظيف؛ أي أن نشتم الرائحة في الأدب التي بإمكانها أن تخلق بعدها الإنساني.
لا يعقل أن نرى الواقع العربي في واد أو في انحدار دائم؛ ونقرأ حالات أخرى في الأدب مفارقة تماما. لا أدعو هنا إلى تصوير فوتوغرافي للوضعية، بل إلى الاشتغال على هذه المداخل المقلقة والمستفزة، واللعب بها ومعها للاستبطان؛ وبالتالي إبراز نواة التفكير فيها. آنذاك سيبدو الأدب قلقا ومثيرا للأسئلة، وباحثا عن أفق آخر من الانعتاق والانطلاق الذي لا ينفي الخصوصيات والتجارب الخاصة ذات الحس الدقيق بالمرحلة.
لا أنفي هنا بعض التجارب الإبداعية في اشتغالها على هذه المفارقات والتبدلات، وبالأخص منها ما هو سردي. لكن الأحداث واليومي يفقد سخونته كما قال برادة ذات لقاء كلما حولناه إلى لغة تقتضي من المبدع جهدا وعرقا لتطويعها، لتنبسط مجرى ومعبرا سلسا لهذا المحيط المستفز والمكتظ.
نحن في حاجة إلى فضح مستوعب، وسخرية تضرب على القفا، بما في ذلك قفا اللغة الخادعة التي تلهو بالأسئلة الحارقة باسم المجاز الغافل والمتراخي بما يليق والأنانيات الموصدة.
نحن في حاجة إلى مطاردة هذا العبث اليومي، كما يطاردنا ويحاصرنا في أجسادنا، وفي كل الأحوال يجثم على صدورنا وأنفاسنا بكامل خوائه وطلائه. نطارده، لنشهد عليه، ونخوض معه معركة الضرب المتبادل. لكن شتان بين ضرب العقل والإبداع والضرب المتخشب الذي لا يد له ترى، ماعدا هذه الجعجعة التي تعلو على كل صوت آت من أسفل !