التفرج‭ ‬على‭ ‬المشهد

الاثنين 2016/08/01
لوحة: بهرام حاجو

يغلب ظني،‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬يمتص‭ ‬مفارقات‭ ‬الواقع‭ ‬والحياة،‭ ‬ويعيدها‭ ‬عبر‭ ‬الذات‭ ‬ملونة،‭ ‬متخذة‭ ‬عدة‭ ‬مظاهر،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الآن‭ ‬مبرزة‭ ‬عدة‭ ‬أبعاد،‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إنساني‭ ‬كمبتدأ‭ ‬ومنتهى،‭ ‬لرحلة‮ ‬‭ ‬ذات‭ ‬حس‭ ‬زماني‭ ‬ومكاني‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستحضر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬نخص‭ ‬منها‭ ‬تلك‭ ‬الصادحة‭ ‬بقيمها‭ ‬وأفقها‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬المدينة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬العباسية‭. ‬فكان‭ ‬المبدع‭ ‬آنذاك‭ ‬يخوض‭ ‬صراعا‭ ‬متعدد‭ ‬الأوجه‭ ‬مع‭ ‬المنظومات‭ ‬والأنساق،‭ ‬مع‭ ‬الموروث‭ ‬الأدبي‭ ‬نفسه‭ ‬كضوابط‭ ‬ورسوخ،‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬أن‭ ‬تحيط‭ ‬وتحوط‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وخاصة‭ ‬الأفواه‭ ‬التي‭ ‬تغنّي‭ ‬مع‭ ‬الريح‭ ‬والعواصف‭. ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬أحدث‭ ‬الأدب‭ ‬مع‭ ‬أصوات‭ ‬جديدة‭ ‬آنذاك،‭ ‬مجراه‭ ‬الصادح‭ ‬والمجهر‭ ‬بقيم‭ ‬التبدلات‭ ‬كرافعة‭ ‬للحرية‭ ‬وفضاء‭ ‬الحياة‭ ‬الجدير‭ ‬بالسؤال‭ ‬الذي‭ ‬ينسّب‭ ‬الحقائق‭ ‬ويعمّق‭ ‬المعنى‭.‬

الآن،‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬هناك‭ ‬تبدلات‭ ‬كثيرة‭ ‬تواكبها‭ ‬فظائع‭ ‬وكوارث،‭ ‬وغدت‭ ‬الحياة‭ ‬المجتمعية‭ ‬غاصة‭ ‬بالمواقف‭ ‬والحالات‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬تشي‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬العبث‭ ‬واللامعنى‭.‬وكلما‭ ‬طفحت‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬النظر‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬الركض‭ ‬ظواهر‭ ‬وإفرازات‭ ‬لواقع‭ ‬مركب‭ ‬كالحرب‭ ‬والانتخابات‭ ‬والمشهد‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي‭.. ‬ترى‭ ‬الأدب‭ ‬منزويا‭ ‬وموغلا‭ ‬في‭ ‬عزلته‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬معه‭ ‬إننا‭ ‬أمام‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬والمفكرين‭ ‬اختاروا‭ ‬النظر‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬والتفرج‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬ضجر‭ ‬قاتل‭.‬

كثيرة‭ ‬هي‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تطرح،‭ ‬كلما‭ ‬طرحنا‭ ‬علاقة‭ ‬الأدب‭ ‬بالواقع،‭ ‬العلاقة‭ ‬القديمةـالجديدة‭: ‬هل‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬يعارك‭ ‬العنف‭ ‬المحاذي‭ ‬له‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬أعني‭ ‬داخل‭ ‬الإنسان‭ ‬كملكات‭ ‬ومقدرات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬للآخر‭ ‬بالسلب‭ ‬أو‭ ‬الإيجاب،‭ ‬أي‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬تحت‭ ‬ضربات‭ ‬المصلحة‭ ‬الخاصة‭ ‬والغريزة‭ ‬والفردية‭ ‬المقنعة‭.. ‬أو‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬والعمل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬كامتداد‭ ‬طبيعي‭ ‬لذاتي‭ ‬وإنسانيتي‭. ‬نعم‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬فلسطين‭ ‬بصيغة‭ ‬أخرى‭ ‬أعمق‭ ‬في‭ ‬أثر‭ ‬الشاعر‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬وأن‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬الأصل‭ ‬وآفة‭ ‬التمدن‭ ‬‭(‬النفطي‭)‬‭ ‬في‭ ‬خماسية‮ ‬‮«‬مدن‭ ‬الملح‭ ‬”‭ ‬مع‭ ‬الروائي‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬منيف،‭ ‬وعلى‭ ‬تبدلات‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والقيمية‭ ‬مع‭ ‬الروائي‭ ‬محمد‭ ‬برادة،‭ ‬أو‭ ‬إدراك‭ ‬العراقيل‭ ‬التي‭ ‬حالت‭ ‬وتحول‭ ‬دون‭ ‬تحقيق‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬سردية‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي‭.. ‬لكن‭ ‬كثيرة‭ ‬هي‭ ‬المظاهر‭ ‬الساقطة‭ ‬من‭ ‬أدبنا،‭ ‬مظاهر‭ ‬تجري‭ ‬بيننا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الاستفزاز،‭ ‬أذكر‭ ‬هنا‭ ‬الشكل‭ ‬الانتخابوي‭ ‬الغاص‭ ‬بالمفارقات،‭ ‬والممارسات‭ ‬الدينية‭ ‬بالأضرحة‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬للشهوة‭ ‬النابحة،‭ ‬ومواسم‭ ‬الفروسية‭ ‬المعتصمة‭ ‬بحبل‭ ‬القبائل،‭ ‬وواقع‭ ‬الجريمة‭ ‬والتقاتل‭.. ‬هي‭ ‬بالفعل‭ ‬أحداث‭ ‬وقضايا‭ ‬مجتمع،‮ ‬تقتضي‭ ‬ملامسة‭ ‬سوسيولوجية‭ ‬وأدبية‭ ‬حتى‭ ‬نستطيع‭ ‬تلمّس‭ ‬ملامح‭ ‬حياة‭ ‬بصيغ‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتعددة‭ ‬التوظيف؛‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬نشتم‭ ‬الرائحة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬التي‭ ‬بإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬بعدها‭ ‬الإنساني‭.‬

لا‭ ‬يعقل‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬واد‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬انحدار‭ ‬دائم؛‭ ‬ونقرأ‭ ‬حالات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬مفارقة‭ ‬تماما‭. ‬لا‭ ‬أدعو‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬فوتوغرافي‭ ‬للوضعية،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المداخل‭ ‬المقلقة‭ ‬والمستفزة،‭ ‬واللعب‭ ‬بها‭ ‬ومعها‭ ‬للاستبطان؛‭ ‬وبالتالي‭ ‬إبراز‭ ‬نواة‭ ‬التفكير‭ ‬فيها‭. ‬آنذاك‭ ‬سيبدو‭ ‬الأدب‭ ‬قلقا‭ ‬ومثيرا‭ ‬للأسئلة،‭ ‬وباحثا‭ ‬عن‭ ‬أفق‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الانعتاق‭ ‬والانطلاق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬الخصوصيات‭ ‬والتجارب‭ ‬الخاصة‭ ‬ذات‭ ‬الحس‭ ‬الدقيق‭ ‬بالمرحلة‭.‬

لا‭ ‬أنفي‭ ‬هنا‭ ‬بعض‭ ‬التجارب‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬اشتغالها‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المفارقات‭ ‬والتبدلات،‭ ‬وبالأخص‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سردي‭. ‬لكن‭ ‬الأحداث‭ ‬واليومي‭ ‬يفقد‭ ‬سخونته‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬برادة‭ ‬ذات‭ ‬لقاء‭ ‬كلما‭ ‬حولناه‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬تقتضي‭ ‬من‭ ‬المبدع‭ ‬جهدا‭ ‬وعرقا‭ ‬لتطويعها،‭ ‬لتنبسط‭ ‬مجرى‭ ‬ومعبرا‭ ‬سلسا‭ ‬لهذا‭ ‬المحيط‭ ‬المستفز‭ ‬والمكتظ‭.‬

نحن‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬فضح‭ ‬مستوعب،‭ ‬وسخرية‭ ‬تضرب‭ ‬على‭ ‬القفا،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬قفا‭ ‬اللغة‭ ‬الخادعة‭ ‬التي‭ ‬تلهو‭ ‬بالأسئلة‭ ‬الحارقة‭ ‬باسم‭ ‬المجاز‭ ‬الغافل‭ ‬والمتراخي‭ ‬بما‭ ‬يليق‭ ‬والأنانيات‭ ‬الموصدة‭.‬

نحن‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬مطاردة‭ ‬هذا‭ ‬العبث‭ ‬اليومي،‭ ‬كما‭ ‬يطاردنا‭ ‬ويحاصرنا‭ ‬في‭ ‬أجسادنا،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬يجثم‭ ‬على‭ ‬صدورنا‭ ‬وأنفاسنا‭ ‬بكامل‭ ‬خوائه‭ ‬وطلائه‭. ‬نطارده،‭ ‬لنشهد‭ ‬عليه،‭ ‬ونخوض‭ ‬معه‭ ‬معركة‭ ‬الضرب‭ ‬المتبادل‭. ‬لكن‭ ‬شتان‭ ‬بين‭ ‬ضرب‭ ‬العقل‭ ‬والإبداع‭ ‬والضرب‭ ‬المتخشب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يد‭ ‬له‭ ‬ترى،‭ ‬ماعدا‭ ‬هذه‭ ‬الجعجعة‭ ‬التي‭ ‬تعلو‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬صوت‭ ‬آت‭ ‬من‭ ‬أسفل‭ !‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.